اللغة العربية وتشكيل هوية الطفل العربي

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

 

أ.د. بركات محمد مراد

 

فتح الإسلام كنوز المعرفة أمام اللغة العربية، وأفسح لها المكان اللائق بها على أعتاب تلك الكنوز العظيمة حتى تنهل من معينها فتزدهر، ويتوهج نورها، ويلمع برقها، ليضئ جنبات الأرض في الجزيرة العربية وخارجها.

 

لقد ثبتت العربية أقدامها عند تلك الكنوز، واستمرت تنهل من المعين العذب النقي وبهمة لا تعرف الخور، وبنشاط لا يعتريه الخمول والكسل، ولما ارتوت فاضت بعطائها فتدفق وانداح وتحول إلى بحر زخّار يضم في أحشائه، الحلية والدرر وأصبح محط أنظار العالم من شتى أقطار الأرض، الذين أدهشهم ذلك المد المتنامي من ذلك البحر العظيم الذي بلغ عنفوان مده أقصاه، في شباب العهد العباسي وكهولته، ذلك العهد الذي حملت العربية فيه لواء العلم والحضارة، ولوحت به للأمم قاطبة لتأتي فتستظل به، وتنتعش بنسماته الرطبة الندية قلوب ظمأى، وعقول تسعى للحياة.

 

لقد كان الحرف العربي يتأكد في ضمير الإنسان المسلم في بُعد قدسي جدير بإحاطته بكل ما يعزز مقامه، وبقدر ما كان الإسلام يُكبر من دور العلم والعلماء، كان كل ما يمت بصلة إلى الكتابة والقراءة كسبيل للعلم، قد أصبح ضربا من الإدلال على عمق الإيمان، وذلك ما يستبطنه قول النبي الكريم في أن «من وقر عالما فقد وقر ربه».

 

إن موضوع اللغة العربية من أخطر المواضيع التي تمر بنا في هذا العصر، ولقد بدأ الاستعمار بها من أول ما وضع رجليه على بلاد الشرق العربي وأول خطوة عملها هي إصدار الأوامر والقرارت بإلغاء تعليم المناهج العلمية في الجامعات والمعاهد باللغة العربية واستبدالها باللغة الأجنبية ولا تزال يعمل بها في الدول العربية حتى الآن، مع أننا نرى كل دول العالم بما فيها إسرائيل يتم التعليم في كل مرافقها التعليمية وفروع المعرفة فيها بلغتها الوطنية، مع أن الدساتير العربية تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد.

 

إن اللغة العربية هي أول لغة تحدث بها لسان بشري، وقد لا تكون مشابهة للغتنا الحالية، ولكن ما من شك بأنها تطورت عنها لأن كل الدراسات التاريخية لما يسمى باللغات السامية أو السريانية تشير بوضوح إلى أن مصدر هذه اللغات هو اللغة العربية، وأن كل هذه اللغات تفرعت عنها بسبب الهجرات وتمازج المجتمعات والحروب والمعاملات التجارية إلى غير ذلك من الأسباب وإن أحجموا عن التصريح بذلك، وإن من أوليات العمل الوطني الاهتمام بلغتنا والعودة معها إلى الحياة من جديد.

 

ومن هنا لا يكون غريبا ما يؤكده الدكتور عثمان أمين حين يقول:” وأقل تأمل يقنعنا بأن هدم اللغة العربية يحمل في طياته تقويضا لمفاهيم الإسلام: لأن العربية لغة القرآن، والقرآن -كما هو معلوم- لا سبيل إلى ترجمته ترجمة صحيحة إلى أي لغة أجنبية، والقيام بترجمة القرآن يكاد يكون جزءا من مخطط لهدم الدين الإسلامي من أساسه”0

 

وقد شهد للغة العربية بعض المستشرقين المنصفين منذ أكثر من قرن ورأى ضرورة المحافظة عليها حين قال: «اللغة العربية لغة وعي، ولغة شهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن، للتأثير في اللغة الدولية المستقبلة، واللغة العربية بوجه خاص هي شهادة دولية يرجع تاريخها إلى ثلاثة عشر قرنا».

 

ويؤكد الواقع العملي أنه كلما ارتبط قوم بلغتهم وأحبوها وتعلقوا بها فإنهم يتفانون في الحفاظ عليها وحمايتها من الخطر والذلل والسمو لرفعة شأنها والذود عنها ضد أية هجمات أو محاولات للنيل منها، أي أن الإحساس الوطني والشعور بالانتماء ليلعب دورا مؤثرا في الارتقاء بهذه اللغة، وقد اعتمدت العروبة على الدين الإسلامي كأساس لها، وأسهم القرآن الكريم في انطلاقتها الفكرية والفلسفية والقانونية، لأن العلاقة بين العروبة والإسلام متداخلة ومتفاعلة يخدم كل منهما الآخر ويدعمه، وأصبحت الثقافة العربية الإسلامية الروح والأصول، واستوعبت كل الثقافات التى تعايشت معها، فصارت بذلك ثقافة العرب المسلمين منهم والنصارى واليهود، وكل الأديان والطوائف والملل والنحل التي اندمجت في الكيان العربي الإسلامي، وعاشت في ظل الدولة العربية الإسلامية عبر الأزمنة والعصور، وهذا يعني أن كل مسيحي عربي، لابد أن يكون مسلما ثقافيا، لأن الإسلام هو أهم عناصر الهوية الثقافية العربية، وهذه الهوية هي القناع الواقي الذي يرتديه كل عربي من دون النظر إلي عقيدته ـ على ما يذكر الدكتور محيي الدين عبد الحليم في بحث له ونحن نوافقه على ذلك ـ وهذا يعني أن الهوية ليست مجرد مصطلح ديني بقدر ما هي مصطلح ثقافي مشيرا إلى أسلوب الحياة الذي يتضمن المعايير والقيم وطرائق التفكير والمعرفة والسلوك والأخلاق والمعتقدات.

 

اللغة والهوية:

وهذا يعني أن العلاقة بين الهوية والثقافة الإسلامية يتعذر الفصل بينهما، لأن الهوية هي مرآة لثقافة الأمة، وهي التي تمنحها شخصيتها التي تعرف بها بين الجماعات الأخرى، فالثقافة هي التي تحدد هوية الأمة وشخصيتها، وتدل عليها وتميزها عن غيرها، لأنه لا توجد هوية لا تستند إلي خلفية ثقافية، وكان للإسلام الأثر الفاعل في تشكيل الهوية العربية والوحدة الإسلامية النابعة من اشتراك الناس في ممارسة الطقوس والشعائر والمعاملات والعبادات وهي المرجع الأساسي لمنظومة القيم التي يؤمن بها المجتمع العربي المسلم، ذلك أن القيم قد تشكلت بناء على تعاليم الديانة الإسلامية التي كان لها أبعد الأثر في مختلف عناصر الحياة العربية.

 

وقد أكد اللغويون على العلاقة الوثيقة بين اللغة والهوية، لأن اللغة هي بمثابة الوعاء الذي تشكل فيه الهوية، وهي التي تجعل لكل مجتمع كيانه الثقافي والحضاري الذي يميزه عن سائر القوميات والهويات الأخرى.

 

ومن هنا فدعم اللغة العربية وتأهيلها متنا ووصفا، وتأهيل متكلميها إبلاغا وثقافة ومعرفة، بهدف تعزيز الهوية العربية، وإقامة تنمية مجتمعية هادفة وشاملة يقتضي استكناه تفاعل العناصر والأبعاد الحضارية والاقتصادية والثقافية الملحة التي توفر الشروط المناسبة لبقاء اللغة وانتشارها ورقيها، وتقوية فرص متكلميها ومستخدميها في الشغل والرفاه، والاندماج العلمي والاقتصادي ورسملة توظيفها والاستثمار فيها، من أجل تنمية المجتمع سياسيا وقانونيا واقتصاديا وعلميا.

 

وإذا كانت مسألة اللغة مسألة هوية وتماسك مجتمعي وتراث حضاري، ورمز سيادة تاريخية وحضارية، فهي بجانب ذلك مسألة تنموية وفكرية واقتصادية تنافسية راهنية، اعتبارا لكونها رافعة النمو المعرفي المبكر، وأداة نقل المعرفة والمعلومات إلى عموم القوى المنتجة، ولسان الإنتاج والإبداع والتواصل المعرفي/ الثقافي، عبر مراحل تكوين الإنسان وتنشئته، وخاصة في مراحل الطفولة والشباب.

 

ولقد برهنت اللغة العربية على قدرتها عبر التاريخ على تمثل وهضم واستيعاب كل العلوم والفنون والآداب، ولم يبرز العلم العربي تاريخيا بشكل متميز ومبدع إلا عندما شرع العلماء العرب والمسلمون، بدعم من السلطة، في نقل مختلف المعارف والعلوم المكتوبة باليونانية واللاتينية والفارسية والهندية والسريانية على الخصوص، إضافة إلي تملك الموروث الثقافي الضخم لهذه الحضارات، وكذلك الثقافات القديمة من فينيقية وبابلية ومصرية قديمة.

 

وتدرج العلم العربي من الترجمة والتقليد في الطب والفلك والزراعة والحساب..إلخ، إلي الإنتاج المبدع، ولقد مثلت اللغة العربية وعاء تلاقح هذه المصادر المتعددة، وتعدد العلماء عرقا ودينا في إقامة العلم العربي (أي المكتوب بالعربية) ويمثل هذا التاريخ نموذجا يبرهن على أن العلم يقوم من اللغة، أي أن اللغة (العلمية) تؤهل العلم، لا العكس، إن تملك العلم باللغة القومية يؤهل العلم واللغة، وإن السعي وراء نشر العلم باللغة العلمية المهيمنة لا يعطي النتيجة المرجوة، لقد سعى محمد على نفس المسعى فعرّب الطب في مصر، كما عرب السوريون طبهم وعلمهم ووفقوا، وفعلت اليابان وغيرها من الدول المتقدمة كبيرها وصغيرها نفس هذا المسعى، وهذا المنحى لا يتعارض ولا يتنافى، بل يتكامل وإتقان اللغات الأجنبية التي تتيح العلم الأجنبي بلغته، ثم نقله إلى اللغة الوطنية.

 

وتمثل اللغة العربية لغة ذات رمزية وقدسية بالنسبة لما يقرب من مليار وربع مسلم، فالقرآن نزل بها، وعدها علماء اللغة المسلمين أفضل اللغات، وكل مسلم ينطق بها تبركا بآيات التنزيل وحفظا للشريعة، وفهما لها، وفي حفظها حفظا للدين بعقائده وتشريعاته وأخلاقه. ولا ننسى أن اللغة العربية الآن هي اللغة الرسمية الأولى أو الوحيدة لاثنتين وعشرين دولة عربية وهي بذلك تأتي في المرتبة الثانية بعد الإنجليزية. وتمتد رسمية اللغة العربية إلي المؤسسات الدولية والإقليمية، بما فيها منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الفرعية، حيث توجد ضمن إحدى ست لغات رسمية. كما تمثل العربية اللغة البينية الوحيدة التي تمكن من التواصل الشامل في كافة الأقطار العربية. فالأمة العربية ليست وحدة دينية لوجود ديانات مسيحية ويهودية وغيرها (وإن غلب الإسلام فيها)، وليست وحدة عرقية، وليست وحدة اقتصادية أو سياسية أو أمنية إلي الآن، بل هي وحدة لغوية قبل كل شيء، قد تتولد عنها عناصر وحدة مرجوة من طبيعة أخرى.

 

إلا أن اللغة العربية، على غرار أوضاع لغات الحضارات الكبرى، يفرز نقاط قوة وضعف، وسواء تعلق الأمر بمتنها وضوابطها وسلامتها، أو تعلق بوظائفها الفعلية أو الكامنة في محيطها الإقليمي والدولي، أو في مجتمع المعرفة والمعلومات والاقتصاد. وهذا يتطلب خطة تأهيلية متجددة ودائمة للغة العربية، وإن إدارة الوضع اللغوي لصالح اللغة العربية ولصالح متكلميها أمر موضوعي وحتمي، وإن التجارب اللغوية عند العرب والمسلمين وعند غيرهم من الشعوب تفرز أهمية القرار الواضح والإرادة الأكيدة وترجمة القرار في الخطط والتشريعات التي تؤول إلي النهوض باللغة.

 

إن اللغة العربية اليوم مهددة في وجودها، مع أنها لحام الأمة الفعلي وضميرها، ووعائها الثقافي والفكري، وسبيل العبارة عن مواقفها الحضارية، وعن دينها ولسان المحافظة على هويتها وخصوصيتها. وعلى الرغم من الميزات الكبرى والتي يعلمها الجميع عن اللغة العربية، خاصة وأنها لغة ظلت حية على مدى ألآف السنين، يتكلم بها ملايين البشر، فقد أحس اللغويون بحاجة الرسم العربي إلى التطوير والإصلاح، ليكون ملائما لمقتضيات النطق في المجالات العلمية والأدبية الحديثة من جهة، ثم لاستيعاب التطور الهائل في استعماله بالحاسب الآلي وملاءمته، لذلك كانت كل الجهود التي بذلتها المجامع اللغوية، وأجهزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في العصر الحديث قد وصلت إلى نتائج طيبة في تقليل عدد الرموز الكتابية والطباعة إلى أقل عدد ممكن لأداء اللغة أداء كاملا، بعد أن كان صندوق الطباعة ضخما تزيد حروفه على أربعمائة رمز، درست هذه القضية ونالت جهود المتخصصين في مجامع اللغة، وخصوصا مجمع القاهرة، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «في إطار أهداف تعليمية، تمت تجربة التعليم عن طرق الحروف الميسرة، وعددها ثلاثون حرفا فكانت النتيجة واضحة في توفير الوقت والجهد بالنسبة للدارسين».

 

وهناك توافق على أن إدخال الشكل (أو التشكيل) يساعد الطفل على التعلم السريع للغة، وتحسين تقبلها، وجعلها تكتسب كلغة حية محملة بالمعلومات، عوض قوالب صورية ينهك التلميذ في البحث عن حركاتها، وينبغي أن يدخل الشكل كذلك في المعاجم على جذوع المفردات، ويقع ترتيب المواد حسب الحركات كذلك، لتسهيل البحث في المواد المبثوثة داخل نفس الدخلة.

 

ولا ننسى أن طريقة تعليم العربية غير جذابة، يتجلى هذا في عدم تجديد طرق التعلم والتعليم، وتجديد كفايات المدرس تربويا وتأهيله باستمرار، وتوظيف أساليب تقليدية غير جذابة تعتمد التلقين والأساليب المتجاوزة التي لا تخلق التفاعل الضروري بين المادة والمدرس والتلميذ، ونصوص غير مواكبة للعصر فكريا وتقنيا، وندرة استعمال الأدوات الإلكترونية كالأقراص المدمجة التعليمية ومحطات العمل الحاسوبية وغيرها.

 

وعامة وبعد ثلاثين سنة من العمل والدراسة توصل مجمع اللغة في القاهرة، إلى إصلاح داخلي للكتابة العربية، أصبح يطبق تطبيقا متواصلا لاسيما بجريدة الأهرام، وهي خطوة أولى في سبيل الإصلاح المتواصل وليست النهائية.

 

وهناك جهود قام بها العالم المغربي أحمد الأخضر غزال، بسّط رموز الكتابة جاعلا وضع الحركة بُعيد الحرف واختصر أشكال الحروف إلى تسعين شكلا في حين أن الطباعة اللاتينية تستعمل مائة وخمسة عشر شكلا، فأمكن أن تكون الآلات الكاتبة والمبرقات العربية مزودة بالشكل، إن في هذا إضافة طيبة لتبسيط الحرف العربي0 أما ما يثار في الإفادة من الحاسب الآلي من مشكلات الكتابة العربية بتعدد الأشكال للحرف الواحد، أو العلامات المتخذة في الكتابة كالشدة والضبط والتشكيل.. فهذا كله يخص نظام الكتابة العربية، ولكل لغة نظامها الكتابي، وتعدد النظم الكتابية لا يعني حرمانها من الإفادة من الحاسب، فهناك عدة لغات تتعدد أنظمة الكتابة فيها كخط اللغة اليونانية والصينية والفارسية واليابانية وغيرها من الأنظمة الكتابية، وكلها يختلف عن نظام الحروف اللاتينية، وعلى الرغم من هذه الفروق فقد تمت محاولة لإنشاء قواعد بيانات معجمية بالحواسيب إن هذه الجهود اللغوية تكون كبيرة الفائدة سريعة الشيوع، لو كان وراءها تخطيط لغوي، وسياسة لغوية موحدة.

 

العربية والحاسوب:

إن تضخم المعلومات وتعقدها في العصر الحديث يتطلبان سرعة ودقة في تجميعها وتحليلها وتوزيعها واسترجاعها0 لقد عجزت الوسائل البشرية للفهرسة والاستخلاص والتحليل عن ملاحقة هذا الكم الهائل من المعلومات التي تنهال علينا من مصادر عديدة ومتباينة0 تمثل المعطيات المصاغة لغويا القسم الأكبر من فيض المعلومات، ولذا فعملية السيطرة عليها لابد وأن ترتكز في جوهرها على أسس لغوية متينة.

 

وتصنف معظم مجتمعاتنا العربية ضمن تلك «الجائعة معلوماتيًّا» وحاجتنا ماسة لاستغلال مورد المعلومات كأحد المقومات الأساسية للعملية التنموية، ومرة أخرى تبرز أهمية قضية اللغة العربية والحاسب كمدخل أساسي لاستغلال هذه الموارد. لقد بات واضحاً أن الكتاب المطبوع كوسيلة لتقديم المادة التعليمية، وكذلك عدم فاعلية وسائل التعليم التقليدية الأخرى أما تضخم المادة التعليمية وتعقدها، يطرح الحاسب نفسه كبديل منطقي لزيادة فاعلية التعليم وإنتاجية التعلم، ومواجهة زخم المشاكل المتأصلة التي تعاني منها نظم التعليم «بالجملة» ذات الطابع التلقيني والسطحي.

 

ينظر الكثيرون إلى الحاسب كمصدر أمل وحيد لإحداث التغيير الحتمي الذي طال انتظاره بالنسبة لنظم التعليم الرسمية، وغير الرسمية على حد سواء0 يتطلب هذا مراجعة شاملة لمعظم الجوانب اللغوية والتقنية للمنظومة التربوية ككل، ويتوقف نجاحنا في هذا، أساسا على مدى نجاحنا في تطويع وتهيئة الوسائل التقنية للمتطلبات الخاصة للغة العربية والمستخدم العربي. ولا ننسى أن محو «الأمية الكمبيوترية» في مجتمعاتنا العربية لا يتطلب فقط توفير لغات برمجة عربية، بل يلزمه أيضاً إتاحة العملية لاستخدام اللغة العربية ذاتها للتحاور المباشر مع الحاسب.

 

وتشير جميع الدلائل إلى أن وسائل النشر الإلكتروني ستسحق الطباعة التقليدية معلنة سقوط «حضارة الورق» التي سادت المجتمع الإنساني منذ اختراع روتنبرج للآلة الطابعة عام 1440م، ويقوم النشر الإلكتروني بتوزيع المعلومات من خلال وسائط إلكترونية كالأقراص والشرائط الممغنطة والأقراص والشرائح الضوئية0 إن الفحص الضوئي ذا الطاقة التخزينية الهائلة (قرص واحد يمكن أن يسع ما يوازي 1000 كتاب مطبوع) هو كما يقول باحث معاصر «ورقة البردي الجديدة» التي ستغير بشكل أساسي الصورة التي اعتدنا عليها للكتاب والمكتبة، وتعيد صياغة العلاقة الجذرية بين منتج المعرفة ومستهلكها بصورة جديدة يصعب تصور آثارها.

 

يدعو هذا إلى استحداث طرق مبتكرة لاسترجاع المعلومات وتكثيفها «ضغطها» وذلك لزيادة طاقة وسائط تخزينها وقنوات تبادلها0 يتطلب استرجاع وحفظ النصوص العربية استغلال خصائص لغوية معينة للغة العربية حيث ثبت عدم جدوى استخدام الوسائل المصممة للغة الإنجليزية في حفظ النصوص العربية أو استرجاعها.

 

وهناك مشكلة تعليم اللغة العربية. وهي بلا شك إحدى القسمات البارزة في أزمتنا اللغوية الطاحنة، ومعضلة حادة على مستوى منظمة التربية ككل، يدرك الجميع الآثار السلبية لهذه المشكلة من حيث عزوف الكثير من أولادنا عن إتقان لغتهم الأم وتذوق مآثرها وتراثها، وفى اعتقادنا أن ارتباط تعليم اللغة العربية بالكمبيوتر سيمحو من أذهان كثير من صغارنا -بل وكبارنا أيضاً- مفهوماً خاطئاً، أوشك أن يترسخ في أذهان الكثيرين، وهذا المفهوم ينظر للعربية كلغة قديمة وعاجزة عن مواكبة كمية التطور في جميع المجالات الاجتماعية الحديثة.

 

وفي مجال الإنسانيات تتبوأ اللغة مكان الصدارة بلا شك، ويتطلب ذلك أن نحدد «موضع» التحليل في الأنسجة الرقيقة التي تفصل -أو قل تربط- بين اللغة والعلوم الإنسانية الأخرى، ودعنا نتخيل ما يمكن أن يقوم به الحاسب في سبر أغوار العلاقة التي تربط بين اللغة وعلم النفس واللغة والأدب، واللغة والنقد، واللغة والشعر، واللغة والتراث، واللغة ونظرية المعرفة. إن الدخول في منطقة العلاقات المتداخلة التي تربط بين أزواج هذه العلوم لابد أن يؤسس تحليلا دقيقا للقاسم المشترك بينها ألا وهو اللغة، فبدون إخضاع اللغة العربية ذاتها لمنهجية العلم المضبوط، ومطالب المعالجة الآلية الدقيقة سيتعذر علينا حتما أن نتناول علاقتها مع العلوم الإنسانية الأخرى بصورة تحليلية دقيقة.

 

إن ضبط التنظير للعلوم العربية، ومعالجتها آليا هو، من جانب، بمثابة المظهر الذي يساعد على كشف موقع العلوم الإنسانية على سلم النضوج العلمي، ومن جانب آخر، بمثابة «الجيرسكوب» العلمي الذي سيضبط نهج هذه العلوم «الفوقية» ويجعل من دخولها إلى مصاف العلوم الدقيقة المضبوطة. ولقد تم حل كثير من المشكلات الفنية والتقنية في السنوات الأخيرة، واستفادت اللغة العربية من إنجازات الكمبيوتر، واليوم تستخدم المجامع اللغوية إمكانات الحاسب لميكنة معاجم اللغات، والتي أصبحت من الضخامة بحيث يستحيل تنظيم وتحليل الكم الهائل لمعلوماتها يدويا وتشمل تطبيقات الحاسب في المجال العلمي الأغراض الرئيسة التالية:

 

  • تخزين المعاجم على شرائح إلكترونية، أو على وسائط ممغنطة، وذلك لاستخدامها في أغراض الترجمة الآلية، والتعليم، واكتشاف الأخطاء الإملائية وذلك علاوة على أغراض المعالجة الآلية الأخرى.

 

  • تحليل العلاقة بين مفردات المعجم وعناصره، كالعلاقة بين جذور الكلمات، والصيغ الصرفية المطبقة عليها، أو العلاقات المعنوية كالترادف والاشتراك اللفظي، والتضاد، وغيرها.

 

  • تحليل لغة تعريف المعجم، وحتى التي تستخدم لتوضيح دلالات مفرداته.

 

ويتم الآن تبسيط العربية كتقليل عدد أشكال الحروف، وإغفال حركات التشكيل، وتجنب قواعد الإبدال والإعلال. وشهدت السنوات الأخيرة استخدام العربية في نظام استرجاع المعلومات وظهور لغات برمجة عربية مثل البيسك العربي واللوغو العربية، وإقامة أول صناعة عربية في مجال البرامج التعليمية والتي ركزت على تعليم اللغة العربية بالكمبيوتر.

 

تعريب التعليم:

باستقراء تاريخنا نجد أن اللغة العربية قد خاضت تجربتين ناجحتين من التجدد و”العصرنة”: الأولى: بالإسلام، حيث أصبحت لغة عقيدة ودين وتشريع بعد أن لم تكن كذلك. والثانية: في العصر العباسي حيث غدت لغة طب وعلم ومنطق بمقاييس ذلك العصر، وغدت لغة تدريس تلك العلوم كما رأينا في مدارس الأندلس وبغداد... والآن بدأت التجربة الثالثة مع لغتنا لتصبح لغة العلم والتقنيات الحديثة. فاللغة وعاء الفكر، وعجز لغتنا -إن حصل- سوف ينعكس علينا عجزا فكريا لا محالة.

 

لقد خاض الوطن العربي في كافة أقطاره كفاحا طويلا وداميا في أكثر الأحيان للحصول على الاستقلال،الذي كنا نظنه نهاية المطاف، ولكن اليوم يتبين لنا أن الاستقلال السياسي وحده لا يعني الكثير إذا لم يكن مدعوما بالاستقلال الاقتصادي والاستقلال الثقافي، والمفتاح لامتلاك استقلالنا الثقافي هو بالمقام الأول تعريب التعليم كاملا في جميع مراحله ومستوياته.

 

إن تعريب التعليم تمليه الضرورة التربوية أيضاً فهو الوسيلة الأنجح للإفهام والتفهم في التعليم الجامعي، إن الطالب الجامعي الذي يتعلم بلغته أقدر على الاستيعاب والمناقشة والمشاركة من زملائه الذين يتلقون المادة العلمية باللغة الأجنبية حيث «يحجمون عن النقاش والجدل فيما يتلقون من علم ويميلون إلى قراءة الملخصات والمذكرات بدل الكتب والمراجع والبحوث... وقراءتهم باللغة الأجنبية بطيئة لا تساعدهم على البحث والتنقيب». وبقدر ما يكون التعريب ضرورة تربوية أثناء الدراسة، فهو ضرورة لما بعدها، حيث لا يستغني المتخصص عن متابعة دراسة مستجدات تخصصه، وهذا لن يتيسر له بسهولة إلا بلغته أيضا.

 

وغني عن البيان أن أي إسهام جدي لأمتنا في الحضارة العالمية المعاصرة،إنما هو مرهون بتحقيق شخصيتها المتميزة ثقافيا وعلميا، وهو لن يتاح لها إلا إذا كان لها لغتها العلمية وعلماؤها العرب. أما إسهام العلماء العرب في أوربا وأمريكا في الاكتشافات العلمية والتقنية، فلا يمكن “تجبيره”في النهاية إلا لصالح حضارات الأمم التي تستضيفهم وتستوعب إنتاجهم. الإسهام العربي الحقيقي هو ما يتم على هذه الأرض الطيبة وبعقول أبنائها ولغتهم.

 

ومن هنا فمؤسسات الترجمة والتعريب الحكومية منها والأهلية ومنها مجامع اللغة العربية إضافة لمؤسسات التعليم مطالبة بأن تضطلع بدورها المنوطة به وإعلامه للجميع وبصفة دورية. وفى هذا المضمار فإن هذه المؤسسات مطالبة بما يأتي:

 

  • أن معلمي اللغة العربية لابد أن يتم إعدادهم إعدادا جيدا بحيث يكونون على وعي كاف بتاريخها، وتطورها، وآدابها، وعلاقتها مع اللغات الأخرى. وذلك إلى جانب التمكن التام من قواعدها وكيفية تطبيقها والأمثلة التي تشذ أحيانا عن القاعدة.

 

  • توافر منظومة متكاملة لتعليم العربية، والتي ينبغي أن تحتوي على: قاموس لمعاني الألفاظ، وقاموس للأفعال وتصريفها وإسنادها للضمائر، وقاموس للأدوات وطرق استخدامها، وكتب مبسط للقواعد والأمثلة عليها.. وأخيرا كتبا للمختارات من النثر العربي والشعر العربي، يكون بمثابة منبع لغوي، يستمد منه كل من المعلم والمتعلم النماذج التي يقاس عليها، والعبارات التي يمكن أن تتم محاكاتها.

 

  • إعادة الاهتمام في المدارس بمادتي التعبير «الشفوي والتحريري» والإملاء الذي يمكن أن يندرج تحت ما يسمى بفن الخط العربي. إضافة لتخصيص جزء من النشاط المدرسي، تساعد على تحفيز النشاط اللغوي مثل الشعر، والقصة، والإلقاء، والمناظرات، والصحافة، والتمثيل المسرحي، وكتابة المقالات العلمية المبسطة.

 

  • إنشاء شعب متخصصة للمصطلحات في مختلف فروع المعرفة في الجامعات. الاستفادة من التقنيات الحديثة مثل المعاجم الآلية في كافة التخصصات والمستويات.

 

  • وضع مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد ومراعاة التقريب بين المصطلحات العربية والعلمية واستخدام الوسائل اللغوية في توليد المصطلحات العلمية الجديدة.

 

  • دعوة المؤسسات الحكومية الى تقديم الكتاب العربي والمترجم للقارئ بسعر مخفض.

 

  • انتهاز فرصة المؤتمرات المتخصصة للترويج للكتب العربية المؤلفة والمترجمة. كما أن هناك توصيات لابد من وضعها موضع التنفيذ من أجل الحفاظ على اللغة العربية وتأكيد دورها في نهضة هذه الأمة والحفاظ علي هويتها والتي تمثل اللغة فيها جوهرا أساسيا مثل اعتماد اللغة العربية لغة التدريس الوحيدة في جميع الجامعات والمعاهد العلمية في جميع الدول العربية.

 

  • الاستفادة بالتقنيات الحديثة كالحاسوب في الترجمة الآلية إلى اللغة العربية مع توفير البرامج والمعاجم العربية في كافة التخصصات والمستويات، والتمحيص الجيد لهذه البرامج.

 

  • إنشاء مراكز للتعريب والترجمة في كل جامعة عربية تكون مهمته التعريب والترجمة من اللغات الأجنبية والتنسيق والتكامل مع الجامعات الأخرى ومع الجمعيات العلمية المعنية دفعا لمسيرة التعريب.

 

  • أن يكون لكل جامعة خطة في مجال التأليف والتعريب وتشجيع تفرغ أعضاء هيئات التدريس لهذا الغرض.

 

  • إدخال جهود التأليف العلمي باللغة العربية والترجمة إليها ضمن الأعمال المطلوبة للتعين والترقية في الجامعات.

 

  • تدريس اللغة العربية كمادة أساسية في الكليات العلمية والنظرية في جميع سنوات الدراسة في الجامعات والمعاهد.

 

  • إلزام أعضاء هيئات التدريس الدارسين بالخارج بترجمة رسائلهم العلمية إلى العربية واعتبار هذا من شروط تعيينهم في وظائف التدريس بالجامعات ومراكز البحوث.

 

  • الاهتمام بالترجمة المتخصصة في فروع العلوم الأساسية والعلوم التطبيقية المختلفة في كليات اللغات والآداب0

 

  • البحث عن أسماء الكتب الجديرة بالترجمة إلى العربية عن طريق دوام الاتصال بالجامعات وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات0

 

  • العمل على نشر التراث العلمي عند العرب دفعا لمسيرة التعريب.

 

 

المصادر والهوامش:

 

1ـ د.عفيف بهنسي: الخطوط العربية، مجلة الثقافة العربية، العدد 11، ليبيا عام 1975م

 

2ـ د.عفيف بهنسي: دراسات نظرية في الفن العربي القاهرة عام 1974م.

 

3ـ القلقشندي: صبح الأعشى ج14، القاهرة عام 1963م.

 

4ـ د. عادل قديح: حول البنية الجمالية للخط العربي مجلة الوحدة العدد 70، بيروت1990م.

 

5ـ عبد الكريم الخطيبي ومحمد السجلماسي، دراسة عن ديوان الخط العربي، مجلة الدوحة العدد90، قطر 1983م.

 

6ـ خالد الشايجي: الثقافة العربية بين التنوير وضياع الهوية، مجلة البيان العدد396 الكويت يوليو عام 2003م.

 

7ـ د.عثمان أمين: فلسفة اللغة العربية، الدار المصرية للتأليف والترجمة نوفمبر عام 1965م.

 

8ـ انظر على عبد الواحد وافي: اللغة والمجتمع، دار النهضة مصر 1971م.

 

9ـ د. محمود فهمي حجازي: البحث اللغوي، مكتبة غريب، مصر، عام 1993م.

 

10ـ انظر عبد العزيز الصويعي: الحرف العربي: مشاريع لتيسير الكتابة والطباعة العربية، البحث اللغوي.

 

11ـ ود. زهير غازي زاهد:جهود العلماء في إصلاح الكتابة العربية، مجلة الذخائرالعدد9 بيروت شتاء عام 2002م.

 

12ـ د. نبيل على: اللغة العربية والحاسوب، مجلة عالم الفكر ج18 العدد 3 أكتوبر 1987م

 

13ـ ممدوح محمد حسين: لماذا لا يعرب التعليم الجامعي ؟ مجلة الدوحة العدد 89 مارس 1985م

 

14ـ د. محمد يونس عبد السميع الحملاوي: نحو خطة عملية لترجمة العلوم إلى العربية، المجلة العربية للثقافة العدد33 تونس سبتمبر 1997م.

 

15ـ د.محيي الدين عبد الحليم:عقوبات رادعة لمن لا يتكلمون الألمانية وحوافز لمن يهملون العربية. منار الإسلام، العدد 382، أكتوبر عام 2006م.

 

16ـ د. عبد القادر الفاسي:دعم اللغة العربية تعزيز للهوية القومية، المجلة العربية للثقافة، العدد 46 تونس مارس عام 2005م.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات