العلم بالعربية واجب ديني

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات:

 

محمد السيد علي بلاسي

 

وضعت اللغات لدى الشعوب الأرض لإقدارها على التفاهم والتواصل، وحملت اللغات رسالات السماء إلى الأرض، وتمكن الخلق بواسطتها من تنظيم فكره وتطويره.

واللغة العربية حملت آخر تلك الرسالات، وأريد لها أن تكون لسان الوحي، وقدر لها أن تستوعب دليل نبوة الإسلام، واختزال مضامين الرسالات السابقة، والانطواء على النهج الذي ارتضاه الله خلقه إلى يوم الدين.(1)

«وقد كانت دراسة اللغة العربية عند الأقدمين مرتبطة بالعامل الديني؛ ونتيجة لهذا الارتباط الوثيق فقد خلفت لنا العصور الأدبية على امتداد التاريخ اهتماما كبيرا بلغة القرآن سواء فيما يتصل بإحصاء مفرداتها، وتسجيل أوابدها وغرائبها في المعجمات والقواميس اللغوية، أو فيما يتصل باستنباط القواعد والأسس التي تعنى بسلامتها، والمحافظة على أصولها الموروثة، ووضع الدراسات اللغوية الخاصة باكتناه أسرارها، والكشف عن خصائصها ومميزاتها».(2)

ويقرر هذا «أبو الثعالبي» (350-429هـ) إذ يقول: «من أحب الله – تعالى – أحب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن العربية عني بها وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه؛ اعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح الثقة في الدين، وسبب إصلاح العاش والمعاد.

ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة، وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للنار، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز «القرآن»، وزيادة التبصر في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان لكفي هما فضلا، يحسن فيهما أثره، ويطيب في الدارين ثمره.(3)

«فاللغة العربية» ليست مادة لفظية وأصواتا مسموعة فحسب، لكنها – إلى جانب ذلك – طاقة فكرية وعلمية وشعورية تحمل في مضمونها فعاليات النشاط الإنساني والحضاري بإبعاده وألوانه.

والعالم بدوله وشعوبه لن يفهم العرب حق الفهم، ولن يدرك الإسلام وحضارته تمام الإدراك إلا بواسطة اللغة العربية، ذلك المفتاح السحري القادر على إزاحة الستار الحديدي أما العالم لفهم حقيقة العرب والمسلمين.(4)

 

وجوب تعلم اللغة العربية:

و«العربية» ليست كأية لغة من اللغات الأخرى؛ بل هي فريدة من نوعها؛ اصطفاها الله من بين اللغات جميعا لتكون وعاء لكتابه الخالد «القرآن الكريم» كما اختارها لتكون لسان نبيه الأمين؛ لذا أوجب الشارع الحكيم تعلمها؛ حتى يفهم مقاصد الكتاب والسنة.

يقول «الإمام الشافعي» - رحمه الله - : «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله،وينطق بالذكر فيما افترش عليها من التكبير وأمر به التسبيح والتشهد وغير ذلك».(5)

وأرجع «شيخ الإسلام أحمد بن تيمية» - رحمه الله – الخلط في الدين –عند أهل البدع –إلى قلة فهم اللغة العربية؛ فيقول:«لا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ وطيف يفهم كلامه. ومعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسول بكلامه، وكذلك ضلال أهل البدع كان لهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك.(6)

ويؤكد هذه الحقيقة«الجاحظ» (159 – 255هـ) إذ يقول:«العرب أمثال واستقاقات وأبنية وموضع كلام يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم... فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك».(7)

من هنا؛ أوجب «شيخ الإسلام ابن تيمية» على المسلم تعلم اللغة، فقال:«إن معرفة اللغة من الدين ومعرفتها فرض واجب، وإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».(8)

ولعل هذا هو ما دفع «العلامة أحمد بن فارس» (395هـ) إلى إفراد باب في كتابه «الصحابي» تحت عنوان :«باب القول في حاجة أهل الفقه والفتيا إلى معرفة اللغة العربية»، يقول فيه:«إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلم من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لإغناء بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جر وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بدا».(9)

وغاية القول: «أن فهم النصوص هو منطلق البحث عن الأدلة الشرعية،والفهم موكول إلى المعرفة الدقيقة باللغة وبتصاريف القول فيها: إذ لا يتأتى استنباط حكم لا تقتضيه طبيعة اللغة.

فالمعنى الشرعي يؤخذ من الدليل اللفظي. وقد يستدل عليه بغير اللفظ، ولن يظل اللفظ دالاعلى المعنى التابع لقصد المتكلم. فاللفظ في تصور الأصولي هو دليل الحكم على صحة الفكر أو خطئه: إذ اللغة ترجمة لما يجرى في الفكر؛ من هنا أخذت اللغة عند الأصوليين منحنى علميا، أصبحت به وسيلة لاستنباط الحكم، تتجه إلى الإصلاح وتخاطب العقل.

و«الشافعي» في وضعه للأصول المعتمدة في فهم النصوص وتأويلها اعتمد «منطق اللغة العربية». وقد أورد «السيوطي» (911هـ) قول «حرملة بن يحيى»: «سمعت «الشافعي» يقول: «ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان «أرسطو طاليس»... ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال لا على مصطلح «اليونان»، ولكن قوم لغة واصطلاح».(10)

 

الحملة على اللغة... حملة على الدين:

بدهاء شديد ومكر خبيث اتخذ أعداء الإسلام اللغة العربية بوابة خلفية؛ للنيل من المسلمين وإبعادهم عن عقيدتهم، واستخدموا صنوفا من المكائد للوصول إلى مآربهم الخسيسة ومراميهم الدنيئة، وهي عديدة ومتنوعة!

ويحدد الأستاذ «محمد قطب» بعض الخطوات التي اتبعها أعداء الإسلام لضرب الدين عن طريق اللغة فيقول:(12)«حينما تولى (المستر دنلوب) القسيس الثري عينه «كرومر» مستشارا لوزارة العارف – جاء «دنلوب» ليضرب «الأزهر» على الأسلوب البطيء الأكيد المفعول؛ ففتح مدارس جديدة تعلم العلوم الدنيوية، ولا تعلم الدين إلا تعليما هامشيا. أما من ناحية اللغة العربية: لغة القرآن الذي يحترق قلب «الصليبية» حقدا عليه؛ فقد خطط «دنلوب» لقتلها والقضاء عليها! قد كان الراتب الذي يتقاضاه المدرسون من أصحاب المؤهلات العليا «اثنتي عشر جنيها» إلا مدرس اللغة العربية وحده يقاضى «أربعة جنيهات»! وكان لهذا الوضع انعكاسه ولا شك سواء في داخل المدرسة أو في المجتمع.

ففي المدرسة: لم يعد مدرس اللغة العربية هو المقدم بل أصبح في ذيل القافلة! يتقدمه المدرسون جميعا حتى ذووا المؤهلات المتوسطة، بل يتقدمه – في الراتب – فراش المدرسة – أحيانا إذا كان ذا أقدمية؟!! ومن ثم لم تعد له كلمة في المدرسة، فلا هو مستشار في شؤونها ولا هو يشارك في شيء من إدارتها! ولم يعد له حتى عند التلاميذ أي احترام ولا أي حساب.

أما في المجتمع: فهو أشد ضياعا منه في المدرسة؛ فالناس جميعا يعلمون وضعه المالي ويعلمون انه في ذيل القائمة وأن المدرسين الآخرين مقدمون عليه في الراتب والاحترام!

وهكذا بتحدد وضع مدرس «اللغة العربية» في المجتمع بقدر ما يتحدد راتبه يصبح مادة دائمة السخرية يتحدث الناس عن جهله وتخلفه وضيق فهمه وانحطاط مستواه الاجتماعي الفكري، وأشد ما يعاب عليه أنه لا يعلم اللغة الأجنبية وحين أصبح مدرس «اللغة العربية» في هذا الوضع المهين الذي لا يبعث على الاحترام؛ فإن وضعه يؤثر حتما على المادة نفسها، وهذا هو الهدف المقصود!

وبالفعل انتقل هذا الوضع المهين المزدري من المدرس إلى المادة؛ وبذلك أصبحت «اللغة العربية» موضع الازدراء والتحقير والنفور؛ فالطلاب يشكون من صعوبة اللغة من نحو وصرف وبلاغة ونصوص وأدب...

وهكذا صوبت السهام إلى «اللغة العربية» من كل جانب،ولم تعد شيئا يعتز به المسلم العربي كما كان يعتز به طيلة ثلاثة عشر قرنا من قبل، بل أصبحن معرة يسارع الإنسان إلى الانسلاخ منها وتمتين العيب فيها، والانتقاد عليها، لكي يصبح من المثقفين!! ولم يكن بد من أن ينتقل هذا الوضع الزري من اللغة ذاتها إلى ما هو مكتوب بتلك اللغة. وكان هذا هو الهدف الأخير المطلوب من ذلك التخطيط الخبيث!

فالمكتوب باللغة العربية هو ذات الأمر كله، وهو القرآن الكريم والمطلوب هو: صرف الأمة عن تراثها كله وعلى رأسه «القرآن». وانصرف الناس بالفعل عن قرآنهم وتراثهم بالتدريج؛ فلم يعد يشعرون أنه هو الزاد إنما الزاد هو المكتوب بلغة السادة الغالبين!

وقد تم بالفعل صرف المسلمين في «تركيا» عن تراثهم الإسلامي بتغيير الحروف العربية، وكتابة «اللغة التركية» بالأحرف اللاتينية على يد «كمال أتاتورك» وتصفية «اللغة التركية» من معظم الكلمات العربية التي تتضمنها؛ لتنشأ أجيال تعجز عجزا كاملا عن الاتصال بتراثها الإسلامي؛ فتنقطع عنه وتنشأ بلا دين وقد قامت في مصر محاولات مشابهة عل يد «عبد العزيز فهمي» وغيره ولكنها ولدت ميتة ولم يقدر لها النجاح.

وبعد، فلنفسح المجال لأديب العربية الكبير «مصطفى صادق الرافعي»؛ لنجدد معه صرخته التحذيرية التي تفضح النتائج المنشودة من وراء الحملة المسعورة على لغة القرآن الكريم، إذ يقول:(13) «ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار. ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة التي يستعمرها ويركبهم بها ويشعرهم عظمته فيها، ويحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد:

فالأول: تحبس لغتهم سجنا مؤبدا،

والثاني: الحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا.

والثالث: تغيير مستقبلهم بالأغلال التي يشعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع».

أفيقوا أيها المسلمون قبل أن تحل بحكم الكارثة،وليت ساعة مندم ووقتها لا ينفع الندم.

 

 

1) العلم بالعربية... ضرورة عقيدية: «للدكتور عباس أرحيلة»، ص:82 – بتصرف يسير –(مقال منشور بمجلة «منار الإسلام»: عدد محرم 1415هـ).

2) مقالات وآراء في اللغة العربية:«الدكتور حمد بن ناصر الدخيل»، ص:53 – 54 الطبعة الأولى- دار الشبل بالرياض، سنة 1415هـ.

3) فقه اللغة العربية وسر العربيةـ «للتعالبي» (المقدمة)، بتحقيق «السقا» وآخرين، ط الحلبي، سنة 1392هـ.

4) مقالات وآراء في اللغة العربية: ص:58 – بتصرف يسير-.

5) الرسالة: «للإمام الشافعي»، تحقيق: «أحمد محمد شاكر».

6) الإيمان: «لابن تيمية» ص:111.

7) الحيوان: «لابن عثمان بن بحر الجاحظ»، تحقيق «عبد السلام محمد بن هارون»، 1/154، الطبعة الثانية، مصطفى الحلبي، د. ب.

8) اقتضاء الصراط المستقيم،«لابن تيمية»، ص:207.

9) الصاحبي: «لأحمد بن فارس»، تحقيق «أحمد صفر»، ص: 50: الطبعة الأولى، «عيسى البابي الحلبي»، سنة 1977م.

10) العلم بالعربية.. ضرورة عقلية: ص:87. وانظر:صون الكلام عن فن المنطق والكلام:«للسيوطي»، شرح وتعليق«الدكتور سامي النشار»، ص:45، الطبعة الأولى، السعادة، سنة 1946.

11) المرجع السابق: ص:87. راجع مقدمة ابن خلدون، تحقيق د. «علي عبد الواحد وافي»، 3/1224، ط.3، دار نهضة مصر للطبع والنشر، سنة 1977م.

12) واقعنا المعاصر: «محمد قطب»، ص: 222-223.

13) وحي القلم: «للرافعي»، 2/33.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات