تأثير اللغة العربية على الثقافة، واللغة، والأدب، في اسبانيا

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

تركت الفتوحات الإسلامية أثراً مهماً على ثقافة أوروبا الغربية عبر قرون طوال. وكانت شبه الجزيرة الإيبيرية (أي إسبانيا والبرتغال حالياً) خلال الفترة الممتدة من عام 711 إلى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي واقعة تحت حكم الشعوب المتكلمة بالعربية من عرب وبربر جاءوا من شمال أفريقيا جالبين معهم دينهم ولغتهم وبنيتهم الاجتماعية، والتي خلفت بصمة واضحة على الثقافة والأدب واللغة في إسبانيا.

 

وقد نجحت هذه الإمبراطورية الإسلامية انطلاقاً من المغرب في بسط سيطرتها على أغلب أجزاء شبه الجزيرة الأيبيرية بسرعة ملحوظة -ما عدا بعض المقاطعات- وذلك بعد أن شمل نفوذها كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد نجح هؤلاء (الذين أطلق عليهم اسم Moriscos بالإسبانية) بالسيطرة على إسبانيا في عام 711 ميلادي، وفي عام 712 أصبحت مدينة قرطبة عاصمة المنطقة الواقعة تحت نفوذ الفاتحين الجدد. وأدى الحضور الإسلامي إلى ظهور فئة من الناس أطلق عليهم "Mozarabes"، أي "المستعربون"؛ وهم مسيحيون كانوا يعيشون في المناطق الإسلامية، وأغلبهم كان يجيد العربية إلى جانب واحدة من اللهجات الإسبانية القديمة الممزوجة بالعربية، والتي كانت تدعى "Mozarabic" ولم تعد موجودة في يومنا هذا. ولسخرية القدر، كانت هذه الشعوب المسلمة السبب الذي أدى إلى نهوض إسبانيا المسيحية واستعادة المسيحيين للسيطرة على شبه الجزيرة.

 

وقامت الشعوب الناطقة بالعربية ببناء العديد من مؤسسات التعليم العالي التي تدرّس الفلسفة والأدب والرياضيات والطب، مما أتاح فرصة اكتساب هذه المعارف على نطاق واسع. وأثناء الحكم الإسلامي تحولت مدينة طليطلة إلى مركز ثقافي رفيع المستوى في عصرها، واحتضنت العديد من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود الذين كانوا وراء حركة ترجمة شملت علم الفلك، والرياضيات، والطب، والهندسة. وعلى سبيل المثال، كانت أعمال الفيلسوف اليوناني أرسطو معروفة في طليطلة وشبه الجزيرة الأيبيرية قبل وقت طويل من انتشارها في بقية أجزاء القارة الأوروبية. وكان المناخ الإبداعي الأدبي متطوراً نظراً لكون الحكام المسلمين أنفسهم شعراء وكتّاب مهرة. ولهذه الأسباب، أصبحت المدينة الهدف الاستراتيجي الأول للممالك المسيحية التي سعت لاستعادة السيطرة على شبه الجزيرة في القرن الحادي عشر الميلادي. وعندما دخلتها قوات الملك ألفونسو السادس عام 1085، أصبحت مدرسة المترجمين خاضعة للمسيحيين بعد أن كانت في عهدة المسلمين، ولكن تواصلت مسيرة العلم والمعرفة وتعززت، ونمت حركة تعليم وتطوير اللغة والثقافة الإسبانية.

 

ويعتبر ابن رشد من بين الشخصيات التي سطع نجمها في تلك الفترة، حيث اشتهر بأعماله في ميادين الفيزياء، والفلسفة، والفقه الشرعي. وكذلك ظهر على الساحة ابن حزم الشهير بكتابه "طوق الحمامة" الذي ألفه في القرن الحادي عشر، وابن عربي المتصوّف الإسلامي المعروف، فضلاً عن مجموعة من الشخصيات الأخرى التي أسهمت في إثراء الثقافة والأدب واللغة الإسبانية في مراحلها الأولى وخلال مسيرة تطورها اللاحقة.

 

بالإضافة إلى ما سبق، يمكن رؤية التأثير العربي في مجالات أخرى مثل أسماء المناطق والأماكن، والتي سميت تيمناً بأشخاص مثل طريفة، وجبل طارق، وربما غرناطة. وكانت التسميات العربية حاضرة أيضاَ في المئات من الأقاليم والمناطق والمدن، وغيرها من البقاع الجغرافية والتضاريس مثل الجبال والوديان والأنهر. ومنها مدينة المرية في اقليم الأندلس، والتي تم استقاء اسمها من "المرأى" نظراً لكونها تطل على أغلب طليطلة، ومدينة "سيوداد ريال" (المدينة الملكية) وإقليم ألباسيتي، وسهوب "لا مانتشا" القاحلة، التي يعزى اسمها إلى اللغة العربية (لا ماء نشأ).

 

وقد تبنى الحكام المسلمون بعض الأسماء الموجودة أصلاً مع تحريفها، مثل إشبيلية وقرطبة، والأندلس وغيرها، ولكن هناك الكثير من الكلمات عربية الأصل التي دخلت إلى الإسبانية على غرار Camisa (أي قميص)، وAzucar (السكر)، وArsenal (دار الصناعة)، وSierra (أصلها من كلمة "صحراء") *. وقد دخلت هذه الكلمات لاحقاً إلى لغات أوروبية أخرى. ويمكن كذلك العثور على الكلمات عربية الأصل في العديد من المجالات المهمة، والتي دخلت إلى لغات شبه الجزيرة الأيبيرية على مدى قرون من الحكم الإسلامي. مثلاً في مضمار الرياضيات هناك كلمات مثل Zero (الصفر) وأصلها من كلمة Zephirum اللاتينية المأخوذة أصلاً عن العربية، وCifra (اي رقم أو عدد)، وGuarismo (أي رقم أيضاً، وأصلها من كلمة "خوارزمي").

 

وكان العرب في إسبانيا شغوفون بالعلم والمعرفة إلى أبعد الحدود، واستخدموا لغتهم كوسيلة قوية ومرنة في الوقت ذاته لتمييز أنفسهم عن الشعوب المجاورة. وقد تشربت اللهجات المحلية لاتينية الأصل عدداً كبيراً من الكلمات العربية بسرعة كبيرة، ويقدر عدد الكلمات العربية في الإسبانية بنحو 4000 كلمة، بعضها ما زال قيد الاستخدام حتى الآن، في حان انخفض مستوى استخدام بعضها الآخر أو تم استبدالها بمرادفاتها.

وتشكل الأسماء أغلب الكلمات ذات الأصل العربي، بيد أنه توجد الكثير من الأفعال والصفات والمفاعيل المطلقة أيضاً، ولو بكمية أقل. وتكون أغلب الكلمات التي تبدأ بـ Al ذات أصل عربي عادةً، مثل Algebraالجبر، Alchemy الكيمياء، Alembic الأمبيق، Alcantara القنطرة، Alcazar القصر، Alhambra الحمراء، Alameda (مدينة اسبانية) ، Alfaquir والآلاف غيرها.

 

وقد حمل النصف الأول من القرن العاشر اسم "العصر الذهبي للأدب العربي في إسبانيا"، وبعد ذلك بوقت طويل بدأت براعم الأدب الإسباني بالظهور، ومن أبرز معالمه قصيدة "Cantar de Mio Cid" (أغنية عن سيّدي) الملحمية التي ظهرت في القرن الثاني عشر والي تتسم برزانتها وبعدها عن التنميق، وقد اعتبرها العديد بربرية للغاية من حيث لغتها وأسلوبها في الوصف. ويبدو أن كلمة "Cid" ما هي إلا كلمة "سيّد" بالعربية، وثمة اعتقاد بأن هذه القصيدة مكتوبة بأسلوب الشعر الغنائي التروبادوري الذي نشأ خلال القرن الثاني عشر عند استعادة المسيحيين للسيطرة على شبه الجزيرة. وكان هؤلاء الشعراء يغنون قصائدهم للناس في البلدات وللنبلاء في القصور. وقد تمحورت القصيدة حول حياة وأفعال بطل وطني كان يدعى رودريغو دياز دي فيفار، ولقبه سيد كامبيادور Cid Campeador (أي السيّد الشجاع).

 

وفي الختام، نعود إلى السؤال المطروح أبداً، ألا وهو إلى أي مدى أثرت اللغة العربية على تطور ونمو الإسبانية؟ فهناك الكثير من البيانات المتنوعة التي تتناول هذا الموضوع، ولا شك أن التوصل إلى جواب دقيق هو أمر في غاية الصعوبة بشكل عام. ولكن لا شك أن الكراهية والغيرة التي كنها المسيحيون الإسبان تجاه حكامهم العرب أسهمت في جعل طرح هذه السؤال شأناً غير مرغوب به بالنسبة للعلماء الإسبان، ليبقى السؤال منوطاً بأيدي الأجانب ممن سيبحثون فيه مستقبلاً.

 

* تعليق الفريق: نستبعد أن يكون أصل كلمة Sierra هو كلمة "صحارى" العربية كما أشار كاتب المقال، بل على الأرجح والأكثر شيوعاً أن أصلها يعود لكلمة Serra اللاتينية، والتي تعني "المنشار"، وذلك لأن السلاسل تشبه أسنان المنشار للناظر إليها من بعيد. وتجدر الإشارة إلى أن كلمة Sierra ذاتها ما زالت تعني "المنشار" في الإسبانية، إلى جانب كونها تعني "سلسلة جبلية".

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات