اللغة العربية وتعزيز الهوية فى الجامعات

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

أ.د.عبد الرحيم الكردي

يعانى الشباب فى الجامعات العربية الآن من ظواهر خطيرة، مثل ازدواجية الثقافة وضعف الحماس للهوية العربية، والاغتراب النفسى والاجتماعى، وعدم وضوح الرؤية بالنسبة للمستقبل، والتشاؤم، والشعور بالهزيمة الحضارية إزاء الحضارة الغربية المسيطرة، وفقدان الأمل فى الإصلاح أو التطور إلى الأفضل. بل عدم جدوى الاجتهاد أو الانتماء الوطنى.

ينكشف لنا ذلك خلال اتصالنا بكثير من أبنائنا الطلاب وشباب الباحثين، ومعالجتنا لأسئلتهم الحائرة المترددة، مثل:

  • أين نحن من هذا الركام من المعرفة العلمية؟ وما دورنا نحن بوصفنا عربا فى العالم؟ أين هم العرب؟ وما جدوى تعلم اللغة العربية فى هذا العصر؟ عصر المعلومات والعولمة، وما جدوى الجامعة العربية؟
  • وماذا سوف نفعل بعد تخرجنا من الجامعة؟ حيث لا عمل ولا وظائف!! ولا زواج!!
  • ماذا جلبت ثروات العرب البترولية للعرب؟
  • وهل نصدق ما نقرأه فى كتب الدين المنتشرة على الأرصفة وفى المساجد، أم نصدق العلم؟
  • وأين نحن فى عصر العولمة والأمركة؟ ومتى يأتى دورنا فى الاحتلال الأمريكى؟

أو يأتى تعبيرهم فى صورة جمل محبطة مكتوبة على جدران الجامعة أو الأماكن المغلقة، أو يبدو عمليا فى الرغبة الجارفة في الهجرة للخارج والزواج من أجنبيات، حتى من إسرائيليات، وانتشار الإدمان والزواج العرفى، وعدم عودة المبعوثين إلى الخارج فى بعثات علمية، وانتشار السرقات العلمية، والاستعداد لأى عمل يدر ربحًا. حتى لو كان فى غير مصلحة الوطن. بالإضافة إلى الاختلاس من أموال البنوك والفساد الإدارى لمن تخرَّج منهم للعمل فى الحياة العامة.

ولهذه الظواهر أسباب عديدة .. منها الأَسباب الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية، لكننا هنا سوف نركِّز على عنصر واحد فقط، وهو العنصر اللغوى، ليس باعتباره السبب الوحيد، بل باعتباره عنصرًا من العناصر المكملة لتلك المنظومة؛ منظومة ضعف الهوية، سوف نركز فى هذا المقال على المعوقات التى تحول دون قيام اللغة العربية فى أداء دورها فى تعزيز الهوية العربية لدى هؤلاء الشباب، كما كانت فى الماضى، كما أن المقال سوف يتناول الوسائل التى يمكن أن تعمل على تفعيل هذا الدور.

 

كما أن المقال سوف يتناول الوسائل التى يمكن أن تعمل على تفعيل هذا الدور، بعبارة أخرى، إنه سوف يجيب على سؤالين فقط هما:

  • لماذا فقدت اللغة العربية دورها المعهود فى تعزيز الشعور بالهوية العربية فى الجامعات؟
  • وكيف يمكن استعادة هذا الدور؟

ويمكن أن نحصر الإجابة على هذين السؤالين فى المحاور التالية:

أولاً: تعريب العلوم:

إن استخدام اللغة العربية والإبداع العلمى عند العرب والإحساس بالهوية العربية عناصر متلازمة، قوةً وضعفًا، فإذا أردنا تنمية الإبداع وتقوية الهوية العربية فعلينا باستخدام اللغة العربية فى تقييد العلوم وتدريسها والبحث بها فى كافة مجالات العلم، إذ من العوامل التى تؤدى إلى ضعف الهوية عدم ثقة أبناء الوطن فى أن اللغة التى يتكلمون بها في أنها قادرة على نقل العلوم وتقييدها، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب والوفاء بالاحتياجات اليومية فقط، بل هى صورة من منطق العقل الجمعى للأمة المتحدثة بها، وهى مظهرها العقلى والمعرفى والوجدانى، وخازنة أفكارها وتراثها، والمعبرة عن شخصيتها وأنماط تفكيرها،هي جزء من الذات ، فإذا ما اختلت الثقة فى هذه اللغة اختل الشعور بالهوية القومية بل بالذات ، وإذا ما اختل الشعور بالهوية كان الإحساس بالدونية الذاتية بالنسبة لثقافة الغير، وحلَّت بالرؤوس أدواء التبعية العلمية والتقليد، ومات الابتكار الذى هو وليد الثقة في النفس، وإذا ما اختلت هذه الثقة فى اللغة وفى النفس استخدم أبناء هذه اللغة لغة أخرى فى التعليم والتعلم، فأصبحوا يتكلمون فيما بينهم بلغة، ويتعلمون ويعلمون ويبحثون ويفكرون بلغة أخرى .. وهذا هو الحال الآن بالنسبة للغة العربية ،كما هو الحال دائما مع كل متخلف عن ركب الحضارة.

فالعرب الآن يتكلمون العربية أو العاميات العربيات، لكنهم يتعلمون أكثر العلوم باللغات الأجنبية، ويبحثون بهذه اللغات فى الجامعات العربية – إن كان ما يمارسونه الآن يسمى بحثا علميا - بل إن الأقسام التى كانت قد عرَّبت علومها منذ زمان بعيد عادت اليوم لتفتح أبوابها للتعليم بالإنجليزية.

كما هو الحال فى أقسام المحاسبة باللغة الإنجليزية وإدارة الأعمال باللغة الإنجليزية فى كليات التجارة،والحقوق باللغة الفرنسية ، بل إن هناك جامعات أنشئت حديثا تعلِّم جميع علومها باللغة الإنجليزية، مع العلم بأن المدارس المصرية التي أنشأها محمد علي للطب والهندسة والصناعات العسكرية كانت تدرس باللغة العربية ، وقد ترجم رفاعة الطهطاوي وتلاميذه في مدرسة الألسن حوالي ألفي كتاب لخدمة هذه المدارس.

والحجة التى يبرزها أصحاب القرار فى إنشاء هذه الأقسام وهذه الجامعات التي تدرس باللغات الأجنبية هى:

1- أن العلوم كلها تقريبا مدونة فى هذا العصر باللغات الأوربية، وبخاصة الإنجليزية، فالإنسان إذا لم يطَّلع على هذه العلوم بلغتها فلن يتمكن من البحث والاطِّلاع على أحدث مبتكرات تخصصه.

2- أن هذا العصر ـ عصر العولمة ـ فتح الباب واسعًا أمام من يستخدمون الإنجليزية، إذ يستطيع من يستخدمها أن يتعامل مع شبكات المعلومات الدولية ووسائل الاتصال العالمية بسهولة.

3- كما أن مجال العمل لايفتح أبوابه فى الشركات العالمية متعددة الجنسيات إلا لمن يجيد الإنجليزية أو إحدى اللغات الأجنبية.

4- أن الطلاب يُقْبِلون على هذه الأقسام وهذه الجامعات، ويَعُدّ خِرِّيجُوها أنفسَهم طبقةً أرفعَ من طبقة زُملائهم المتخرّجين فى الأقسام والجامعات التى تُدَرِّس العلوم نفسَها بالعربية.

وقد أَغْرت هذه الأسباب القائمين على التعليم العام قبل الجامعى، بتقرير مادة اللغة الإنجليزية منذ الصف الرابع الإبتدائى حينًا، ومنذ الصف الأول الابتدائى حينًا آخر، بل منذ رياض الأطفال، وأغرتهم أيضا باستبدال الرموز العربية فى دراسة العلوم والرياضيات برموز إنجليزية، كما أنشئت فى مصر مدارس حكومية للغات على غِرار المدارس الأجنبية، بل تعتمد علة المناهج الأمريكية أو الإنجليزية.

إن أي جهود تبذل لتعليم اللغات الأجنبية مقبولة وجيدة بشرط ألا تؤدي إلى ازدواج الشخصية اللغوية ، لأن النتائج التي ستترتب على ذلك وخيمة ،أقلها فقدان الحساسية اللغوية للغة الأم ،مما قد يؤدي إلى التخلف الدراسي أحيانا ، واهتزاز الشخصية أحيانا أخرى ، فَتَعلُّم أى لغة أجنبية مطلوب، بل واجب، لاكتساب مزيدٍ من الخِبرات و تحصيل المزيد من العلوم، والاطّلاع عى كل جديد فيها بشرط عدم قتل اللغة الأم.

لأن هناك فارقًا كبيرًا بين حالتين ينبغى ألا نخلط بينهما:

- الحالة الأولى: أن نتعلم اللغة الأجنبية لنتعرف على العلوم والأفكار التى كتبت بها، ونطّلع على أحوال أهلها ونستفيد من خبراتهم، لكننا يجب أن نظل مع ذلك أوفياء لهويتنا ولغتنا العربية، فنسجل بها أفكارنا نحن، ونصوغ بها أبتكاراتنا نحن، فتصبح لنا شخصيتنا العلمية، وطابعنا العلمى، وثقافاتنا العلمية التى يمكن أن يفيد منها متوسط الثقافة ورفيع المعرفة. هذا هو حال الشعوب التى يكون التفوق فيها جماعيًا وليس فرديًا، ويكون الابتكار فيها بالجملة. ولنا فى جامعات أوربا مثلا. فالإنجليزي قد يتعلم العربية ويطّلع على علومها ويتخصص فيها، وقد يتعلم الفارسية، أو الصينية، لكنه لابد أن يكتب أبحاثه بالإنجليزية، حتى لو كانت رسالته فى النحو العربى، لأنه إنما يكتب هذه الرسالة لتعزيز هويته الإنجليزية، وإثراء لغته الوطنية ، ولا يسمح في الجامعات البريطانية أبدا أن تكتب أي رسالة علمية إلا باللغة الإنجليزية حتى لو كانت – كما قلنا - عن النحو العربي.

- أما الحالة الثانية: فهى أن نتعلم اللغة الأجنبية لنكتب بها، ونعلم بها، ونتعلم بها، ونبحث بها، ونفكر بها، ونتخذها بديلا للغتنا، وفى هذه الحالة، إما أن ننسلخ من هويتنا المتأصلة فى نفوسنا إلى هوية جديدة، فنصبح عربًا بالنسب والسلالة فحسب، وأمريكيين أو بريطانيين أو ألمان بالثقافة والحضارة والهوى والهوية والانتماء الحضارى، وإما أن نلهث وراء الابتكارات العلمية غير ملاحقين لتطورها السريع، فاقدين قدرًا كبيرًا من طاقاتنا العقلية فى الوسائط اللغوية، عندئذ نصبح مجرد مستهلكين للعلم، غير مبتكرين له، إلا النادر من باحثينا ، الفذّ الذى لايقاس عليه، والذى يتحول فى كثير من الأحيان إلى مترجم، أو ناقل للعلوم، أكثر منه باحثًا أو مبتكرًا فى مجالها ، وفي أحسن الأحوال لا يفعل إلا كما كان يفعله جحا "يغرف من البحر ليصب في البحر".

 

من يقرأ مقدمة ابن خلدون يجده يشير إلى حالة تكاد تكون مشابهة لما نتحدث عنه، إذ يرى أن الإنسان الذى ولد ونشأ فى أحضان ثقافة معينة، واكتسب لغة هذه الثقافة منذ طفولته، حتى صارت له سليقة، يستطيع هذا الإنسان أن يستوعب العلوم المكتوبة بهذه اللغة التى تعلمها منذ الصغر أسرع من الإنسان الذى تعلم عن طريق لغة أخرى، غير اللغة الأصلية، وأن المتعلم بلغته يستطيع أن يبدع فى هذه الحالة أكثر من الأخر الذى تعلم بلغة أجنبية، ويعلل ذلك بأن الأول يدَّخر كل طاقاته الذهنية للعلوم نفسها، ولايضيّع قدرًا يكاد يذكر فى الوسائط اللغوية، بخلاف الآخر الذى لايمكنه أن يبدع إلاإذا تمثَّل اللغة وتقمَّص طرق تفكير أهلها، وصارت هذه اللغة الثانية سليقة، تَحُلُّ مَحَلَّ اللغة الأولى، حيث يفكر بها ويشعر بها عن طريق التصوّر، يقول ممثلا باللغة العربية التى كانت لغة العلم فى عصر الحضارة العربية: «أصبحت العلوم كلها بلغة العرب ودواوينها المسطرة بخطهم، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية فى لسانهم، دون ما سواه من الألسن» ثم يقول عن حال العجم عندما يتعلمون العلم باللغة العربية: «اللغة ملكة فى اللسان .. فإذا تقدمت فى اللسان ملكة العجمة صار (صاحبها) مقصرًا فى اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت فى صناعة بمحلٍّ فقل أن يجيد صاحبها ملكة فى صناعة أخرى، وهو ظاهر، وإذا كان مقصرًا فى اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية اعتاص عليه فهم المعانى منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم، حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يُرْبَّون مع العرب، قبل أن تَسْتَحكِم عجمتهم، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم ولا يكون عندهم تقصير فى فهم المعانى من العربية»، ثم يقول مبينًا السر فى تفوق العجم فى علوم العرب: «وربما كان الدؤوب على التعليم والمران على اللغة وممارسة الخط يقضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده فى الكثير من علماء الأعاجم، إلا أنه فى النادر .. ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النَّسب، لتداول الحضارة فيهم التى قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات، ومن جملتها العلوم، وأما عُجمة اللغة فليست من ذلك وهى المرادة هنا ».(1)

ابن خلدون ههنا يقرر عدة مبادىء نرى أنها صادقة هى:

1- أن الإنسان الذى يسبق له منذ طفولته أن تعلم لغة ما، عن طريق الممارسة و المعايشة فصارت له هذه اللغة سليقة، قلَّما يَبْرع فى اللغة الثانية التى يتعلمها بعد ذلك براعته فى اللغة الأولى، لأن ما استقر فى وجدان الإنسان وهو طفل من منطق اللغة وتطوراتها لا يمكن محوه محوًا كاملا ،فاللغة الأم هى لغة واحدة فقط .

2- أن الذين يتعلمون العلوم باللغة الأم، التى هى اللغة الأولى يكونون أَسرعَ تعلُّمًا من نظرائهم الذين تعلَّموا العلوم عن طريق لغةٍ أجنبيةِ عليهم ويكونون أكثر استيعابًا من نُظرائهم الذين تعلموا عن طريق اللغة الثانية.

3- أن من يتمرَّس على لغة أجنبية ويُطيل دراستها ويكون ذهنه مهيئًا لذلك قد يستوعبها، ويجيدها، ويصبح مثل أبنائها، وقد يُبدع فيها وفى علومها، لكن هذه الحالة نادرة، وشاذة لايقاس عليها، ولايمكن الاعتماد عليها فى التطور العام للشعوب والحضارات.

4- أن هذا الحكم لايتعارض مع الحقيقة التاريخية التى أقرها ابن خلدون، وهى أن أكثر العلماء المبدعين فى الحضارة الإسلامية كانوا من الأعاجم، لأن هؤلاء العلماء كانوا قد ولدوا ونشأوا عربًا، وفى بيئات عربية، فأصبحت اللغة العربية هى لغتهم الأم، ولا يَضيرهم فى شىءٍ أن تكون جذورهم وسلالاتهم من الأعاجم، فهم عرب، لغةً، وحضارةً، ودينًا، وموطنًا.

إن الانتماء الحضارى إذًا مساوٍ بل متلازم مع الابتكار الحضارى، ولن يتأتى الشعور بالانتماء إلا عن طريق الثقة بالنفس، وأول درجات الثقة بالنفس الثقة فى العقل والمنطق واللغة القومية ،وقد سبق لرينان وتلاميذه من مبرري الاستعمار الغربي أن شككوا في العقل العربي، ويأتي الآن دور التشكيك في اللغة العربية.

ولا أقصد بالانتماء هنا مجرد النسب أو العرق، بل الانتماء اللغوى والحضاري، فكل ما ابتُكِر بالعربية وفي المنظومة الثقافية والعلمية العربية فهو من الحضارة العربية، ولو كان أصحابه من غير العرب، وكل ما أُبدع وابتُكر باللغة الإنجليزية وفي ظل المنظومات العلمية الغربية فهو من الحضارة الغربية، الإنجليزية أو الأمريكية، ولو كان المبتكرون له من أصول عربية، أو هندية، أو يابانية. فالمعيار فى الهوية هو اللغة والثقافة لا النسب، العربى هو من جُيِل وتكلَّم العربية بصفتها لغته الأم، وتمثَّل الحضارة العربية. والصينى هو من يتكلم الصينية بصفتها لغته الأُم ولذلك فإن ما أنتجه العلماء العرب في أمريكا من ابتكارات يعد أمريكيا لا عربيا.

والعلوم عندما تدون باللغة التى يستخدمها الناس فى شعب من الشعوب، ينشأ عنها ما يُعرف بالثقافة العلمية، فلا يصبح العلماء فيها منعزلين عن الناس مثل الكهنة فى مصر القديمة، بل يطَّلع المثقفون وأنصاف المثقفين على مبتكرات العلوم، ومن ثَمَّ تنشأ قاعدةٌ عريضةٌ من صِغار العلماء والمبتكرين، بل سوف يؤدى ذلك إلى تشجيع التفكير العلمى والسلوك العلمى الحضارى، لأن الحضارة ليست مجموعةً من القواعد العلمية، بل هى منظومةٌ من السلوكيات والعادات العلمية، عندئذٍ تنمو الحضارة، ويزيد عدد المبتكرين، فيتحول الشعب نفسه إلى شعب مبتكر، كلٌ فى مجاله ، بل يزداد وعيه ومن ثم حريته. إن أكبر ما نعانيه الآن فى الشعوب العربية هو فقدان القدرة على الابتكار فى المجالات المختلفة حتى في أبسط الأمور.

فالفلاح المصرىُّ مثلا ما زال يصنع الجُبْن و الخبز بالطريقة التى كان يصنعه بها الفراعنة، وكان يستخدم إلى عهدٍ قريبٍ أدواتِ رفع المياه التى ابتكرها «أرشميدس» [ الساقية ]ولم يعدل الفلاح فيها شيئا .

ولم يضف العلماء العرب الذين يمارسون مهنهم العلمية فى البلدان العربية الآن شيئًا كثيرًا للعلم يمكن أن يُحْسب للحضارة العربية، أما القلة التى ابتكرت فى مجالات العلوم فى الغرب فلا تُحْتَسب ابتكاراتهم وإضافاتهم – كما قلنا - للحضارة العربية أو للعرب، لأنهم غَدَوا جزءًا من منظومات حضارية أخرى، وكتبوا أبحاثهم بلغات أخرى، وفى بيئات أخرى أجنبية. هم عرب فقط من حيث السلالة، لكنهم ليسوا عربًا من حيث العلم ومناهج البحث العلمى ومؤسساته.

إن عدم استخدام اللغة العربية فى تقييد العلوم، وإن لم يكن هو السبب الوحيد والأهم فى هذه المشكلة غير أنه أحد الأسباب التى أدت إليها وتعمل على تفاقمها فى الحاضر والمستقبل.

 

لكن دارس العلوم والباحث فيها الآن تصادفه مجموعة من العوائق أمام استخدامه للغة العربية فى تسجيل أبحاثه وهي التي يتحجج بها دعاة التغريب، من هذه العوائق:

1- عدم وجود رصيدٍ علمىٍ معاصر مكتوب باللغة العربية، يمكن أن يَعْتمد عليه الباحث فى أى علمٍ من العلوم الطبيعية أو الطبية أو غيرها

2- أن الأبحاث والمؤتمرات العلمية والندوات العالمية تدار بالإنجليزية وأن كتابة الأبحاث بالعربية سوف يؤدى إلى عزلة الباحثين عن المستجدات العالمية.

3- اللغة العربية نفسها تفتقر إلى المصطلحات العلمية التى تلبى حاجة العالِم المتخصّص.

4- أن أكثر المبتكريين فى مجالات العلوم المختلفة ليسوا عربًا ولالغتهم العربية.

وهذه في الحقيقة ليست عقبات ، لأننا لا ندعو إلى مقاطعة تعلم اللغات ، بل نشجع تعلمها بشدة ، لكننا ندعو العلماء أن يقرأوا بكل اللغات ثم لا يصبوا ما ابتكروه في البحار التي أخذوا منها – حسب نظرية جحا- بل في البيئة التي تحتاج إليهم .

إن تذليل هذه العقبات بشكل كامل لن يتم بصورة سريعة بل عن طريق خطة طويلة الأمد، هذه الخطة تعتمد على النقاط التالية:

1- أن تُلْزِم الجامعاتُ العربيةُ باحثيها فى كل مستوياتهم وفى كل المجالات العلمية بكتابة أبحاثهم باللغة العربية، وفى المرحلة الأولى (لمدة محددة) يُكْتب البحث باللغة الأجنبية وترفق نسخة باللغة العربية. على أن تكتب الأبحاث بعد هذه المرحلة باللغة العربية فحسب، مهما كانت مصادر هذا البحث ومراجعه.

2- قيام اتحاد الجامعات العربية أو جامعة الدول العربية بإنشاء مؤسسة ضخمة للترجمة، تكون مهمتها ترجمة مبتكرات العلوم المختلفة، من اللغات المختلفة، وتكون هذه المؤسسة مزودة بأحدث البرامج، والمعدات وأكفأ المترجمين وتحظى بدعم مالى سخى.

3- إنشاء مركز عربى، على المستوى العربي، لتطوير اللغة العربية، تكون مهمته أكثر مرونة وفعالية من المجامع اللغوية.

ثانيًا: العامل الثاني من عوامل فقدان اللغة العربية دورها المؤثر في تعزيز الهوية العربية ولع المغلوب بتقليد الغالب:

فالعلماء العرب يفتقدون الحماسة لاستخدام العربية فى كتابة أبحاثهم العلمية، أو فى التدريس بها فى الجامعة، لأن استخدامهم اللغات الأجنبية يكسبهم وجاهة اجتماعية بل سلطة من نوع ما، ويجعلهم ذلك ينتمون – ولو شكلا - إلى طبقة أرفع من طبقات العامة ، أشباه أوروبيين، انبهارًا بالحضارة الغربية، والتحاقًا بركبها، وتمثلا بمظاهرها وشكلياتها ، اعتقادًا منهم بأن الحضارة لاتتجزأ،وأن من أراد أن يسير فى ركبها فعليه أن ينغمس فى غُمار حسناتها سيئاتها، علمها وعادات أهلها، فيلبس المنبهر بها ما يلبسون، ويأكل ما يأكلون، ويشرب كما يشربون ، ويعيش كما يعيشون، فتتلاشى هويته الحضارية فى هوية الحضارة الجديدة.

إن هذه الحالة يمكن تسميتها بالانجذاب الحضارى، وهى حالة قد تصيب العلماءَ، كما قد تصيب العامة، وقد أشار إليها ابن خلدون فيما أطلق عليه:

« ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب » وهذا الداء هو أخطر داء يمكن أن يقضى على الهوية القومية، ويجتث جذورها، والتاريخ خير شاهد على ما نقول.

فعندما فتح العرب البلاد التى كانت موطنًا لحضارات كبرى، مثل الفارسية والرومانية لم يكونوا يحملون معهم علما يُذْكر، لكن بعد القرن الأول الهجرى أصبحت اللغة العربية هى لغة العلوم والفنون في جميع هذه البقاع ، وتخلَّى الفرس عن الهوية الفارسية واللغة الفارسية، واستخدموا العربية، وفعل مثل ذلك السُّريان فى سوريا، والقبط فى مصر، ولم يأت القرن الثانى حتى كانت الهوية الفارسية قد اضمحلت، ومعها اللغة الفارسية، وكانت الهوية الرومانية قد انحلت ومعها اللغة اللاتينية.

واقرأ معى هذا النص الذى كتبه رجل فارسى الأصل، هو أبو الريحان البيرونى، فى كتابه « الصيدنة » فى القرن الرابع الهجرى حيث يقول:

« وإلى لسان العرب نُقلتْ العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت إلى الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها فى الشرايين والأوردة، وإن كلَّ أُمة تَسْتحلى لُغَتَها التى أَلِفَتْها واعتادتها واستعملتها فى مآرِبها مع أُلاَّفها وأشْكالها، وأَقِيسُ هذا بنفسى، وهى مطبوعة على لغةٍ لو خُلِّد بها عِلم لاسْتَغرَبَ استغرابَ البَعيرَ المِيزَاب، والزَّرَافَةَ فى العراب، ثم منتقلة إلى العربية والفارسية، فأنا فى كل واحدةٍ دخل، ولها مُتكلِّف والهجو بالعربية أحبُّ إلىَّ من المدح بالفارسية، وسيعرف مِصداقُ قولى من تأَمَّل كتاب علم قد نقل إلى الفارسىّ كيف ذهب رَوْنَقُه وكَسَف بالُه واسْودَّ وَجْهُهُ، وزَال الانتفاع به، إذ لاتصلح هذه اللغة إلا للأخبار الكِسْروَيةِ والأسمار الليلية ».(2)

فهل كانت اللغة الفارسية حقًا لاتصلح لتدوين العلوم فى عصر البيرونى؟ هل فعلا كان الكِتَابُ ـ كما وَصَفَ ـ يذهب رونَقُه ويكسف بالُه ويَسْودُّ وَجْهُهُ إذا نُقِل إلى الفارسية؟! أم أن البَيرونىَّ قد انْجَذَبَ للحضارة العربية الإسلامية، انجذابًا جعله يخلع إهاب الهوية الفارسية والتعصب للغتها، ويتخذ العروبة هوية والعربية لغةً والإسلامَ دينًا؟

إن هذا الجانب الثانى هو الذى جعله يقول بأن الهجو بالعربية عنده أحبُّ إليه من المدح بالفارسية، رغم أنه لايكره الفرس باعتبارهم جنسًا، بل يعتز بهم لأنهم أهله، ولا يُحِب العربَ باعتبارهم جنسًا، بل يصورهم فى كتاباته الأخرى فى صورة سلبية وإنما يحب العربية .

والمستشرق الروسى كراتشوفيسكى يرى هذا الرأى، ولذلك فإنه لايأخذ كلام البيرونى عن سوء حال اللغة الفارسية على أنه شهادة تاريخية معتمدة بالنسبة لتاريخ هذه اللغة، بل يقول معقبًا على كلام البيرونى السابق: « وإذا كان البيرونى قد غَمَط الفارسيةَ حَقّها فى أن ترتفع إلى مصافّ لغة علمية فإن واقع الأحوال حتى عصره يشير إلى النقيض، ولعله لم يكن على علم بذلك، أو أنه تجاهله عن قصد ».(3)

لقد كان كراتشوفيسكى حذرًا فى شىء من المداعبة عندما وصف البيرونى بأنه ربما لم يكن على علم باللغة الفارسية ، وهو ـ أى البيرونى ـ ابن هذه اللغة أصلا، وهى لغته الأم، ولم يكن وقتها فتى صغيرًا يمكن أن يجهل أمور أهل موطنه، بل كان فى أخريات حياته ، فقد صرح كراتشوفيسكى نفسه بأن البيرونى كتب هذا الكتاب الذى وردت فيه عبارته عن اللغة الفارسية بعد خمسين سنة من كتاب آخر له.

لقد انسلخ البيرونى من هويته الحضارية كما انسلخ العلماء السريان والمصريون والنبط والفرس، فانزوت اللغات والهويات السريانية والمصرية والنبطية وتراجعت اليونانية واللاتينية لتتبلور فى لغة واحدة وهوية قومية واحدة هى الهوية العربية الإسلامية لأن اللغة التى لا تدون بها العلوم تندرس وتزول ، والهوية القومية التى تزول لغتها ولا تجد من أبنائها الحماسَ والعصبية لها فإنها تتلاشى أيضًا فكلاهما وجهان لعملة واحدة.

والدليل على ذلك أن أول سلاح يلجأ إليه الاستعمار للقضاء على الهوية القومية للشعوب المُسْتَعْمَرة هو انفصال اللغة عن مجال العلوم ، ومن ثم القضاء عليها ، فَعَلَ ذلك الاستعمار الفرنسى فى شمال أفريقيا ، وفعل ذلك الإنجليز عندما احتلُّوا مصرَ عندما جعلوا التعليم بالإنجليزية عام 1892م.

إن أزمة العربية هى أزمة هَويَّة ، وقد تجاوزت هذه الأزمة لغة العلماء إلى اللغة المستخدمة على ألسنة العامة ، إذ انتشر التغريبُ على ألسنة المتحذلقين وضِعاف النفوس ، فأصبحت الكلمات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية على واجهات المحلات وعلى زجاجات المشروبات ، فاللغة إن قصرت عن العلم فهل سوف تكون قاصرة عن تسمية حانوتٍ أو عن الإعلان لمشروب معين ، حتى نقرأ عبارات مثل " سنبل كو " و" ميمي كو" ، بل هى الهوية التى اختلَّت والشخصية التي اهتزَّت أصولُها.

ويعود السبب فى هذه الأزمة إلى عدم الوعى الحضارى الناشىء من قصور فى وسائل الإعلام العربية فى التوعية ، ومن سلبيات التعليم والمناهج فى الوطن العربى . ولابد من النظر إلى هذين المحورين بعينى الجِد ، فلابد من وضع استراتيجية إعلامية عربية هدفها تقوية الهوية العربية والمحافظة على اللغة العربية، فى كل وسائل الإعلام. ولابد من وضع استراتيجية موحدة لتعليم اللغة العربية فى كل وسائل الإعلام. ولابد من وضع استراتيجية موحدة لتعليم اللغة العربية فى الوطن العربى، ووضع مناهجَ موحدةٍ تُدرَّسُ لجميع العرب.

ثالثًا :من أسباب ضعف الدور المنوط باللغة في تعزيز الهوية المفهوم الخاطىء للقومية العربية:

إذ إن جانبًا كبيرًا من ضعف الهوية القومية والذى يعزى إلى اللغة العربية فى كثير من بلدان الوطن العربى يعود إلى سلبيات كثيرة فى تعليم اللغة العربية فى مراحل التعليم قبل الجامعى، ويتمثل ذلك فيما يلى:-

أن الفلسفة التى وضعت لتعليم اللغة العربية فى المدارس والاستراتيجية العامة لهذه المادة كانت خاطئة ، وكان تطبيقها خلال النصف الثانى من القرن العشرين خاطئًا أيضًا ، وأدى إلى نتائج عكسية ، كان من ثمارها ضعف الهوية العربية ، وضعف الطلاب والخريجين فى اللغة العربية ، وانسلاخ عدد كبير من أبناء الوطن العربى من الانتماء له.

ذلك أن الموجة القومية التى نشأت مع بداية القرن العشرين وازدهرت فى الوطن العربى بعد الحرب العالمية الثانية صاحبتها دعوة إلى قومية اللغة العربية ، بمعنى أن يُنْظَرَ إلى اللغة العربية على أنها لغة العرب ، ولمَّا كانت الدعوة إلى القوميات فى الشرق الإسلامى كله قد قامت على أَنْقاض فِكرة الجامعة الإسلامية، التى كانت تعتمد على وحدة الدين الإسلامى، ووحدة اللغة العربية باعتبارها لغة هذا الدين ، فأن القوميات أنكرت عناصر هذه الوحدة ، فألغت تركيا الكمالية الخلافة الإسلامية، وعطَّلَتْ تدريس الدين الإسلامى في مدارسها، ومنعت الكتابة بالعربية في مختلف الأعمال، ونفت عن التركية كل لفظ أصله من اللغة العربية ، واستقلَّت إيران الشاهنشاهية بالقومية الفارسية واللغة الفارسية ، وظهرت فكرة القومية العربية فى لبنان وسوريا ، والقومية المصرية فى مصر ، وظهر طه حسين بكتابه « مستقبل الثقافة فى مصر » عام 1938 ليقول : « ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد ، بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للوحدة السياسية ولا قوامًا لتكوين الدول»(4).

ومعنى ذلك أن طه حسين فى كتابه هذا ـ الذى اتخذه السَّاسة ومخططو التعليم بعد ذلك نِبراسًا لهم ـ يستبعد أن يكون الدين أو تكون اللغة عنصرًا من عناصر الوحدة السياسية ، والذى دفع طه حسين إلى ذلك أنه وجد دُولا مُوَحَّدةً مثل الهند وسويسرا تتعدد فيها اللغات والأديان ، رغم أنه لا يَخْفَى على مِثله أن تَعدُّد الألسنة أو الأديان ـ وإن كان موجودًا فى هذه الدول ـ ليس عاملا من عوامل التوحُّد ، بل هو مُعيقٌ له وعقبة يحاولون إيجاد الحلول لها ، وهذا (ت . س إليوت) يقول : « إن القوة الرئيسية فى خَلْقِ ثقافةٍ مُشْتَرَكةٍ بين شعوب لكل منها ثقافته المتميزة هى الدين »(5).

 

ويقول: « ومن الواضح أن وَحدة الشعب الذى يعيش معا ويتكلم لغة واحدة هى نوع من وحدة الثقافة، لأن التكلم بلغة واحدة معناه التفكير والشعور والانفعال بطريقة مختلفة عن شعب يستخدم لغة مختلفة(6).

إن طه حسين فى مشروعه الثقافى هذا أراد أن يَفْصِل اللغة العربية عن الدين الإسلامى، بحيث تكون هذه اللغة مِلْكًا للشعب كُلِّهِ مسلمين ومسيحيين، وأن تُعَالج هذه اللغة معالجةً ماديةً نفعيةً تَخْدم الحياة ، لا ما بعد الحياة ، ولذلك نادى بأن يَرْفَعَ الأزهر يَدَهُ عن تعليم هذه اللغة ، بل نصح بعدم اتخاذ الأزهريين أو الدرعميين مُعلِّمين للغة العربية فى المدارس ، وسارت الأمور بعد ذلك فى الطريق نفسه الذى اختطه طه حسين ، وبخاصةٍ بعد الثورة المصرية سنة 1952 والثورات الاشتراكية العربية التى قامت بتأثير من المد القومى للثورة المصرية فى عهد عبد الناصر ، لأنها وجدت هذا الاتجاه متلائمًا مع مقاصدها ، ومخالفًا لأهداف الحركات الداخلية المناوئة لها.

أصبحت اللغة العربية فى الوطن العربى منذئذ ذات طابع قومى عَلمانى، يتعلق بالقومية العربية ذات النَّكْهةِ الاشتراكية ، ويرتبط بها، وانفكت علاقتها بالدين الإسلامى والقرآن الكريم والثقافة والهوية الإسلامية ، وقد جلب ذلك عدة معضلات ومشاكل ، هى الآن من أكبر المشاكل التى تهدد الوطن العربى، وهى أن قومياتٍ عرقيةً كبيرةً فى الوطن العربى أخذت تنادى بهويتها المستقلة، مثل القومية الكردية واللغة الكردية والقومية البربرية واللغة الأمازيغية ، وقموميات أفريقية فى جنوب السودان وبلاد النوبة ، وكان مجرد ارتباط العروبة بالإسلام من الناحية الحضارية يُخْمد جَذْوةَ هذه الفتن ، علما بأنه ليس هناك تعارضٌ بين العروبة والإسلام ، فأهل كردستان يَقْبَلونَ اللغة العربية إذا دَخلت عليهم من زاوية أنها لغة الحضارة الإسلامية العربية ، ومِثلُ ذلك البربر والأفريقيون ، بل سوف يُقْبل عليها كافة المسلمين فى العالم لأنّ تَعلَّمها واجبٌ عليهم ، كما يرى الشافعى ،ولآنها ليست لغة العرب وحدهم بل اللغة الرسمية للإسلام ، وقد عاش أقوامُ من أعراق مختلفة ومن ديانات مختلفة فى ظل هذه الحضارة ، وهم يعتزون باللغة العربية ، ردحًا من الزمن ، يقول الأستاذ أمين الخولى مؤيدًا ذلك : « وما أَصدقَ ما سَمِعْتُه من وزيرٍ كردىٍ فى العراق يقول : لو جاءونا بالعربية عن طريق الإسلام لقبلناها مُرَحِّبين ، أما بهذه العصبية لا غير فليس ذلك سهلا على نفوسنا »(7).

أيًا كان تأثير هذه الخطَّةِ ذات الاتجاه القومى العلمانى فى تعليم اللغة، فإن تنفيذها فى مصر سار فى اتجاهين ، أحدهما سلبى يعتمد على هدم النظام القديم، وثانيهما إيجابى يقوم على تطوير اللغة ، وقد نُفِّذَ الاتجاهُ الأولُ تنفيذًا دقيقًا ، وعلى مراحل متتاليةٍ:

أما الاتجاه الآخر فقد توقَّفَ ، ولم يتقدم خطوةً واحدةً .

  • أول: الاتجاهين هو فصل تدريس مادة اللغة العربية عن حِفظ القرآن الكريم وعن مادة الدين الإسلامى فى المدارس.
  • وثانيهما: تطوير اللغة العربية نفسها حتى تتلاءم مع حاجات العصر.

سار الاتجاه الأول عبر عدة مراحلَ تشريعيةٍ انتهى أمرها إلى إلغاء مادة القرآن الكريم من المدارس الابتدائية ، وجعل مادة الدين لا تضاف إلى مجموع درجات الطالب فى كل المراحل.

يبدو ذلك واضحًا خلال استعراض القوانين التى صدرت فى مصر منذ سنة ثلاثينيات القرن الماضي حتى الآن ، والخاصة بتنظيم مادة اللغة العربية ومادة القرآن الكريم ومادة الدين الإسلامى فى المدارس المصرية ، ففى الثلاثينات من القرن العشرين ـ أى فى الفترة التى كتب فيها طه حسين كتابه « مستقبل الثقافة فى مصر » كان تعليم هذه المواد الثلاثة يخضع للقانون رقم 46 لسنة 1933، وكان ينص على أن هناك ثلاث مواد تُدَرَّسُ ضمن منهج التعليم العام منذ السنة الأولى الابتدائية، هى: اللغة العربية ، والقرآن الكريم ، والدين الإسلامى ، وكان يَنُصُّ على الالتزام بفتح مجموعاتٍ لحفظ القرآن الكريم ، فى غير أوقات الدراسة ، فى كل قريةٍ أو مدينةٍ، يَلْتَحِقُ بهذه المجموعات كُلُّ من يريد التزود بحفظ القرآن الكريم وتجويده. كما نص القانون على أن النجاح فى هذه المواد شرطٌ للحصول على الشهادة.

لكن القانون رقم 143 لسنة 1951 والذى صدر بعد تولى طه حسين مناصب مسئولةً عن إدارة نظام التعليم فى مصر ، اقتصر فى المرحلة الابتدائية على تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم ، دون التربية الدينية ، كما اقتصر فى المرحلة الثانوية على التربية الدينية دون مادة القرآن الكريم ، كما أنه حَدَّدَ بدْءَ حِفظ القرآن الكريم بالسنة الثالثة من التعليم الابتدائى ، بعد أن كانت هذه المادة تبدأ منذ الفرقة الأولى فى القانون السابق ، إلى جانب مادة الدين الإسلامى التى أهملها هذا القانون ، كما أن هذا القانون لم يلزم وزارة المعارف بإنشاء مجموعات لتحفيظ القرآن الكريم فى القرى والمدن، بل تركها اختيارية، كما أنه لم يجعل النجاح فى مادة القرآن الكريم شرطًا فى الحصول على الشهادة الابتدائية.

ثم جاء القانون رقم 210 لسنة 1953 ليعيد دراسة الدين مرة اخرى للمرحلة الابتدائية ، لكن هذا الإجراء كان حبرًا على ورق ، لأنه نص أيضًا على تفويض وزير التعليم وتخويله سلطةً مطلقةً فى تحديد المواد التى يُمْتَحن فيها التلاميذ ، الأمر الذى يُمَكِّن أىَّ وزيرٍ من إلغاء مادة القرآن الكريم والدين الإسلامى من المدارس الابتدائية إذا اقتضى الأمر ، كما أن هذا القانون نص على إنشاء مدارس ثانوية ، ومنها مدرسة للقرآن الكريم وتجويده ، يدخلها الطلاب ذوو القدرات المحدودة ، والذين لم يتمكنوا من دخول المدارس الثانوية، مما جعل المتخصص فى القرآن الكريم ضمن هذه الفئة الضعيفة.

وعندما تم تقسيم التعليم قبل الجامعى إلى ثلاث مراحل (ابتدائى وإعدادى وثانوى) بالقانون رقم 211 لسنة 1953 ثم القانون رقم 213 لسنة 1956 استبعد مادة القرآن الكريم من المرحلة الإعدادية التى كانت حسب القانون السابق جزءًا من المرحلة الابتدائية، ولم يجعل الدينَ أَحدَ مواد الامتحان فى الشهادتين الإعدادية والثانوية.

وأخيرا جاء القانون 139 لسنة 1981م الذى استبعد مادة القرآن الكريم من جميع المراحل التعليمية، كما أنه جعل مادة الدين لاتُحْتَسبُ ضمن مجموع درجات الطالب فى أى فرقة من فرق التعليم، مما جعلها مادة هامشية لايَعْتنِى بها الطالبُ أو المعلم، كما أَجْهَزَ هذا القانونُ تمامًا على فِرَقِ تحفيظ القرآن الكريم فى المدارس الابتدائية.

أما الاتجاه الآخر الإيجابى المتمثل فى تطوير اللغة العربية فلم نر له أثرًا.

لقد أدى غياب مادة القرآن الكريم إلى ضَعف الطُّلاب فى اللغة العربية، كما أدى عدم تطوير اللغة نفسها ـ فى ظل هذا الغياب للهدف الدينى الحضارى ـ إلى أن يصبح تعلم اللغة العربية خاليًا من المضمون والهدف، عديم القيمة وبلا ممارسة.

إن حفظ القرآن الكريم كان هو المدرسة الحقيقية التى استقامت عليها ألسنة سعد زغلول والنحاس باشا بل مكرم عبيد، لكن غياب هذه المادة أخرج جيلا من أصحاب هذه الألسنة المعوجة والهوية الضعيفة المشوشة.

كما أن عملية التطوير التى أجريت للتعليم الدينى المتمثل فى الأزهر، كانت ذات نتائج سلبية كثيرة، فلم تَعْمَدْ هذه العملية إلى تطوير المناهج الدينية بل عمدت إلى ذبولها وضمورها.

ففى عام 1962 عندما طُبّق النظام الجديد للأزهر أضيفت المواد التى يَدْرُسُها الطالب فى التعليم العام إلى المواد الأزهرية القديمة بقرارٍ غير متدرجٍ ولا مدروس، فأصبح الطالب مُحَمَّلًا بمنهجين فى وقت واحد.

المنهج الجديد وقد أُدخلَ دون دراسة احتياجات المعاهد الدينية التي تطلبتها هذه المواد من معلمين أكفاء ومعامل ، والمنهج القديم الذى لم يَحْدُث فيه أى تطوير، وكان المأمول ـ إذاكان يراد التطوير حقيقة ـ أن يُعْهَدَ إلى مجموعة من العلماء بتأليف مناهجَ عصريةٍ تتلاءم مع العقل المعاصر، فى شتى المناهج اللغوية والدينية، بل تُرِكَ الطالبُ أَواخرَ القرن العشرين لدراسة كتاب « المَلَّوِى على السُّلَّمْ » فى المنطق، وكتاب « الجَوْهَرةِ » فى التَّوْحِيد وكتاب «اللَّبابِ» فى الفقه، وشذورِ الذَّهَبِ وابن عقيل فى النحو والصرف»، وهى كتب كانت تدرَّس فى العصور المملوكية والعثمانية.

وإذا أضفنا إلى هذين العنصرين المتعلقين بفشل السياسية التعليمية فى مجال اللغة العربية فى كل من الأزهر والتعليم العام عنصرين آخرين.

أحدهما: دور وسائل الإعلام السلبى فى تصوير معلم اللغة العربية بهذه الصورة الرجعية الساخرة في الأفلام والمسرحيات إبان وبعد المَدّ الاشتراكى وسيطرته على وسائل الإعلام.

وثانيهما: عدم الاكتراث من قِبَلِ وُجَهاءِ المجتمع وقادتِه بالتَّحَدُّث باللغة العربية ولا يستحون من أميتهم اللغوية، بل يجاهرون بجهلهم بها على شاشات التليفزيونات وأبواق الإذاعات العربية.

إذا أضفنا هذين العنصرين اتَّضَح لنا جليًا السر فى ضعف اللغة العربية على ألسنة أبنائها ومن ثم ضعف الهوية العربية.

إن علاج هذا الجانب يمكن أن يتم بالخطوات التالية:

1- إعادة النظر فى استراتيجية تعليم اللغة العربية فى المدارس، بحيث تتخلى هذه الاستراتيجية عن النظرة الضيقة للمفهوم القومى، وتتبنى نظرةً أشمل، تقوم على تَبنى الحضارة العربية والإسلامية معا، نحن لانقصد الإسلام بوصفة عقيدةً، فهذا شىء آخر، بل نقصد أن تَحُّلَ النكهةُ الحضارية الإسلاميةُ محل النكهةِ الاشتراكيةِ أو العرقية فى مفهوم القومية العربية.

2- عودة مادة القرآن الكريم إلى المرحلة الابتدائية وكذلك عودة فِرَقِ تحفيظ القرآن إلى القرى والمدن ،ويمكن أن يكون الالتحاق بهذا النظام اختياريا.

3- تجديد مناهج اللغة العربية تجديدًا علميًا فى الأزهر والمدارس العامة.

رابعا: من عوامل ضعف تأثير اللغة العربية في الهوية جمود الفكر اللغوى:

فإن جانبا كبيرًا من عوائق تأثير اللغة العربية في القيام بدورها المنشود فى تقوية الهوية العربية يكمن فى عدم تطوير علومها، فالنحو العربى لم يتطور، والمعجم العربى ما زال يعتمد على معاجم سابقة، والصرف العربى هو كما كان فى البصرة والكوفة فى العصر العباسى، والكتابة العربية ما زالت مشكلاتها قائمة، والبلاغة العربية جامدة ،حتى إننا إذا قرأنا ما كتبه البيرونى عاشق اللغة العربية، وهو يقول: « لكن للكتابة العربية آفةٌ عظيمةٌ هى تشابه الحروف الـمُزْدوجَةِ فيها، واضطرارها فى التمايز إلى نَقْطِ العُجْم وعَلامات الإعْراب التى إذا تُرِكَتْ أستبهم المفهوم منها، فإذا انضاف إلى إغفال المعارضة وإهمال التصحيح والمقابلة، وذلك من الفعل عام قومنا، تساوى به وجود الكتاب وعدمه بل علم ما فيه وجهله »(8).

 

إذا سمعنا البيرونى يشكو من عيوب الكتابة فى عصره حسبناه يتحدث عن اللغة فى عصرنا، ذلك لأن المشاكل التى كانت فى عصر البيرونى ما زالت هى المشاكل التى نجدها نحن فى الكتابة العربية.

لابد إذن من ثورة فى مجال علوم اللغة العربية، تجعلها مهيأة للمستجدات الحديثة فى علوم الاتصال والحاسب الآلى. وتجعلها أكثر استجابة للبرامج الحديثة فى الترجمة الآلية والتلخيص الآلى وغيرها.

خـاتـمـة

- يمكن تلخيص المعوقات التى تحول دون قيام اللغة العربية بدورها فى تعزيز الهوية العربية فيما لى:-

1- عدم استخدام اللغة العربية فى العلوم ، وعدم توحيد هذا الاستخدام فى جميع البلدان العربية .

2- ولع العرب بتقليد الغرب.

3- تهاون العرب فى لغتهم وضعف المتعلمين فيها ، نتيجة للسلبيات التعليمية المختلفة.

4- ظهور مفهوم خاطىء للقومية ، يعمل على فهم القومية على أنها نقيضٌ للإسلامية.

5- جمودِ العلوم اللغوية.

- ويقدم البحث التوصيات التالية :-

(أ) أن تعمل الجامعات العربية على إلزام جميع الباحثين فيها بأن يُقدّموا أبحاثهم باللغة العربية فى جميع التخصصات، فى الوقت الذى تَحْثُّهم فيه بل تُلْزِمهم بتعلم لغات أجنبية تكون بمثابة المصادر والمراجع لهم فحسب ، وإذا دعت الضرورة لكتابة البحث بالإنجليزية أو غيرها كأن يكون البحث مقدمًا فى مؤتمر علمى عالمى ، فيجب أن يكون له نسخة بالعربية.

(ب) أن يتبنى اتحاد الجامعات العربية أو الجامعة العربية إنشاء مؤسسة للترجمة والتعريب فى كافة العلوم ، وأن تشارك جميع البلدان العربية فى تمويل هذه المؤسسة التى تنقل كل جديد فى مجال العلوم إلى اللغة العربية ، وتجعله ميسورًا أمام الباحثين العرب بأسعار تناسب دخلهم وأن تتولى هذه المؤسسة توحيد المصطلحات العلمية . كما يتبنى الاتحاد أيضًا مؤسسات أخرى للأبحاث التى تخدم الوطن العربى بصورة شاملة فى شتى العلوم.

(ج) أن يتبنى اتحاد الجامعات العربية أو جامعة الدول العربية مشروع توحيد سياسات تعليم اللغة العربية فى الوطن العربى ، باعتبار اللغة العربية العنصرالمشترك الذى يمكن أن يكون مفتاحًا للوحدة العربية، وأن يتولى الاتحاد رعاية المشروعات البحثية والمراكز العلمية التى تعمل على تطوير هذه اللغة وطرق تدريسها.

(د) وضع استراتيجية إعلامية عربية هدفها تصحيح مفهوم القومية العربية، والمحافظة على اللغة العربية فى مختلف البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الوطن العربي.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات