ظاهرة الحذف في النحو العربي

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

 

صالح الشاعر

 

حقيقة الحذف :

 

من المهمِّ قبل الخوض في بيان أحكام الحذف ومسائله أن أبدأ ببيان حقيقته ؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره .

وقد رجعت إلى مظانِّ الحذف في قدر لا بأس به من كتب أصول النحو وفروعه ، فلم أجد في ما رجعت إليه بيانًا لحقيقة الحذف أو تعريفًا له ، فرجعت إلى معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض فوجدت هذا التعريف :

الحذف : " يُراد به في النحو إسقاط كلمة من بناء الجملة ، وقد تكون هذه الكلمة ركنًا من أركانها كالمبتدإ أو الخبر أو الفعل أو الفاعل ، وقد تكون حرفًا ، وقد تُحذف الجملة ... " ، وهذا لا يعدو كونه تعدادًا لأنواع من الحذف ، ولا يصحُّ أن يكون حدًّا مبيِّنًا للحذف النحويِّ ، فهو أشبه بتعريف للحذف الصرفيٍّ ؛ إذ يصدق أن نقول : الحذف في الصرف : إسقاط حرف من بناء الكلمة .

 

واطَّلعت على رسـالة علميَّة من البحوث الرائدة في الموضوع – وهي رسالة ( الحذف والتقدير في النحو العربي ) لعلي أبي المكارم ، فوجدت تعريف الحـذف فيها على النحو التالي :

إسقاط لصيغ داخل النصِّ التركيبيِّ في بعض المواقف اللغويَّة ، وهذه الصيغ يُفترَض وجودها نحويًّا لسلامة التركيب وتطبيقًا للقواعد ، ثمَّ هي موجودة – أو يمكن أن توجد – في مواقف لغويَّة مختلفة .

وهو اجتهاد مشكور من الباحث ، ولكنَّ أبرز ما يمكن أن يؤخذ على التعريف قوله : ( وهذه الصيغ يُفترَض وجودها نحويًّا لسـلامة التركيب وتطبيقًا للقواعد ) ؛ لأنَّ هذا لا يصدق على أيٍّ من نوعي الحذف :

 

- ففي الحذف الواجب لا يُفترض وجود المحذوف لسلامة التركيب وانضباط القواعد ، بل يكون ذكره خطأً مخلاًّ بسلامة التركيب وخارقًا للقواعد .

- وفي الحذف الجائز لم يدلّ على المحذوف أنَّ غيابه أخلَّ بسلامة التركيب أو كسر القواعد - فبدهيٌّ أنَّ المحذوف جوازًا يجوز حذفه وذكره من غير أن يوصـف التركيب بالغلط النحويِّ - وإنَّما دلَّ عليه أنَّه ذُكر في استعمال آخر ولغرض آخر ؛ فاللغة استعمال قبل أن تكون قواعد .

 

وإذا كان لي أن أُدلي بدلوي لأقدِّم تعريفًا نحويًّا للحذف فقد راجعت أحوال الحذف وأحكامه وخرجت منها بهذا التعريف :

الحذف الجائز : تعمُّد إسقاط عنصر ( إسناديٍّ أو غيره ) من عناصر بناء النصِّ ؛ لغرض ، مع سـماح النظام النحويِّ بذكره ، ومع دلالة باقي عناصر النصِّ عليه ، وإمكان ذكر هذا العنصر في مقام آخر ولغرض آخر .

الحذف الواجب : إسقاط عنصرٍ إسـناديٍّ من نصٍّ لا يسـمح النظام النحويُّ بذكره فيه ، مع دلالة الأصل التركيبيِّ للنصِّ عليه ، وامتناع ذكره في كلِّ الأحوال .

 

قيمة الحذف ومزاياه :

يرتبط الحذف ارتباطًا وثيقًا بمعنى القول ودلالته وقدرته على التأثير ؛ فهو وسـيلة للإيجاز الَّذي هو أحد مقاصـد العربيَّة ، والحذف في مقامه يهذِّب الجمل ، ويزيد نصيبها من البلاغة والرونق ، ويقوِّي قدرتها على إيصال المعنى المراد .

 

تحت عنوان ( القول في الحذف ) يقول الإمام عبد القـاهر : " هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسـحر ، فإنَّك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطقَ ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ .

 

ويذكرعلماء البلاغة للحذف ثلاث مزايا ، هي :

1- إيجاز العبارة .

 

2- زيادة رونقها وصـيانتها من الثقل والترهُّل الَّذين يحدثهما ذكرُ المعلوم للقرينة .

3- بناؤها على إثارة فكر المتلقِّي وخياله في الاستدلال على جزء المعنى الَّذي لم يُذكر اللفظ الدالُّ عليه .

هذا ما يُذكر مَزِيَّةً عامَّةً للحذف ، ويبقى وراء كلِّ تعبير سرٌّ خاصٌّ به قائم على اختلاف المقامات والأحوال والأغراض .

أغراض الحذف وأدلته :

 

إذا نظرنا في كتاب سـيبويه وجدناه ينصُّ في مواضع كثيرة على ضرورة الحذف لأسباب أدخلها البحث الحديث في فنِّ البلاغة ، كالتخفيف والإيجاز والسعة ، ويبيِّن أنَّ العرب قد جرت عادتها على الحذف ، وحبَّذتْه في غير موضع .

 

يقول سيبويه : " واعلم أنَّهم ممَّا يحذفون الكلم وإن كان أصله في الكلام غير ذلك ، ويحذفون ويعوِّضون ، ويستغنون بالشيء عن الشيء الَّذي أصله في كلامهم أن يُستعمل حتى يصير ساقطًا ... " ، ويقول : " وما حُذِف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير " .

 

ويقول كمال الدين الأنباري : " والحذف في كلامهم لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يُحصَى " .

 

وقد تطرَّق النحاة في تصانيفهم إلى ذكر أغراض الحذف ، لكنَّها أغراض خاصَّة بالمحذوف ، ولذلك فهي متفرِّقة في أبواب النحو بحسب المحذوفات .

 

شروط الحذف :

يذكر علماء البلاغة أنَّ " الحذف يفتقر إلى أمرين :

أحدهما : قابليَّة المقام ، وهو أن يكون السامع عارفًا به لوجود القرائن .

والثاني : الداعي الموجب لرجحان الحذف على الذكر " .

 

وقد اهتمَّ النحاة وعلماء البلاغة بدراسة دواعي الحذف واستنباط القرائن الدالَّة على المحذوف ، وقد أجمل ابن هشام الشروط الَّتي لا يجوز الحذف بغيرها فذكر ثمانية شروط :

الشرط الأول : وجود دليل للحذف ، ويُفتقَرُ إلى هذا الدليل إذا كان المحذوف :

  • جملة بأسرها ، كقولك : زيدًا ، لمن سأل : مَن أضرب ؟
  • أو أحد ركنيها ، كما في قوله تعالى : ﴿ قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ ، أي سلامٌ عليكم أنتم قومٌ منكرون ، فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية .
  • أو لفظًا يفيد معنىً فيها هي مبنيَّة عليه ، كما في قوله تعالى :

﴿ تَالله تَفْتَأُ ﴾ ، أي : لا تفتأ .

 

أمَّا إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه وجدان الدليل ، ولكن يُشترط أن لا يضرَّ حذفه بالمعنى ولا بالصناعة النحويَّة .

 

ويتنوَّع دليل الحذف إلى نوعين :

1- دليل غير صناعيّ : وهو إما حاليّ ، كقولك لمن رفع سوطًا : زيدًا ، بإضمار ( اضرِب ) ، أو مقاليّ ، كما في قوله تعالى : ﴿ وَقِيلَلِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً ﴾، أي : أنزلَ خيرًا .

ويُشترط للدليل اللفظيِّ أن يكون طبق المحذوف .

2- دليل صناعيّ : وهذا لا يُعرف إلا من جهة صناعة النحو ، كما في قراءة من قرأ : ﴿لأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ، فقد قالوا : إنَّ التقدير : لأنا أقسم ؛ لأنَّ فعل الحال لا يقع جوابًا للقسم عند البصريِّين .

 

الشرط الثاني : ألاَّ يكون ما يحذف كالجزء ، فلا يُحذف الفاعل ولا نائبه ولا مشـبهه

( اسم كان أو إحدى أخواتها ) .

الشرط الثالث : ألاَّ يكون مؤكَّدًا ، فلا يصحّ : الَّذي رأيت نفسه زيد ؛ لما يُوقع فيه ذلك من التناقض ، فالتوكيد إسهاب والحذف إيجاز ، ولا يجتمعان .

الشرط الرابع : ألاَّ يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر ، فلا يحذف اسم الفعل دون معموله ؛ لأنَّه اختصار للفعل .

الشرط الخامس : ألاَّ يكون المحذوف عاملاً ضعيفًا ، فلا يحذف الجارُّ والجازم والناصب للفعل إلا في مواضع قويت فيها الدلالة على المحذوف وكثر فيها الاستعمال ، ولا يُقاس عليها .

الشرط السادس : ألاَّ يكون المحذوف عوضًا عن شيء .

الشرط السابع : ألاَّ يؤدِّي حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه .

الشرط الأخير : ألاَّ يؤدِّي الحذف إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القويّ .

 

ويُعتبر دستورًا للدراسة النحويَّة للحذف قول ابن هشام : " الحذف الَّذي يلزم النحويَّ النظرُ فيه هو ما اقتضته الصناعة ، وذلك بأن يجد خبرًا بدون مبتدإ أو بالعكس ، أو شرطًا بدون جزاء أو بالعكس ، أو معطوفًا بدون معطوف عليه ، أو معمولاً بدون عامل ... " .

 

صور الحذف وأنواعه :

تتعدَّد صور الحذف في النحو العربيِّ ، من حذف علامات الإعراب ، وحذف أجزاء الكلمات ، وحذف الأدوات ، وحذف أجزاء التراكيب ، وحذف الجمل ، ويتنوَّع الحذف إلى نوعين :

الحذف الواجب : وهو حذف يوجبه النظام النحويُّ للجملة ، بحيث يكون ذكر المحذوف خطأً ، ويقع هذا الحذف في العناصر الإسناديَّة – كالمبتدأ في الجملة الاسميَّة ، والفعل في الجملة الفعليَّة – عدا الفاعل .

الحذف الجائز : وهو حذف يقتضيه الموقف الاسـتعماليُّ ، حيث يكون الذكر غير ممنوع في الصـناعة لكنَّه يضـرُّ بالمعنى المقصـود من المتكلِّم ، ويقع على العناصر الإسناديَّة وغيرها .

 

ويُحاط كلُّ نوع من أنواع الحذف الواجب بقواعد وشروط تنظِّم وقوعه ، فلا مجال فيه لغير النظام النحويِّ ، أمَّا الحذف الجائز فإنَّ أهم شرط فيه هو وجود القرينة اللفظيَّة أو المعنويَّة ، وهو ما سمَّاه ابن هشام " دليل الحذف " ، وجعل أحد نوعيه الدليل غير الصناعيِّ ، أي الَّذي لا علاقة له بصناعة النحو ، وإنَّـما يكون الاحتكام فيه إلى الحال ، أو إلى المنطوق - وهو الكلام الَّذي يعتمد على المسرح اللغويِّ كما يقول أ.د / أحمد كشك - ففي قـول المترقِّب لرؤيـة الهـلال : الهلال وربِّ الكعبة ، دليل الحذف حاليٌّ ، وتقدير المحذوف مبتدأ ( هذا الهلالُ ) تختلف علاقـات نطقه عن تقديره فعلاً ( رأيت الهلالَ ) ، وكـذلك إذا قلنا لمـن أتى بالماء: أباك ، أي : اسـق أباك ، فالـدليل على المحذوف في هذه الأسـاليب وأمثالها حاليٌّ ، أي مُستنبَط من قرينة الحال ، مع أنَّ الحكـم هنا لا يصـفو للحـال فقط ؛ فقد أعاننا على تقدير المحذوف "الاستلزام وسبق الذكر ، وكلاهما من القرائن اللفظيَّة"، أمَّا الدليل المقاليُّ فهو ما يوجد في كلام منطوق في المقام نفسه ، كما أسأل شخصًا: مَن عندك ؟ فيقول : محمَّد ، أي : محمَّد عندي .

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات