التصدي للدعوة البربرية في الجزائر

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

د. محمد علي الفرا

 

 

لم تحقق سياسة فرنسة الجزائر ما كانت تهدف اليه فرنسا، كما ان سياسة شق الصف الجزائري واختلاق هوية بربرية مناهضة ومعادية للعروبة والاسلام لم تجد من يؤيدها في الجزائر، الا شريحة بسيطة وعددا محدودا من الجزائريين الذين درسوا في فرنسا، وانبهروا بمظاهر حضارتها، او الذين تخرجوا في المدارس والمعاهد التي اقامها المستعمرون في الجزائر وتلقوا علومهم على يد مستشرقين فرنسيين وضعوا انفسهم في خدمة السياسة الفرنسية الاستعمارية، وتخصصوا في اللهجات والثقافة البربرية والادب البربري الذي وضع اسسه وقواعده مستشرقون فرنسيون على صلة بالاستعمار الفرنسي. لقد كان الفضل الاكبر في افشال هذه السياسة الفرنسية وبخاصة في منطقة القبائل القريبة من العاصمة الجزائر يعود الى نشاط الزوايا التي كانت منتشرة في مدن وقرى القبائل، وقد كانت هذه الزوايا كالسد المنيع امام دعاة السياسة البربرية وكانت بمثابة خط الدفاع المتقدم عن شخصية الشعب الجزائري الرافض للفرنسة والتنصير، وحافظت على التقاليد المتبعة التي تقر بان البربر اصولهم عربية، كما كانت هذه الزوايا مكانا لتخريج حفظة القرآن الكريم، وقد انتشر هؤلاء الخريجون في انحاء الجزائر يعلمون القرآن في الكتاتيب ويحافظون على العبادات ويدعون الى التمسك بالعروبة والاسلام. وتعززت جهود الزوايا بنشاط الحركة الاصلاحية في الجزائر المتمثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين "1 3 9 1 ­ 6 5 9 1 " وكان من ابرز هؤلاء العلماء "احمد توفيق المدني" احد رواد الجمعية، وقد حذر من اخطار المخطط الفرنسي بمنطقة القبائل في كتابه المسمى "كتاب الجزائر" والمطبوع في الجزائر عام 1 3 9 1 ، وفيه يقول : "فاني اخشى على هذا القسم من بلاد الوطن "يقصد منطقة القبائل " ان تعبث به الايدي، وان ينفصل حبل اتحاده مع بقية البلاد، فالى تلك الناحية يجب ان تتجه انظار المفكرين والعلماء المسلمين. وللشيخ الامام "محمد البشير الابراهيمي" جهود كبيرة في التصدي للمخطط الفرنسي في منطقة القبائل وفضحه، وقام نجله الدكتور احمد طالب الابراهيمي بجمع آثار والده وطبعها في اجزاء، وقد اهداني الاخ الدكتور عصام الطاهر نسخا مصورة عن كتابات ومقالات للامام محمد البشير الابراهيمي يدافع فيها عن اللغة العربية وعروبة الجزائر واسلامها، يقول الابراهيمي، وهو البربري الاصل في مقال له "اللغة العربية في الجزائر عقيلة حرة، ليس لها ضٌرٌة" نشر في جريدة البصائر العدد 1 4 بتاريخ 8 2 ـ 6 ـ 8 4 9 1 ، ما نصه : "ان العربي الفاتح لهذا الوطن جاء بالاسلام ومعه العدل، وجاء بالعربية ومعها العلم، فالعدل الذي اخضع البربر للعرب، ولكنه خضوع الاخوة، لا خضوع القوة، وتسليم الاحترام، لا تسليم الاجترام" . ويقول ايضا : "ما هذه النغمة السمجة التي ارتفعت قبل سنين في راديو الجزائر باذاعة الاغاني القبائلية، واذاعة الاخبار باللسان القبائلي "البربري "، ثم ارتفعت قبل اسابيع من قاعة المجلس الجزائري بلزوم مترجم للقبائلية في مقابلة مترجم للعربية، اكل هذا انصاف للقبائلية، واكرام لاهلها، واعتراف بحقها في الحياة، وبأصالتها في الوطن؟ كلا، انه ترجيل سياسي على طائفة من هذه الامة، ومكر استعماري بطائفة اخرى، وتفرقة شنيعة بينهما، وسخرية عميقة بهما" . وفي مقالة عن عروبة الشمال الافريقي يقول الابراهيمي في العدد 0 5 1 من البصائر بتاريخ 9 ـ 4 ـ 1 5 9 1 ما نصه : "ينكر الاستعمار عروبة الشمال الافريقي بالقول، ويعمل لمحوها بالفعل، وهو في جميع اعماله، يرمي الى توهين العربية بالبربرية، وقتل الموجود بالمعدوم، ليتم له ما يريد من محو واستئصال لهما معا، وانما يتعمد العربية بالحرب لانها عماد العروبة، وممسكة الدين ان يزول، ولان لها كتابة، ­ ومع الكتابة العلم ­ وادبا، ومع الادب التاريخ، ومع كل ذلك، البقاء والخلود، وكل ذلك مما يقض مضجعه، ويطير منامه، ويصخ مسمعه، ويقصر مقامه" . وقد اكد البشير الابراهيمي على عروبة البربر في مقالة بجريدة البصائر سابق الذكر، بقوله : "ان القبائل مسلمون عرب وكتابهم القرآن يقرأونه بالعربية، ولا يرضون بدينهم ولا بلغته بديلا، ولكن الظالمين لا يعقلون" . لم يتردد الرعيل الاول من رجال الاصلاح من ابناء منطقة القبائل عن مواجهة السياسة البربرية بالمنطقة، فنجحوا في انشاء ثلاثين مدرسة ظلت تعلم النشء اللغة العربية والفقه الاسلامي حتى عام 6 5 9 1 ، كما حرصوا على توعية الناس بتنظيم حلقات الوعظ والارشاد في المساجد، واستطاعوا تكوين طلائع من الشباب متمسكة بالاسلام ومعتزة بالثقافة العربية، ومن هؤلاء الرجال الذين خدموا الجزائر بصمت وكرسوا حياتهم لخدمة الاسلام فيها نذكر على سبيل المثال "السعيد بن زكري" و "ارزقي الشرفاوي" و "ابو يعلى الزواوي" و "الفضيل الورتلاني" وغيرهم كثيرون. وقد اتخذت جمعية العلماء موقفا صريحا من السياسة البربرية للادارة الفرنسية عندما حددت شعار مشروعها الاصلاحي في العمل على الدفاع على ثوابت الدين واللغة والوطن في عبارة : "الاسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا" ، وتعززت جهود جمعية العلماء بالنشاط السياسي لمنظمة النجم "5 2 9 1 ­ 7 3 9 1 "، وحزب الشعب "7 3 9 1 ­ 6 4 9 1 "، وحركة انتصار الحريات الديمقراطية "6 4 9 1 ­ 4 5 9 1 " التي تبنت منذ ابتعادها عن التأثير الشيوعي مبدأ المقاومة السياسية من اجل استرجاع السيادة الوطنية المتمثلة في العقيدة الاسلامية واللغة العربية، واعتبر التيار الاستقلالي في الحركة الوطنية الجزائرية ان من اولى مهامه المطالبة بتعليم العربية اجباريا، فأقرها برنامجه الاساسي في عام 3 3 9 1 ، ولم يتوان عن انشاء المدارس على غرار جمعية العلماء لتعليم العربية، وندد بالمشروع الاستعماري الفرنسي بالجزائر القائم على فكرة تقسيم الجزائريين وتفريق صفوفهم، وقد اكد على هذا التوجه احد مناضلي حزب الشعب الشاعر المبدع "مفدي زكريا" من ابناء "ميزاب" البربرية، عندما حدد اهداف النضال السياسي لابناء المغرب العربي في خطابه بتونس عام 4 3 9 1 والذي جاء فيه : "الاسلام ديننا، وشمال افريقية وطننا، والعربية لغتنا" . ولعل في خطبة "مصالي الحاج" بالجزائر في 2 ـ 8 ـ 6 3 9 1 ردا على مطالب المؤتمر الاسلامي التي سلمت بمبدأ اندماج الجزائر في فرنسا، موضحا تمسك الحركة السياسية الوطنية الجزائرية المتمثلة في منظمة النجم وحزب الشعب بثوابت الشعب الجزائري، فقد جاء في هذه الخطبة الشهيرة لمصالي الحاج ما يلي : "احتراما للغتنا الوطنية اللغة العربية والتي كلنا نعتز بها ونعجب بها، وايضا تقديرا لنبل هذا الشعب الجزائري الشجاع الكريم.. فقد اردت ان اعبر امامكم بعد نفي دام اثنتي عشرة سنة بلغتي الام" . وقد واصلت الثورة الجزائرية النضال ضد سياسة التفرقة العنصرية في الجزائر والمتمثلة في المسألة البربرية ونجحت في توحيد الشعب الجزائري، وقد كان لرجال منطقة القبائل مساهمة كبيرة واساسية في هذه الثورة مما افشل المخططات الفرنسية، وكان من ابرزهم "كريم بلقاسم" و "محمدي السعيد" و "عميروش آيت حمودة" و "محمد ولد الحاج" وغيرهم كثيرون، وقد افلحت جهودهم في اسقاط المشروع الاستعماري وفي رص الصفوف، واعتبروا ان اي دعوة لتفريق الصفوف بمنزلة خيانة للوطن. ويبدو ان هذه الجهود الطيبة تعرضت فيما بعد الى انتكاسة، فقد استطاع دعاة البربرية اعادة تنظيم صفوفهم، وزرع انصارهم ومؤيديهم في مختلف احزاب الجزائر وبخاصة حزب الشعب، وتمكنوا من التسلل الى اجهزة الدولة الحساسة، واستولوا على المراكز الهامة في الحكومة، وقاموا بمحاربة الاسلام واللغة العربية، وطعنوا في عروبة الجزائر.. وقد يتساءل البعض كيف حدث هذا الانقلاب الخطير الذي لا زالت تعاني منه الجزائر اليوم ويهدد وحدتها ويشتت صفوف شعبها، ويشكك في هويتها العربية الاسلامية.. وهذا ما نأمل الاجابة عليه في مقال قادم ان شاء الله.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات