صناعة الموالي ولغة العرب (1)

إبراهيم طالع

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات:

 

في أسوأ وأشد أزمنة العروبة انحطاطاً وترهّلاً دعونا نرِحْ أنفسنا بالــبعد عمــا نراه ونسمعه، بالغوص في ثقافتنا العربية علّنا وعلّكم نجد متنفساً عن اللؤم المركب من الفساد والأحداث والسياسة والإعلام إلى رحاب تاريخ عروبتنا ريثما تسترخي هجمة التخلّف أو (الفوضى الخلاقة) التي تجتاح العالم العربي.

فقبل نحو 20 عاماً كنت طرحت هذا العنوان، وكتبت بعض مضمونه، إذ لم تكنْ وسائل التواصل الإعلامي قد وصلت. وبطرحه كان للأستاذ القدير: عبد الله فراج الشريف ردود منفعلة لم تخرج عن كونه انطلق من أن الحديث عن مثل هذا يعدّ خروجاً على ما رآه ثوابت لا تقبل الحوار، فانطلق منافحاً بما نقضْتُهُ، ولم أجدْ ردوده تحتاج إلى حوار. واليوم وقد اقترب البعيد، وتكلم الحديد، واتّصلنا بالعالم بالإعلام الجديد، وجدتُ لزاماً عليّ إيصال هذه الرسالة، ليطــّلع علــيها رواد الفكر واللغة والأدب في جزيرتنا العربية، الذين بدأت إمكانات الــبحث والمساءلة تتاح لهم مطلقاً في مثل هذا الأمر الذي بني عليه كل تاريخ جزيرتنا العربية من خارجها، وعليهم إعادة كتابته كله من داخلها بعد أن اعتمدنا فيه على ما جاءنا من هذا الخارج.

وإذا كان طرحي هذا متعلقاً بالجانب اللغوي من تاريخنا فلأنه مـجالي الذي أعتبره مفتاح كل التاريخ، ولأنني أساساً ممن عانى مع لغتنا الجميلة ما عانتـه وتعانيه على المستوى التعلـيمي والأكـاديمي والغـنائي والشعري على مسـتوى الوطن العربي، بحيث تزيد الهوة يوماً بعد يوم بين اللغة المكتوبة المحفوظة في الكتب ولغة الشعب المستخدمة في شؤون الحياة حديثاً وعملاً وغناءً.. وما ذلكم كما أراه إلا بسبب أن ما دوّنَ من لغتنا ليس سوى عيّنة صغيرة تشكَّلت من العربية، وليستْ هي العربية كما كان العرب يعيشونها وينحتونها من شؤون الحياة وأصوات اللغة (الــحروف).. ولا يقولنّ أحد بعشــقه أكثر مني للنحاة واللغويين العظماء الذين خدموا هذه اللغة شعرها ونثرها بما لم تخدمْ به لغة عــلى الأرض حتى اتّهمنا من اتّهمنا بأننا أمة لغة أكثر منا أمة علم.. ولأنّ أولئكم العظماء من اللغويين والنحاة إما من الموالي، وإما من العرب الذين عاشوا خارج جزيرة العرب ولغتها الحية أو من مهجني اللسان والثقافة، فقد ضاق بهم وسخر منهم بعض شعراء الأعراب سخريات لطيفة تدخل في باب الظرف أورد بعضها قبل دخولي إلى موضوعي عبر حلقات في هذه الصحيفة..

فتحضرني ثورة الأعرابي وسخريته من أبي زيد الأنصاري النّحوي:

لستُ للنّحوِ جيتُكمْ

لا ولا فيه أرغبُ

أنا ما لي ولامرئٍ

أبدَ الدّهر يضربُ؟

خلّ زيدا لشانِه

أين ما شاءَ يذهبُ

واستمع قول عاشق

قد شجاه التطرّبُ

همُّهُ الدهرَ طفلةٌ

فهو فيها يشـبـِّبُ

وقول أحد الأعراب ساخراً من أهل النّحو:

ماذا لقيتُ من المستعربين ومنْ

تأسيسِ نحوهمُ هذا الذي ابتدعوا

إن قلت قافية فيه يكون لها

معنى يخالف ما قاسوا وما وضعوا

قالوا لَحَنْتَ وهذا الحرف منخفض

وذاك نصب وهذا ليس يرتفع

وحرّشوا بين عبد الله واجتهدوا

وبين زيدٍ وطال الضرب والوجعُ

إني نشأت بأرض لا تُشبُّ بها

نار المجوس ولا تُبنى بها البِيَع

ولا يَطأ القرد والخنزير ساحتها

لكنُ بها الهَيْقُ والسِّيدانُ والصّدعُ

ما كلّ قوليَ معروفٌ لكم فخذوا

ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا

كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهمْ

وآخرين على إعرابهم طُبِعوا

وبين قوم رأوْا شيئاً معاينة

وبين قوم رأوْا بعض الذي سمعوا

فهؤلاء من العرب الذين ضاقوا ذرعاً بنحاة البصرة والـكوفة وتقعيداتهم الجافة. وقد كان النحاة واللغويـون يصطادون كلّ من وجدوه من الأعراب للفــوز بمفردة من اللغة وبطريقة نطقه لها، وصاروا يمنحون من وجدوه منهم الــهدايا، مما جعل مهنة استعراب الكثير تزدهر من غير الأعراب لمجرد الحصول على الهدايا، ودخل في هذا ما دخله، مما جعل أمثال عـــبد الحميد الشّــلقاني يتصدون لهذه الظاهرة برصـدها في مثل كتابه (الأعراب الرواة)، الذي يثـبت فيه كثيراً من زور الرواة الذين كانوا يتـقمصون ثياب الأعراب في البـصرة والكوفة ويتتبعون اللغويين والنحاة هناك بنــحل الكــلمات ونطقها على أنها تمثل العربية القابعة هنا في الجزيرة بسكون بعيداً عــن المنظّرين العلماء الكبار المكتفين بما يصلهم منها.

ومن هنا قررت طرح الأمر علّ الباحثين يتنبهون إلى أن العربية لفظاً وأسلوباً وصوتاً أكبر بكثير مما حوته الكتب على وفرته، وينتقلون من تحقيق ما كتبه الأقدمون الرائعون إلى رصد ما بقي منها في أماكن لم تزل تحمل الخصائص الأصيلة لها بطريقة الحياة الشفاهية، خصوصاً قد توافرت الإمكانات البحثية ميدانياً وتقنياً، وهذا ما لحظناه من باحــثين سعوديين وأجانب بدأوا يتوافدون إلى هذه الأماكن، مستخدمين الأساليب التحــليلية الصوتية الحديثة للوصــول إلى نتائج ميدانية قبل ذوبان ما بقي من اللغة وانصهاره في بوتقة العالمية التي بــدأت واضــحة حتى على البداة في صحرائهم، وعلى القرويين في جبالهم. وأذكر من هذا تجربة للباحثين: الدكتورة منيرة الأزرقي ج الدمام- البريطانية جانــيت سي أي واتسون ج ليدز- باري هيسلوود ج ليدز- سامية نعيم المركز القومي للبــحوث بفرنسا- علي مغاوي (باحث متفرغ) في صوتيات اللغة، وموضوع البحث (صوت الضاد بجنوب غرب المملكة العربية السعودية – دراسة ميدانية) بدعم من مركز الملك فــيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.

وقد صعُب على أهل اللغة ومنظّريها توصيف نطق الضاد ممّا زاده صعوبة في اللســان المتناقَل، وذلك هو السّبب في تسمية اللغة العربية: لغة الضاد. يقول سيبويه: (ومن بين أول حـافّة اللسان وما يليه من الأضــراس مخرج الضـاد) (الكتاب:سيبويه 2/405) بينما لم يزل باحثونا يكتفون بحصولهم على شهاداتهم الـورقية بعيداً عن مشروعية البحث، عن طريـق تحقيق كتاب صادر أو شرحه والتعليق عليه، أو توصيف مــا سبق للتــاريخ أن ســطره من الأدب واللغة والنحو!!.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات