حدود التشريع في الإسلام ومكانة الاجتهاد فيه

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

مجلة دعوة الحق – العدد 140

 

ما هي حدود التشريع في الإسلام وما هي مكانة الاجتهاد فيه ؟

إذا أردنا معرفة ذلك، فلا بد أن نكون، قبل كل شيء، على ذكرى بين من أمرين :

أولهما : إن الحاكمية في الإسلام مختصة بالله وحده، لا يشاركه ولا ينازعه فيها غيره. ذلك بأن التوحيد، كما فسره القرآن، يستلزم أن يكون الله وحده هو المعبود بالمعنى الديني المعروف، ليس ذلك فحسب، بل يستلزم أن يكون الله وحده هو الحاكم المطاع، والآمر والناهي، والشارع بالمعنى السياسي والقانوني أيضا. وهذه الحاكمية القانونية قد أبدأ القرآن وأعاد في بيانها بمثل القوة والجزم الذي يبين به عقيدة الألوهية الدينية، وأكد كل التأكيد أن كلا من هاتين المنزلتين من المقتضيات اللازمة لألوهية الله تعالى لا يجوز فصلها عن الأخرى بحال من الأحوال وقرر بما لا مجال فيه للارتياب والشك إن إنكارها إنكار لألوهية الله. ثم إن القرآن لم يترك أي منزع لشبهة أن يراد بالقانون الإلهي قانون الطبيعة والفطرة وجعل من واجب الإنسان، إذ يدعوه إلى التوحيد، أن يعترف في حياته الخلقية والاجتماعية بذلك القانون الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله، بل أن الإيمان بهذا القانون، وبتجرد الإنسان عن استقلال نفسه وحرية ذاته إزاءه، هو الذي يسميه القرآن بالإسلام ويأبى – بأوضح ما يكون من البيان – أن يكون للإنسان حق في أن يقضي برأيه شأنا من شؤون حياته إذا كان قد قضاه الله ورسوله : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)

وثانيهما : وهو لا يقل في أهميته في الإسلام عن توحيد الإله – هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر رسل الله وخاتم أنبيائه. وهذا ما تخرج به عقيدة توحيد الإله من حيز الفكرة المجردة فتبرز بشكل نظام عملي ويقوم على أساسها بناء نظام الإسلام الشامل للحياة الإنسانية. ذلك بأنه قد اجتمعت بموجب عقيدة الإسلام تعاليم جميع الأنبياء السابقين، مع زيادة تعاليم مهمة أخرى في تعليم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو وحده المصدر الموثوق به لهدى الله وتشريعه، ولن يأتي من الله بعده هدى أو تشريع يحتاج الإنسان أن يرجع إليه. وتعليم محمد صلى الله عليه وسلم هو القانون الأعلى الذي يمثل للناس مرضاة الحاكم الأعلى وقد وصل إلينا على صورتين :

القرآن : وهو كلام الله لفظا ومعنى، ويشتمل على أحكامه وأوامره ونواهيه.

والسنة : أو الأسوة الحسنة لمحمد صلى الله عليه وسلم : وهي التي تبين غاية القرآن وتشرح مقصد نزوله.

ما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبلغا لكتاب الله فحسب، بل كان من وظيفته مع ذلك أن يكون  إماما للناس وقائدا وحاكما ومعلما ومرشدا، يشرح لهم القانون الإلهي بقوله وعمله، وبخبرهم بغايته الحقيقية ويربيهم على مطالبه ومقتضياته، ويعمل على تشكيلهم دولة راشد مرشدة، كيف يقوم على مبادئ الإسلام نظام حضارة متكاملة راقية. وإن هذه المهمة التي اضطلع بها الرسول صلى الله عليه وسلم طوال حياته النبوية (23 سنة متوالية) هي (السنة) التي باشتراكها واجتماعها مع (القرآن) يكتمل القانون الأعلى من الحاكم الأعلى لرعيته في الأرض، وإن هذا القانون الأعلى هو المعروف (بالشريعة) في المصطلح الإسلامي.

 

حدود التشريع

وقد يظن الإنسان لأول سماعه بهذه الحقائق الأساسية أن الدولة الإسلامية لا مجال فيها أصلا لتشريع الإنسان، إذ أن الله هو الشارع الوحيد فيها، ولا وظيفة للمسلمين سوى أن يتبعوا ما جاءهم به الرسول من قانون. بيد أن الحقيقة إن الإسلام لا ينافي تشريع الإنسان وإنما يحيطه بسياج من القانون الإلهي ويحده بعلوه. إما ما هي دائرة تشريعه تحت القانون الإلهي الأعلى وفي ضمن حدوده، فهذا ما أريد بيانه في هذه الكلمة متوخيا الإيجار والاختصار.

 

تفسير الأحكام :

منها ما قد جاء فيه القرآن والسنة بحكم قاطع واضح، أوضعها له قاعدة خاصة، فليس لفقيه ولا لقاض ولا لمجلس تشريعي أن يغير في مثل هذه المعاملات والشؤون أحكام الشريعة وقواعدها. وليس معنى ذلك أنه لا مجال مع هذه الأحكام لتشريع الإنسان، بل إن دائرة تشريع الإنسان فيها أن يعرف أولا بكل دقة ما هي أحكام الشريعة في واقع الأمر، ويحدد ثانيا مفهوم تلك الأحكام، وبتبين لأي الحالات والواقع هي، وتقرر أخيرا صور تطبيقها على القضايا الطارئة الحاضرة وتفاصيلها الفرعية إن كان فيها المجال. والذي يجب أن يشخص مع كل ذلك، هو : أين وإلى أي حد يجوز للإنسان التشريع للأحداث والواقع الاستثنائية على أن لا يصطدم مع أحكام الشريعة وقواعدها.

 

القياس :

ومنها ما لم تأت فيه الشريعة بحكم، ولكن لها أحكام في أمثاله وأشباهه، فالتشريع في مثل هذه الشؤون والمعاملات يكون بأن تعرف علل الأحكام بدقة تامة وتنفذ في كل شأن توجد فيه تلك العلل ويستثنى منها كل شأن لا توجد فيه تلك العلل.

 

الاستنباط :

ومنها ما لم تأت فيه الشريعة بحكم صريح، ولكن جاءت فيه وفي أمثاله بواعد جامعة، أو أظهرت مرضاة الشارع عنه، فيجب العمل على تنميته وترقيته، وما هو مبغض عنده يجب العمل على محوه واستئصاله. فالتشريع في مثل هذه الشؤون والمعاملات يكون بأن يعرف ما جاء فيها من قواعد الشريعة ومرضاة الشارع، ويوضع في القضايا العملية الحاضرة من القوانين ما تقوم على هذه القواعد ويحقق مرضاة الشارع.

 

دائرة التشريع بحرية الرأي :

ومنها ما سكتت الشريعة في بابه سكوتا تاما، فلا جاءت فيه بحكم صريح، ولا بهداية في أمثاله وأشباهه حتى يقاس عليها. فلا معنى لسكوت الشريعة في مثل هذه الشؤون إلا أن الحاكم الأعلى بنفسه قد أجاز الإنسان أن يقضيها برأيه. فالتشريع جائز فيها للإنسان بكل حرية، على أن يكون موافقا لروح الإسلام وقواعده العامة وإلا تختلف طبيعته عن طبيعة الإسلام الشاملة حتى يلتئم أحسن التئام مع نظام الإسلام للحياة.

 

الاجتهاد

وكل هذا العمل التشريعي الذي يحرك نظام الإسلام للقانون ويرقيه حتى يلبي حاجات البشر ويجازي تطورات الزمان، لا يمكن أن يتم إلا بتحقيق علمي خاص ويذل للقوة الذهنية على صفة غير عادية، وهو المعروف بالاجتهاد في المصطلح الإسلامي.

وكلمة الاجتهاد معناه لغة : بذل الجهد واستنفاده والمراد اصطلاحا : بذل الجهد واستنفاده في استجلاء حكم الإسلام أو مقصوده في القضية تحت البحث. وقد يخطئ بعض الناس ويفسرون الاجتهاد  بمعنى التمتع بحرية الرأي دون ما قيد أو شرط، على أن كل من له أدنى إلمام بطبيعة القانون الإسلامي ومزاياه لا يكاد يذهب به سوء الفهم إلى أن فيه مجالا لهذا النوع من الاجتهاد الحر، لأن القانون الحقيقي في الإسلام هو القرآن والسنة، ولا يجوز التشريع فيه للمسلمين هو القرآن والسنة، ولا يجوز التشريع فيه للمسلمين إلا بشريطة أن يكون مأخوذا من هذا القانون الحقيقي أو في ضمن الحدود التي يبيح لهم أن يتمتعوا فيها بحرية رأيهم. فكل اجتهاد لا يستند إلى أحكام الشارع الحقيقي ولا يتقيد بحدودها ليس من الاجتهاد الإسلامي في شيء ولا مكانة له في نظام الإسلام القانوني.

 

الأوصاف اللازمة للمجتهدين :

ولأن الاجتهاد ليس المقصود به إحداث الثلم في القانون الإلهي ليستبدل به القانون الإنساني، وإنما مقصود به فهم القانون الإلهي فهما دقيقا وجعل نظام الإسلام القانوني ملبيا لحاجات البشر مجاريا لتطور الزمان تحت هدايته وإرشاده، فلا يصح أي اجتهاد إلا بأن يكون المتولون لمهمته على جانب عظيم من الصفات الآتية :

1- الإيمان بالشريعة الإلهية، والإيقان بكونها الحق، والعزيمة الخالصة لأتباعها، وخلو الذهن والفكر من الرغبة في التحلل من حدودها وقيودها، وعدم أخذ الغايات والمبادئ من مصدر غير مصدرها

2- الإلمام الجيد باللغة العربية وقواعدها وأساليب أدبها، لأن اللغة العربية هي التي بها نزل القرآن ولا يتسنى معرفة السنة إلا بها.

3- التطلع بعلم القرآن والسنة حتى لا يعرف به الإنسان أحكام الشريعة الفرعية ومواضعها فحسب، بل يفهم أيضا واعدها الكلية وغاياتها معرفة جيدة : يجب أن يعرف المجتهد ما هي خطة الشريعة لإصلاح الحياة الإنسانية بأجمعها، ويعرف إلى جانب ذلك ما هي مكانة كل شعبة من شعب الحياة في هذه الخطة الجامعة الشاملة، وما هي الخطوط التي تريد الشريعة أن تؤسس عليها مختلف شعب الحياة وما هي المصالح التي ترمي إليها في تأسيسها. أو بكلمة موجزة إن الاجتهاد شيء يتطلب الإنسان علما بالقرآن والسنة يوصله إلى مغزى الشريعة وجوهرها.

4- الوقوف على تراثنا القانوني الذي ورثناه عن فقهاء السلف، والحاجة إليه ليست للتدريب على الاجتهاد فحسب، بل هي كذلك لاستمرار الارتقاء القانوني، لأنه ليس – ولا يسوغ أم يكون – المقصود بالاجتهاد أن يهدم كل جيل جديد ما بناه سالفه أو بحكم عليه بالبلى وبشرع في بنائه من جديد.

5- التخلق بالأخلاق الفاضلة حسب مقياس الإسلام للأخلاق، لأنه لا يمكن بدونه أن يطمئن عامة الناس إلى اجتهاد المجتهدين ولا أن تنشأ في قلوبهم عاطفة الاحترام للقانون إذا كان قد قام بوضعه الأفراد غير الصالحين.

ليس المطلوب ببيان هذه الأوصاف إن على كل مجتهد أن يثبت بدلائل على كونه متصفا بها، بل المطلوب ببيانها  أنه لا يمكن بالاجتهاد إنعاش القانون الإسلامي وترقيته على الخطوط الصحيحة، إلا بأن يكون نظامنا لتعليم القانون صالحا لإعداد رجال من ذوي العلم متصفين بهذه الأوصاف والأخلاق المذكورة، وكل تشريع بدون ذلك لا يمكن أن يتفق مع نظام الإسلام القانوني ولا أن يستسيغه مجتمع المسلمين

 

الطريق الصحيح للاجتهاد :

وكما أن بول الأمة شيئا من الاجتهاد والتشريع بتوقف على أن يكون المجتهدون صالحين للاجتهاد، فكذلك هو يتوقف على أن يكون اجتهادهم بطري صحيح يطمئن إليه. فالشريطة الأولى للاجتهاد الصحيح – سواء أكان تفسيرا لحكم أو قياسا عليه أو استنباطا منه – أن يكون مبنيا على دلائل من القرآن والسنة، وإما إذا كان التشريع في دائرة المباحات فعلى المجتهد أن يأتي بالدلائل على أنه لا القرآن ولا السنة قررا حكما أو قاعدة في القضية، ولا جاء في أحدهما أساس للقياس فيها. ويجب أن يكون الاستدلال بنصوص القرآن والسنة قائما على قاعدة من القواعد المسلم بها بين أهل العلم. فإذا أراد المجتهد أن يستدل بالقرآن، فعليه أن لا يفسر كل آية إلا بما تسمح به اللغة العربية وقواعدها وأساليبها المعروفة، ويتفق مع سباق عبارة القرآن، ولا يصطدم مع بيانات القرآن عن الموضوع نفسه في مواضع أخرى، وتؤيده شروح السنة القولية والفعلية أو لا تعارضه على الأقل. وإذا أراد أن يستدل بالسنة الفعلية – مع رعاية اللغة وقواعدها وسياق العبارة – إن لا يستدل في مسألة ما إلا بروايات صالحة لقيام الحجة بها حسب أصول علم الرواية، ولا يغفل ما في تلك المسألة الخاصة من الروايات القوية الأخرى، ولا يستنتج من رواية ما  يخالف الكتاب والسنة الثابتة بالطرق القوية الأخرى، وكل اجتهاد لا تراعى فيه هذه الأمور ولا يقوم إلا على أساس أهواء النفوس ورغباتها وأمانيها، فإنه لو جعل جزءا من القانون بالقوة السياسية، لن يقبله ضمير المسلمين الاجتماعي، ولن يكون جزءا من نظام الإسلام القانوني. أنه يبقى جزء من القانون ما دامت القوة السياسية التي تنفذه آخذه بزمام نظام الحكومة، ثم لا يكون محله مع زوالها إلا إلى سلة الأوراق المهملة.

 

كيف ينال الاجتهاد درجة القانون :

ونظام الإسلام للقانون فيه عدة صور لنيل اجتهاد فرد أو طائفة درجة القانون. فمنها أن ينعقد عليه إجماع كما قد تلقوا الفقه الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي في غير واحد من البلاد الإسلامية، ومنها أن تتبناه حكومة من حكومات المسلمين وتجعله قانونا لنفسها، ومنها أن يكون في الدولة مجلس للتشريع حسب الدستور فيسن القانون باجتهاده. إما اجتهاد مختلف أهل العلم علاوة على هذه الصور، فهو بمثابة الفتوى لا أكثر. وأما أقضية في المحاكم فهي – على نفاذها في ما يرفع إليهم من الدعاوي وكونها بمثابة النظائر والأشباه – لا تكون قانونا بالمعنى الصحيح، حتى أن قضية الخلفاء الراشدين، لم تقل درجة القانون في الإسلام مما صدرت عنهم بصفتهم قضاة في المحكمة، لأن الإسلام لا مكانة فيه للقانون الموضوع على أيدي القضاة (أي Judge made law)

- * -

قام أحد من دعاة إنكار السنة في باكستان وأثار بعض الشبهات حولها، بعدما ألقى سماحة الأستاذ المودودي هذه المحاضرة، فانبرى سماحته للرد على شبهاته كما يلي :

إني سأحاول في هذا البحث أن أجيب – بأقصى ما يمكن من الإيجار – على ما قد أثير من الاعتراضات، حول مقالي في "حدود التشريع في الإسلام ومكانة الاجتهاد فيه".

فالاعتراض الأول هو على المكانة التي بينتها للسنة مع القرآن في التشريع الإسلامي. فأريد – جوابا على هذا الاعتراض -  إن أقدم إليكم أمورا، حتى تتضح لكم القضية، وذلك بالترتيب الآتي :

أولا : إن من الحقائق التاريخية الثابتة، التي لا تقبل الإنكار والجحود، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما كان قد اكتفى – بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته – بتبليغ الناس القرآن، بتلاوته عليهم، بل كان مع ذلك، قد قام بحركة شاملة، ظهر كنتيجة لها، مجتمع إسلامي خالص، ونظام جديد للمدينة والحضارة وقامت دولة واسعة في بلاد العرب. فالسؤال الذي ينشأ في هذا الصدد، إن جميع هذه الأعمال التي قام بها الرسول، عليه الصلاة والتسليم، علاوة على تبليغ القرآن بتلاوته على الناس، بأي صفة وعلى أي اعتبار كان قد قام بها، هل كان قيامه بها من حيث كان رسولا من الله، ممثلا لمرضاته، مثل تمثيل القرآن إياها، أم إنما كانت رسالته تنتهي بمجرد تلاوته ما ينزل عليه من القرآن حتى لم يكن بعدها إلا رجلا عاديا من عامة المسلمين، حيث لا حجة بقوله ولا عبرة بفعله في حد ذاته من الوجهة القانونية ؟ فإذا سلمنا بالصورة الأولى، فلا بد لنا أن نسلم بالسنة حجة قانونية مع القرآن. وإما في الصورة الثانية، فلا مبرر البتة، لجعلها من القانون.

ثانيا : أما القرآن، فيبين لنا بيانا واضحا شافيا لا لبس فيه ولا إبهام، إن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما كان مبلغا لما ينزل عليه من القرآن فحسب، بل كان – مع ذلك – إماما للناس وحاكما ومعلما يجب عل المسلمين أن يتبعوه ويطيعوه على المنشط والمكره ويعتبروا حياته أسوة لأنفسهم.

وإما العقل، فيأبى كل الآباء أن يعترف بقول من يقول أن الرسول إنما هو رسول لحد تبليغه للناس كلام ربهم وما هو بعد ذلك إلا رجلا مثل سائر الرجال.

إما المسلمون منذ بدء الإسلام إلى يومنا هذا، فما زالوا ولا يزالون مجمعين على الاعتقاد بأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة واجبة الإتباع، وإن كل أمر من أوامره ونهي من نواهيه يجب الوقوف عنده. إن هذه هي العقيدة، التي ما زال ولا يزال عليها المسلمون حتى أنه لا يكاد يسع ولا لعالم لغير مسلم أن يجحد بأن هذه هي مكانة الرسول التي آمن بها المسلمون في كل مكان وفي كل زمان، وأنهم لأجل هذا ما زالوا يسلمون بسنته مصدرا أساسيا لقانونهم مع القرآن. وليت شعري كيف يجوز لرجل في هذا الزمان، أن يتحدى هذه المكانة للسنة، ما دام لا يعلن إعلانا واضحا سافرا أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما كان نبيا إلى حد تبليغه القرآن، حيث كانت نبوته تنتهي بمجرد فراغه من تلاوته على الناس. ثم إن هذا الرجل – إذا كان يدعي ذلك – عليه أن يبينه إن كان يعطي الرسول هذه المكانة من عند نفسه أو إن القرآن هو الذي قد أعطى الرسول هذه المكانة ؟ إما في الصورة الأولى فلا علاقة له بالإسلام أبدا. وإما في الصورة الأخرى، فعليه أن يستدل بنص من نصوص القرآن.

ثالثا : والسؤال الذي ينشأ بعد تسليمنا بالسنة مصدرا أساسيا للقانون في حد ذاتها، هو : ما هي الوسيلة لمعرفة السنة ؟ فأقول جوابا على هذا أن ليس لأول مرة قد واجهنا السؤال بأن السنة، التي تركتها في الدنيا تلك الرسالة التي كانت قد ظهرت في بلاد العرب قبل ألف وخمس مائة سنة، ماذا كانت هي ؟ فهناك حقيقتان تاريخيتان لا تقبلان الإنكار أو المكابرة، أولاهما : أن المجتمع الذي تأسس على تعليم القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بدء الإسلام، أنه لا يزال حيا نائما إلى هذا اليوم وما فارقته حياته ليوم واحد، وما زالت جميع مؤسساته طيلة هذه المدة قائمة بأعمالها بصفة غير منقطعة وإن التشابه الذي يوجد اليوم بين المسلمين في جميع أقطار الأرض على تباعدها في عقائدهم وأساليب فكرهم وأخلاقهم وقيمهم وعباداتهم ومعاملاتهم ونظريتهم في الحياة وطريقتهم لها – إن هذا التشابه أو التماثل بين المسلمين الذي يغلب فيه عنصر التوافق والتطابق على عنصر التخالف والتفارق ، لهو دليل واضح، وبرهان قاطع، على أن هذا المجتمع إنما أقيم على سنة واحدة بعينها، وإن هذه السنة ما زالت في مجراها بصفة واحدة بدون انقطاع ولا توقف. إن هذه السنة ليست بشيء مفقود نحتاج للبحث عن آثارها إلى التخبط خبط عشواء في الظلمات.

والحقيقة التاريخية الثانية، التي لا تقل عن الأولى في جلائها وسطوعها، هي أن المسلمين ما زالوا في كل زمان بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يبذلون سعيهم ليعرفوا ما هي السنة الثابتة، وما هي الشيء الأجنبي الذي يحاول التسرب إلى نظام للحياة بطريق صناعي ؟ وبما أنهم كانوا يرون في السنة مصدرا لقانونهم، وما كانت تحكم محاكمهم إلا بها ولا كانت تجري شؤون حياتهم – من شؤون بيوتهم إلى شؤون حكوماتهم – إلا على أساسها، فما كان لهم بوجه من الوجوه، أن يكونوا من الغافلين غير المكترثين لشيء في تحقيقها. فما زال كل جيل منا – منذ – خلافة الإسلام الأولى إلى هذا اليوم – يرث عن سالفه وسائل هذا التحقيق ونتائجه ولا يزال محتفظا به عندنا اليوم كل عمل تم على يد جيل من أجيالنا الماضية، بدون انقطاع ولا ضياع.

فهاتان الحقيقتان التاريخيتان إذا تأمل فيهما الإنسان ودرس ما اتخذ من الوسائل لنقل السنة دراسة علمية وافية، لا تكاد تساوره الشبهة بأن قضية تحقيق السنة ووسائل معرفتها معضلة، لا يمكن أن يوجد لها حل.

رابعا : لا شك أن قد نلهرت في الماضي، ويجوز أن تظهر في المستقبل كذلك، اختلافات كثيرة في المسلمين حول تحقيق السنة وتعيينها، ولكن أليس من الحقيقة في الوقت نفسه أن قد ظهر ويجوز أن تظهر في المستقبل كذلك، مثل هذه الاختلافات في المسلمين حول تعيين المعنى لكثير من أحكام القرآن وآياته، فإذا كان لا يجوز أن يكون وجود مثل هذه الاختلافات دليل على ترك القرآن، فكيف يجوز أن يكون دليلا على ترك السنة ؟ ومن القواعد الذي ما زال يعترف بها من قبل، ولا بد من الاعتراف بها اليوم أيضا، إن كل من يدعي شيئا أنه من أحكام القرآن أو أحكام السنة، عليه أن يأتي بدليل على دعواه. فإن كانت دعواه وية، فلا بد أن ترغم أهل العلم من الأمة أو عددا كبيرا منهم على الأقل، على الاعتراف بصحتها وإما إن كانت دعواه بدون وزن باعتبار الدليل، فلا تنال رواجا في الأمة أبدا. وهذه هي القاعدة التي على أساسها قد اجتمع عشرات الملايين من المسلمين في مختلف أقطار الأرض على مذهب من المذاهب الفقهية وأقامت جماعات كبيرة منهم نظامها الاجتماعي على طريق من الطرق لتفسير أحكام القرآن ومجموعة من مجامع السنة الثابتة.

هذا هو جوابي على الاعتراض الأول. أما الاعتراض الثاني على مقالي، فهو أن فيه التناقض، أي أن قولي : "إن ليس لفقيه ولا لقاض ولا لمجلس تشريعي أن يغير في أحكام الكتاب والسنة القاطعة"، وقولي أنه يجب أن يشخص بصدد تفسير الأحكام أنه أين والي أي حد يجوز للإنسان التشريع للحالات والوقائع الاستثنائية على أن لا يصطدم مع أحكام الشريعة وقواعدها". فهنا القولان بينهما التناقض في نظر المعترض. غير أني ما استطعت أن أجد بينهما هذا التناقض، لان الدنيا لا يوجد فيها قانون، إلا وفيه الاستثناء من القاعدة العامة في حالة الاعتذار والاضطرار، وأن القرآن نفسه فيه غير نظير واحد لمثل هذه الرخص والاستثناءات، وإن الفقهاء قد حددوا القواعد التي لا لا بد من رعايتها في تعيين الرخصة ومواقعها، كقاعدة : الضرورات تبيح المحظورات وقاعدة : إن المشقة تجلب التيسير.

والاعتراض الثالث، على جميع أولئك الذين قد بينوا في مقالاتهم شرائط للاجتهاد والمجتهدين، وبما أني واحد من هؤلاء، أرى من الواجب على نفسي أن أقوم بالرد على نفسي أن أقوم بالرد على هذا الاعتراض.

فالذي يحسن بي – في هذا الصدد – أن أطالب المعترض بأن يتفضل ويعيد النظر مرة أخرى في ما بينت في مقالي من الشرائط، ويبين أي هذه الشرائط يريد إسقاطه ؟ أشرط أن يكون المجتهد مؤمنا بالشريعة الإسلامية وموقنا بكونها الحق ؟ أم شرط أن يكون ملما باللغة العربية وقواعدها وأساليب أدبها ؟ أم شرط أن يكون متضلعا من علم القرآن والسنة ؟ أم شرط أن يكون واقفا على تراث الأمة القانوني الذي ورثناه عن فقهاء السلف ؟ أم شرط أن يكون مطلعا على أحوال الحياة العلمية ؟ أم شرط أن يكون متخلفا بالأخلاق الفاضلة حسب مقياس الإسلام للأخلاق ؟ هذه هي الشرائط التي بينتها في مقالي. فليتكرم المعترض ويبين بالتحديد أي شرط من هذه الشرائط يجب حذفه، أما القول بأنه لا يمكن أن يوجد في الدنيا كلها إلا عشرة أو أحد عشرة رجلا يعتبر أهلا لمثل هذه الشرائط، فإني لا أرى هذا القول إلا مبالغة شنيعة في سوء الظن بمسلمي الدنيا، ولعلنا لم نقل الانحطاط حتى في نظر أعدائنا إلى درجة أن لا يروا من بين مسلمي الدنيا كلها – الذين يتراوح عددهم بين أربع مائة مليون وخمس مائة مليون – وخمس مائة مليون – إلا عشرة أو أحد عشرة رجلا متصفين بهذه الصفات اللازمة للاجتهاد وأقول أنكم إذا كنتم متشوقين إلى فتح باب الاجتهاد لكل زيد وعمرو، فافتحوه على الرأس والعين، ولكن بينوا لي على الأقل أن الاجتهاد الذي سيتولاه الجهال بالإسلام، غير المقيدين بالأخلاق، غير المخلصين في إرادتهم، المشبوهين في نياتهم، ماذا ستعملون لجعل اجتهادهم شرابا عذبا فراتا يستسغيه جمهور المسلمين.

 

 

والمفلس . . . ؟

والمفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب، ومن سحاب تموز، لا يسأل عنه أن غاب، ولا يسلم عليه إن قدم إن غاب شتموه، وإن حضر حقروه، وإن غضب صفعوه، مصافحته تنقض الوضوء، وقرابه يقطع الصلاة، أثقل من الأمانة، وابغض من الملحف الملزم . !

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات