مراعاة أحوال الناس واجبة في الفتوى

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

مركز الخليج للدراسات

 

لعل أهم ما يلحظه المدقق في أحكام الشريعة الإسلامية هو تأكيدها ضرورة مراعاة أحوال الناس أثناء التعامل مع الأحكام الشرعية، من حيث إنهم ليسوا سواسية أمامها، على اعتبار اختلاف أحوالهم بين الصحة والمرض، وبين الحل والسفر . . إلى آخر اختلاف أحوالهم .

 

في هذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي: مراعاة أحوال الناس أثناء الفتوى أمر واجب، فحال الضيق غير حال السعة، وحال المرض غير حال الصحة، وحال السفر غير حال الإقامة، وحال الحرب غير حال السلم، وحال الخوف غير حال الأمن، وحال القوة غير حال الضعف، وحال الشيخوخة غير حال الشباب، وحال الأمية غير حال التعلم .

 

ويؤكد هذا المعنى الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق فيقول: المفتي الموفق هو الذي يراعي أحوال الناس ويميز بعضها عن بعض، ولا يجمد على حكم واحد، وموقف واحد، وإن تغيرت الأحوال .

 

وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة في مكة من أن يحملوا السلاح ليقاتلوا دفاعا عن أنفسهم، وهم يأتون إليه بين مضروب ومشجوج، ويأمرهم بالصبر وكف اليد، حتى إذا هاجر إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة أذن الله أن يقاتلوا، وإن الله على نصرهم لقدير .

 

وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يراعي أحوال أصحابه، فيخفف عن الضعفاء ما لا يخفف عن الأقوياء، وييسر على البدوي ما لا ييسر على الحضري .

 

وقد يرى المفتي أن يفتي لمستفت في موضوع بالتشديد، ويفتي لمستفت آخر في الموضوع نفسه بالتخفيف، فيشدد على هذا، أو يخفف على هذا؛ لاعتبارات يراها هو تتعلق باختلاف حال كل منهما، وروى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن القبلة للصائم فرخص لسائل ونهى سائلاً آخر عن القبلة أثناء الصيام، وبالبحث تبين أن أحد السائلين كان شيخًا فرخص له أن يقبل، وكان الآخر شابًا فنهاه عن التقبيل .

 

وقد كانت إجابات النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص لآخر، عن السؤال الواحد؛ لأنه كان يراعي أحوال السائلين، فيعطي الإجابة لكل منهم بما يلائم حاله .

 

منهج الصحابة

 

ويؤكد الدكتور القرضاوي أن الأمر لم يكن خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان منهجا للصحابة والفقهاء التابعين من بعدهم، فقد جاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عم رسول الله، هل للقاتل من توبة؟! فصعد ابن عباس النظر فيه وقال له: لا، ليس للقاتل من توبة .

 

وعندما ذهب الرجل قال أصحاب ابن عباس له: كنا نسمع منك قبل غير هذا؟ فقال: إني نظرت في وجهه فرأيته مغضبًا، يريد أن يقتل رجلاً مؤمناً .

 

ويعلق الدكتور القرضاوي: هذا إذن ما دفع ابن عباس لأن يغير فتواه ويقول له: لا توبة للقاتل، ولو أتاه الرجل وقد قتل (أو ارتكب أي ذنب) وسأله عن التوبة لقال له: باب التوبة مفتوح، وإن الله يغفر الذنوب جميعا، (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) (الزمر: 53) . لكن الرجل كان يحمل حقدًا على آخر، وينوي قتله، ويريد أن يأخذ فتوى مسبقة، فسد عليه ابن عباس الطريق .

 

الحدود والضرورة الملجئة

 

ولسعة الشريعة ومرونتها في مراعاة مستجدات الأمور يؤكد الدكتور علي جمعة مفتي مصر على أن هذه المرونة وصلت إلى إقامة الحدود التي تعتبر أصلا من أصول التشريع، فلقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نراعي الأحوال التي تنشأ والظروف التي تستجد مما يستدعي تغيير الحكم إذا كان اجتهاديا، أو تأخير تنفيذه أو إسقاط أثره عن صاحبه إذا كان قطعيا .

 

ويدلل على ذلك قائلا: ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تقطع الأيدي في الغزو كما روى أبو داود، وهو حد من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامة الحد في هذه الحالة خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض من تعطيله أو تأخيره، وهو لحوق صاحبه بالأعداء حمية أو غضبا، وفي هذا أعظم دليل على سعة الشريعة ومراعاتها للأحوال والظروف والمستجدات .

 

وهناك أيضاً والكلام للدكتور جمعة ما يسميه الفقهاء بالضرورة الملجئة، أي أن يكون هناك حال اضطرار يقع فيه العبد المسلم مما يكون معه مضطرا لفعل ما حرمه الله عليه، ومن رحمة الله بالعباد أنه لم يجعل عليهم في تلك الحالة إثما فيما يفعلونه .

 

ويضرب مفتي مصر مثالا بواقعة سرقة الناقة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث سرقها غلمان لعبدالرحمن بن حاطب، ولم يقطع عمر رضي الله عنه أيديهم، بل أحضر عبد الرحمن بن حاطب وقال: والله . . لولا أني أعلم أنكم تستعملونها وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له؛ لقطعت أيديهم .

 

ويعلق الدكتور جمعة قائلاً: هذا يبين أن عمر رضي الله عنه رأى أن هؤلاء في حالة اضطرار تدرأ عنهم الحد، وان عقوبة القطع كانت تجب وهم غير مضطرين، ولذلك لم يعاقبهم لاختلاف الحال، بل عاقب من كان سببا في ذلك وضاعف عليه الغرم .

 

ضوابط تغير الحال

 

ومع هذه المرونة وتلك السعة فإن هناك بحسب الدكتور جمعة مجموعة من الضوابط يجب أن تكون معلومة حتى لا يتم استغلال الأمر فيما ليس له، ومن تلك الضوابط:

 

1 عملية تغير الفتوى بتغير ما هي مترتبة عليه عملية تهدف إلى إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة، وإن تغيرت صورتها الظاهرية، ولا تعني بحال خروجا على الشريعة واستحداثا لأحكام جديدة .

 

2 إن التغير في الفتوى هو تغير خاص من حيث الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، حيث تتغير بالنسبة لهذه المتغيرات ولا تعمم على أزمان مقبلة، وهذا يعني أن الأمور تكون باقية على ما هي عليه في بقية الأماكن والأشخاص والأحوال والأزمان .

 

3 إن أهل العلم عندما قالوا بمراعاة الأحوال والعوائد ونحوها، إنما ذكروا ذلك لرفع الظلم عن العباد بإلزامهم بما لم يلزمهم به الشرع .

 

4 إن الذي يحدد تغيير الأحوال والأعراف وبالتالي تغير الفتوى المترتبة عليها هم أهل العلم والمعرفة بالشرع، وليس أهل الهوى والجهل .

 

5 إن العرف الذي تتغير به الفتوى هو العرف الحاصل من وقوع الناس في مخالفة الشرع، فإذا صار من عرف الناس اليوم خروج المرأة كاشفة صدرها ونحرها، فلا اعتبار لهذا العرف حينئذ .

 

ويؤكد الدكتور جمعة أن هناك كثيرا من الأسباب والدواعي التي تؤدي إلى تغير الأعراف مما يؤدي بالتالي إلى تغير الفتوى والأحكام الاجتهادية، ومنها: فساد الأخلاق وفقدان الورع، وهو المعبر عنه بفساد الزمن، ومنها كذلك تغير أفكار الناس وأوضاعهم، وتأثرهم بالعادات الجديدة .

 

ويضرب الدكتور جمعة مثالين يؤكدان أن مراعاة الحال توجب تغيير الفتوى فيقول: في السابق كان رأي جمهور الفقهاء على منع المرأة من الذهاب إلى المسجد للصلاة وبخاصة الشابة؛ سدا للذريعة، وخوفا من أن تفتن غيرها، ولكن اليوم بعد أن خرجت المرأة إلى المدرسة وإلى الجامعة وإلى العمل، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يبقى المسجد وحده هو المكان المحظور عليها . . وهناك دليل أيضا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله . .، خاصة أن المرأة اليوم لا تستفيد من المسجد فقط مجرد الصلاة، بل تستفيد من حضور دروس العلم والموعظة .

 

ومثال آخر ضربه جمعة قائلا: كان الطلاق ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع طلقة واحدة، لكن عمر رضي الله عنه غير ذلك على عهده وأوقع الطلاق ثلاثا، ثلاث طلقات تصير المرأة بها محرمة على زوجها، وقد أقره الصحابة على ذلك وأفتوا بما أفتى به عمر رضي الله عنه .

 

ويعلق الدكتور جمعة قائلا: وما فعل عمر رضي الله عنه ذلك إلا لتغير حال الناس، فقد رأى استهانة الناس بالطلاق وكثرة وقوعه منهم، وبالتالي فقد فعل ذلك لتخويف الناس منه .

 

ومعنى ذلك أن عمر رأى إيقاع الطلاق ثلاثا دفعة واحدة مصلحة في زمانه، وهو لا يخالف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ما كان عليه الصحابة في زمان أبي بكر، وإنما راعى المصلحة التي تلائم ظروف عصره وأحوال الناس ما دام لم يخرج عن الإطار العام للشريعة .

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات