أنواع الاجتهاد

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

 

مجلة البحوث الإسلامية

 

قال الإمام علاء الدين علي بن سليمان المرداوي في كتابه الإنصاف: واعلم أن المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: المجتهد المطلق وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد والتي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء  على ما تقدم هناك إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها ولا يتقيد بمذهب أحد إلى أن قال: قال في آداب المفتي والمستفتي: ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول ؛ لأن الحديث والفقه قد دونا. وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك، لكن الهمم قاصرة. والرغبات فاترة، وهو فرض كفاية قد أهملوه وملوه ولم يعقلوه ليفعلوه، انتهى. القسم الثاني: مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره وأحواله أربعة:

الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا، وأولى من غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه - إلى أن قال: وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.

 

الحالة الثانية: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه مستقلا بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده مع إتقانه للفقه وأصوله وأدلة مسائل الفقه، عالما بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادرا على التخريج والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه. إلى أن قال:

(الجزء رقم: 14، الصفحة رقم: 253)

وهذا شأن أهل الأوجه والطرق والمذاهب وهو حال أكثر علماء الطوائف الآن.

فمن علم يقينا هذا فقد قلد إمامه دونه ؛ لأن معوله على صحة إضافة ما يقول إلى إمامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع بلا واسطة إمامه، والظاهر معرفته بما يتعلق بذلك من حديث ولغة ونحو - إلى أن قال: والحاصل أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على ما انعقد عليه الإجماع ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط.

 

الحالة الثالثة: أن لا يبلغ به رتبة أئمة المذاهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريره ونصرته يصور ويحرر ويمهد ويقوي ويزيف ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه غير متبحر من أصول الفقه ونحوه. قال: وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها وصنفوا فيها تصانيف بها يشتغل الناس اليوم غالبا ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب.

 

الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه أو تفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم وما لا يجده منقولا في مذهبه - فإن وجد في المنقول ما هذا معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما. كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به، وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط ومنقول ممهد محرر في المذهب. وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتيا فيه - إلى أن قال: ثم إن هذا الفقيه لا يكون.

(الجزء رقم: 14، الصفحة رقم: 254)

إلا فقيه النفس ؛ لأن تصوير المسائل على وجهها ونقل أحكامها بعده لا يقوم به إلا فقيه النفس، ويكفي استحضاره أكثر المذهب قدرته على مطالعة بقيته قريبا.

القسم الثالث: المجتهد في نوع من العلم: فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره وعليه الأصحاب. وقيل: يجوز ذلك في الفرائض دون غيرها وقيل: بالمنع فيهما وهو بعيد. القسم الرابع: المجتهد في مسائل أو مسألة، وليس له الفتوى في غيرها. وأما فيها فالأظهر جوازه. ويحتمل المنع لأنه مظنة القصور والتقصير. قاله في آداب المفتي والمستفتي قلت: المذهب الأول. قال ابن مفلح في أصوله: يتجزأ الاجتهاد عند أصحابنا وغيرهم انتهى.

 

وتجزؤ الاجتهاد الذي أشار إليه هو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها  - فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا بد أن يكون مجتهدا مطلقا عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل، فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ وعزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين، وحكاه صاحب النكت عن أبي علي الجبائي وأبي عبد الله البصري. قال ابن دقيق العيد: وهو المختار ؛ لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد.

 

قال الغزالي والرافعي: يجوز أن يكون العالم منتصبا للاجتهاد في باب دون باب. وذهب آخرون إلى المنع ؛ لأن المسألة في نوع من الفقه ربما كان أصلها من نوع آخر منه.

(الجزء رقم: 14، الصفحة رقم: 255)

احتج الأولون بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل. واللازم منتف، فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب، وكثير منهم سئل عن مسائل فأجاب في البعض وهم مجتهدون بلا خلاف.

 

ومن ذلك ما روي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة فأجاب في أربع منها وقال في الباقي: لا أدري.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزؤ والانقسام. بل قد يكون الرجل في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه، فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره، واشتغال على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذي يصح. وإنما تنزلنا هذا التنزيل ؛ لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة ؛ لضعف آلة الاجتهاد في حقه، أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يرفع به النص، فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قال الله تعالى:  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  وقال النبي

(الجزء رقم: 14، الصفحة رقم: 256)

صلى الله عليه وسلم:  إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.

 

والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك. ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه. وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى، فهذا مذموم. انتهى. وقال الإمام الموفق في روضة الناظر: فليس من شرط الاجتهاد في مسألة بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل. بل متى علم أدلة المسألة الواحدة وطرق النظر فيها فهو مجتهد فيها، وإن جهل حكم غيرها، فمن ينظر في مسألة المشركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بالفرائض أصولها ومعانيها، وإن جهل الأخبار الواردة وتحريم المسكرات والنكاح بلا ولي ؛ إذ لا استمداد لنظر هذه المسألة منها، فلا تضر الغفلة عنها ولا يضره أيضا قصوره عن علم النحو الذي يعرف به قوله:  وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ  وقس عليه كل مسألة. ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم قد كانوا يتوقفون في مسائل.

 

وسئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري، ولم يكن توقفه في تلك المسائل مخرجا له عن درجة الاجتهاد. والله أعلم، انتهى. ومن هذه النقولات عن هؤلاء الأئمة يتضح أن القول بتجزؤ الاجتهاد هو القول الصحيح الراجح الذي يؤيده الدليل والواقع.

 

وبالله التوفيق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات