اللغة العربية بين الماضي والحاضر -2-

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات:

 

دعوة الحق

 

 

اللغة العربية أيام العباسيين:

العصر العباسي منسوب على الدولة العباسية التي خلفت الدولة الأموية سنة 132هـ وكان أول ملوكها هو أبو العباس السفاح ولم تكن أيامه أيام ازدهار علمي وإنما كانت لتركيز النظام الجديد عن طريق القوة، وان لقبه بالسفاح ليدل على ذلك، ثم خلفه أخوه  أبو جعفر المنصور، وكان عالما مهتما بالعلماء وبدأت الحركة العلمية في أيامه تبدو ثم كان بعده المهدي ثم الهادي ثم هارون الرشيد وقد بلغ اعتناؤه بالعلم انه كان لا يسافر إلا ومعه مائة عالم يشاورهم ويهتدي برأيهم، ثم كان الأمين، فالمأمون وهو الملك السابع من الدولة العباسية وقد ولي الخلافة سنة 218هـ ويعتبر أعظم ملك فيها على الإطلاق.

وقد قررنا مرارا أن اللغة لا تسمو إلا بأصحابها وإنها لا تكتسب القوة إلا عن طريقهم ولذلك نرى ان اللغة العربية أيام مجد العرب لم تجد من وصفها بالجمود والانحلال والتقهقر لان القوة كانت بيد العرب.

وحيث أن العرب كانت لهم في صدر الإسلام وفي العصر الأموي وفي العصر العباسي قوة، كانت لغتها تسرع على الشعوب بقوة هائلة، ويتسابق الناس على تعلمها لأنهم يعلمون أن الاطلاع عليها سيقربهم من كراسي الحكم وسيجعل لهم عند المسلمين جاها.

ولما تولى المأمون الخلافة لم يترك التقدم العلمي للمصادفة، بل أسس مدارس خاصة للتعليم واعتنى بالكتب العلمية وأسس خزانة عظمى سماها «دار الحكمة» ويقال أن هاته الخزانة كانت تضم جل الكتب التي الفت باللغات الأجنبية، كاليونانية والفارسية والعبرية والهندية.

ولقد اتصل بملوك الروم فأرسلوا له بعض الكتب وجعل من شروط صلحه مع ميخائيل الثالث ملك البزطيين أن يرسل إليه بعض الكتب النادرة.

ولم يكن هم المأمون هو جمع الكتب، ولكنه كان يرى أن أعظم شيء يمكن أن تثبت به قواعد الدول هو العلم، ورأى أن اللغة العربية كانت تتسع للدراسات الفقهية والأدبية واللغوية، وان العرب كانوا مشهورين بالشعر والفقه والكلام، ولكنهم كانوا في حاجة إلى الرومانيين في الطب ونحوه، ورأى أن الذين يدرسون هاته المواد من العرب يرجعون فيها إلى ما خلفه اليونانيون، لذلك رأى انه لا يهدا له بال إلا إذا ضمت اللغة العربية كل ذلك فجمع علماء يحسنون اللغة العربية واللغات الأجنبية وخصص فريقا لترجمة الكتب الفارسية وفريقا لترجمة الكتب اليونانية وآخرين لترجمة الكتب العبرية والهندسية وأصبحت اللغة العربية ترحب بهاته العلوم ووسعتها جميعها.

وقد عمل المأمون على ترجمة جل ما ألفه أفلاطون وأرسطو وسقراط وجالينوس واوكليد (اقليدش) من اليونان، وعمل على ترجمة جل ما ألفه الفرس من كتب الأدب والفلسفة كما عمل على نقل ما عند الهنود من الكتب في الحساب والنجوم.

وضم حوله جماعة من المترجمين ينتمي أكثرهم إلى المسيحيين، وأسس مدرسة للترجمة أدت اكبر الخدمات على اللغة العربية وإلى العرب أنفسهم.

يقول سيديو Sedillot احد المؤرخين الفرنسيين المولود بباريس سنة 1808 م في كتاب له اسمه خلاصة تاريخ العرب:«إن العباسيين رتبوا خمسة عشر ألف دينار لمدرسة بتعلم بها مجانا ستة آلاف تلميذ من الفقراء والأغنياء، وانشئوا مراكز للتعليم الحر رخصوا الدخول فيها لمن أراد، فانتشرت اللغة العربية في سائر جهات آسيا حتى تكلموا بها بدلا عن لغتهم، واعتاد المأمون ومن اقتدى به بعده حضور الدروس العامة التي يلقيها المدرسون» ويقول أيضا:«أن العباسيين بنوا أرصادا بها آلات عجيبة للاستكشاف الفلكي ومستشفيات يمتحن فيها من أراد أن يوظف عدة امتحانات».

ونحن إذا ما رأينا شهادة هذا المؤرخ الفرنسي فإننا لنعرف ما أدته الدولة العباسية إلى الحضارة العربية من مجد، وقد كان المأمون ينفق بسخاء على ترجمة الكتب بحيث كان يعطي نفقة شهرية تعد بخمسمائة دينار في الشهر لكل مترجم، ومما يحكى أن المأمون كان يعطي لحنين بن اسحق اصغر مترجميه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى اللغة العربية مثلا بمثل(*)(1).

ولما نقل العرب هاته العلوم لم يكونوا جامدين بل تصرفوا فيها وشرحوها وحللوها وربطوا بعضها ببعض وبينوا الأسباب لبعض المظاهر الطبيعية كالانعكاس الضوئي مثلا الذي يتجلى في قوس قزح.

وقد اخترع العرب بلغتهم العربية القواعد الأساسية لعلم الجبر حتى أن هاته الكلمة مأخوذة من اسم كتاب ألفه محمد بن موسى الخوارزمي للمأمون اسمه«حساب الجبر والمقابلة» وفر المأمون أمره بتأليف كتاب بأسلوب بسيط يبين فيه طريقة المعادلات الجبرية، كما أنهم قد اشتهروا بالطب والفلسفة حتى أن أبا بكر الرازي (864-932م) لقب بجالينوس العرب لاعتبار مهارته في الطب، وقد استطاع أن يشخص مرض الحصبة والجدري والسل، وهو أول من أشار على وجود الجراثيم قبل أن يقول باستور ذلك بألف سنة، وألف باللغة العربية كتبا متعددة في ذلك وترجمت فيما بعد على اللغة اللاتينية، واشتهر بين العرب أبو نصر محمد الفارابي (260-334هـ 873-950م) الملقب بالمعلم الثاني لأنه سعى إلى التوفيق بين آراء أرسطو وأفلاطون.

ونحن إذا ما تحدثنا عن الحركة العلمية أيام العباسيين وركزنا اتجاهنا في نهضة اللغة العربية من الناحية العلمية دون غيرها لندل على أن لغة العرب لم تكن لغة الأدب فقط، بل هي لغة العلم أيضا، وقد شاهدنا بعد هذا النهوض الموجز أن العرب كانت لهم شخصية قوية في خلق اتجاه علمي جديد كان له اكبر الأثر في توجيه العرب فيما بعد.

 

اللغة العربية بالمغرب والأندلس:

وإذا كنا رأينا ما حققته اللغة العربية من نصر في الشرق، فيجب أن نعلم أن العرب بالمغرب والأندلس لم يكونوا خاملين، بل إنهم كانوا يعملون جهد مستطاعهم على أن تكون اللغة العربية هي اللغة السائدة فان عبد الرحمن المأمون الداخل إلى الأندلس والملقب بصقر قد أقام دولة بالأندلس تناهض دولة العباسيين، كما أن المولى إدريس قد أسس بالمغرب الأقصى دولة بالاستعانة بالبربر، وكانت اللغة العربية هي اللغة التي يعمل كل من هذين المؤسسين ليكون هي الرسمية في البلاد إلا أن الدولة الأموية بالأندلس كانت لها من القوة ما هو اشد من دولة الدارسة نظرا للعصبية العربية التي كانت قوية بالأندلس، وقد بلغت هذه الدولة أوج مجدها أيام عبد الرحمن الناصر ما بين سنة 300 و 350هـ.

وانتشرت اللغة العربية في الأندلس أيام الأمويين انتشارا لا مثيل له، حتى قال دوزي في كتاب له اسمه تاريخ مسلمي اسبانيا:«إن اسبانيا المسلمة كادت كلها تقرا وتكتب على حين أن الطبقة الرفيعة من أوربا المسيحية لم تكن كذلك إذا استثنينا رجال الدين».

وعن طريق الأندلس والمغرب انتقلت حضارة العرب إلى أوربا، وعن طريق العرب عرف الأوربيون إشعاع الحضارة واهتدوا إلى المعرفة وانتقلوا من جهالة القرون الوسطى إلى عصر النهضة، ولولا العرب لتأخرت حضارة أوربا قرونا أخر، ولقد شعر الأوربيون حينما اتصلوا بالعرب بأنه يجب عليهم أن يقتدون بهم، وان يطلعوا على علومهم، وان يترجموا كتبهم، وتصبحوا يؤمون الجامعات العربية ليتعلموا وتوجه الفرنسيون ومن جاورهم إلى طليطلة وقرطبة وفاس وغصت جامعة القرويين بالوفود من كل ناحية.

ولقد اشتهرت هاته الجامعات بالمحافظة على اللغة العربية وعلى الثقافة الإسلامية وعلى نشر العلوم العامة فكانت هي الواسطة بين حضارة اليونان القديمة وحضارة أوربا الحديثة.

ولم تعل حضارة العرب إلى أوربا عن طريق الثقافة، بل وصلت كذلك عن طريق الفتح العربي، فالعرب كانوا قد وصلوا إلى اسبانيا واحتلوا صقلية وغزوا فرنسا ووقعت جل مدنها الجنوبية في قبضتهم، فاحتلوا بروفانس وبوردو ومرسيليا وأرنو ووصلوا إلى بواتييه، ولا شك أن هذا الاحتلال اثر على الحضارة الأوربية وعلى لغتها ودخلت عدد من الكلمات العربية إلى لغتهم فنجد مثلا لفظة damasquiner  بمعنى رصع أي خلط النحاس ببعض الخطوط الذهبية أو الفضية وذلك بإرجاعها إلى تلك الصنعة الفنية التي اشتهرت بها دمشق، ونجد أيضا كثيرا من الكلمات الدخيلة في لغتهم كلفظة conon  قطن magazins   مخازن،    ولفظة chemise قميص، ولفظة  chéque صك، وغير ذلك كثير.

ولم يقتصر العرب في الأندلس والمغرب على الاطلاع على العلوم الرياضية فقط، بل اشتهروا بعلم الجغرافية والتاريخ والرحلات ومن أشهرهم الإدريسي السبتي 1166م (560هـ) الذي ذهب إلى صقلية واتصل بملكها روجر الثاني فألف له كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق في شرح الكرة الأرضية الفضية التي رسمها الشريف الإدريسي باللغة العربية، ورسم في هذا الكتاب إحدى وسبعين خريطة تناقلها الأوربيون وترجموها إلى لغتهم.

وأننا بعد هذه النظرة نجد أن العرب إذا كانوا عملوا ما في جهدهم ليكونوا سادة العالم وان كانوا قد جعلوا من لغتهم لغة تتسع لجميع العلوم والأدب فأنهم أيضا استطاعوا أن يدخلوا إلى أوربا الكتابة الموسيقية فان ما خلفه زرياب الموسيقى في أصول الموسيقى الاسبانية ليعد دليلا على ما كان للعرب من مجد وحضارة.

يقول عمر الدسوقي في احد إعداد مجلة الامالي «فالموسيقى يدين بها الأوربيون للعرب إذ أن آلاتها عربية، فالقيثارة والعود والرباب كل ذلك من اختراع العرب وليس هذا عجيب بل أن النوطة الموسيقية التي اخترعها الخليل بن احمد، وزاد عليها الفارابي والكندي وابن سينات مع ما عرفوه من الموسيقى اليونانية، قد أثرت أثرا كبيرا في الموسيقى الأوربية إذ لم تكن أوربا قبل العرب تعرف العزف الجمعي (اوركسترا) إلى إن دخلت الكتابة الموسيقية العربية».

وأننا إذا ما اطلنا في ذكر الحضارة العربية فلأننا نؤمن بان هاته الحضارة كان للغة العربية اكبر الأثر في تدوينها والعمل على نشرها بدليل الحركة الاستشراقية التي انبثقت من أوربا لتنقل كل ما عندنا إلى الأوربيين وبدليل ما خلفته هاته الحركة من اثر على الاتجاه العلمي في أوربا ما زالت تستغل نتائجه إلى الآن.

 

اللغة العربية أيام المماليك والعثمانيين إلى سنة 1220هـ:

في سنة 556هـ (1258م) انقض التتار على بغداد وخربوها واحرقوا عددا كبيرا من الكتب العربية وقتلوا المستعصم آخر الملوك العباسيين، وضعف بذلك شان اللغة العربية، إلا أن الدولة في مصر كانت بيد المماليك ولم تكن لهم لغة خاصة يقاومون بها اللغة العربية لذلك بقيت بعض الحركات العلمية باللغة العربية في مصر والشام والمغرب والأندلس، ومع ذلك فقد ضعف شان العرب لتجزئتهم وتفرقتهم واستيلاء الترك على كثير من دول الشرق وجعل اللغة التركية هي اللغة الرسمية في الدولة التابعة لها، وتبع هذا الضعف انحلال في الاتجاه الفكري العربي وفي الأسلوب الأدبي وغلب على التأليف مظاهر من السجع المكلف والاعتناء بالجناس والطباق والمحسنات اللفظية، إلا ما شد من بعض البلدان حثيث ظهر فيها بعض المؤلفين الأفذاذ كابن خلدون بتونس والسيوطي بمصر، ولم يبق اعتناء الشعب باللغة لأنها لم تبق موصلة إلى كراسي الحكم بل ضعف شان العلم نفسه لان كثيرا من المناصب القضائية أصبحت تورث ولو من أب عالم إلى ابن جاهل وهكذا نعتبر هذا العصر هو عصر الانحطاط اللغوي ولا نطيل فيه الحديث فلننتقل منه إلى عصر النهضة.

 

عصر النهضة 1220هـ:

لا تعيش اللغات إلا بإحياء ذويها، ونحن نرى أن اللغة العربية قد ضعفت لما استولى التركيون على الحكم في الشرق وكذلك لما عمل الاسبانيون على إرجاع الأندلس من المسلمين، وإما في المغرب فقد ضعفت أيضا نظرا لان الاتجاه العلمي في المغرب حينذاك إنما كان يقوم على رد كل عدوان سواء عن طريق الغرب أو الشرق، وبقي المغرب محافظا على عروبته ولم يستطع العثمانيون الأتراك أن يحتلوه رغم ما كانوا يقومون به من مناورات، ومن يدرس تاريخ الدولة السعدية يعرف ما كان يقوم به المغرب من الأعمال لحفظ حريته وعروبته سواء من غزو البرتغاليين والاسبانيين أو من جشع التركيين.

ولكن لا نستطيع أن نتغافل عن الوعي العربي الذي انتشر في الأمم العربي في أوائل القرن الماضي وعن التفكير الذي أصبح يسود العرب لرد مجدهم وقد انتبهوا لذلك يوم غزا نابليون بونابرت مصر فادخل المطبعة إليها وفتح المدارس ونظم المصانع، فلما أخرجه المصريون واستولى محمد علي على الحكم أراد أن يأخذ النظم الأوربية وان يجعلها أساسا لدولته، لذلك رأى انه لا يمكن أن ينجح إلا إذا عمل على إحياء اللغة العربية وعلى ترجمة العلوم من اللغات الأوربية وبذلك ابتدأت الحركة العلمية من جديد وأصبحنا نأخذ ما كنا قد أعطيناه وأرسل البعثات إلى أوربا، كما قامت حركة أخرى ببلادنا تعهدها المولى الحسن العلوي واسل بعثات إلى أوربا أيضا ونهضت حركة التعليم بلبنان وقام الشيوعيون بدور فعال في إحياء اللغة من جديد.

عمل هؤلاء جميعا على إحياء اللغة العربية وإحياء العلوم واقتباس ما عند الإفرنج وقامت جامعة الأزهر في مصر، وجامعة الزيتونة في تونس، وجامعة القرويين بفاس بأعظم الأثر في حفظ اللغة خصوصا عندما أصبح الأوربية عازمين على غزو هذا الوعي العربي متفقين على تجزئة العرب واحتلالهم والقضاء على معنوياتهم واستغلال أرضهم وعقولهم، فاستعمروا أرضنا واستعمروا أرواحنا بما كانوا ينفثونه من أفكار فتاكة تقضي على تراثنا وتنسينا تاريخنا، وعملوا جهد مستطاعهم على إماتة لغتنا ونعتوها باللغة الميتة ولكننا حينما شعرنا بان اللغة لا تموت إلا إذا مات أهلها، قام العرب في كل أنحاء العالم يعملون على تهذيب لغتهم واجتهدوا في تطعيمها وتقليمها حتى تصبح صالحة للتقدم العلمي الجديد وقامت حركة مباركة في القرن الماضي وما زالت تؤتي أكلها إلى الآن.

ابتدأت حركة النقل في مصر النهضة بمدرسة الترجمة التي كان يرأسها في مصر الأستاذ رفاعة الطهطاوي وهو الأستاذ الفذ الذي اخذ ثقافته في جامعة الأزهر، ثم أرسل أماما لبعثة علمية إلى فرنسا فاستهوته اللغة الفرنسية فدرسها، ولما رجع إلى مصر أصبح مدير مدرسة أبي زعبل للترجمة وكانت تضم مائتين وخمسين تلميذا من بينهم علي مبارك الذي اختص في الهندسة وعمل على نقل كثير من الكتب العلمية من اللغات الأجنبية، وهو الذي أعطى الأمر لما كان وزير التعليم بمصر على نقل جل الكتب التي تعترف للعرب بقيمتهم ومنها كتاب خلاصة تاريخ العرب لسيديو الذي أخذنا بعض فقراته حين التكلم على اللغة العربية أيام العباسيين، ومن أعماله العظيمة إنشاء دار الكتب، وإنشاء مدرسة دار العلوم وفق فيها بين طلبة العلم القديم وطلبة العلم الحديث، توفى سنة 1311هـ.

ومن الله على اللغة العربية حين بعث في القرن الماضي الإمام محمد عبده فأحياها من الاندثار وعهد إليه بتدريسها في دار العلوم، فكان خير أستاذ استطاع أن يدل التلاميذ على مكنون اللغة وجواهرها وعلى قدرتها على التعبير عن جل المعاني، إلا انه لاحظ أن بعض الكتب التي ترجمت فيها نوع من الركاكة والعجز عن التعبير عن بعض المصطلحات العلمية الحديثة، لذلك اتفق مع بعض أصدقائه على إيجاد مجمع لغوي يحددون فيه الكلمات العربية المناسبة لتلك المصطلحات، ولكن هذا العمل لم يتم نظرا لكثرة الحوادث السياسية التي كانت تحيط بالدولة المصرية والتي شغلت هؤلاء العلماء، ولكن الفكرة لم يقض عليها بل استمرت في النفوس إلى أن وجدت من الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله رجلا قوي العزيمة والإيمان فاتفق مع جماعة من أصدقائه وأسسوا المجمع اللغوي العربي سنة 1920 بدمشق، وسار على نهجه مجمع آخر تأسس بالقاهرة سنة 1934، ولقد عمل هذان المجمعان ما في استطاعتهما لنقل كثير من المصطلحات العلمية، وتأسست بعض المجامع في بغداد وغيرها، وفي السنة الماضية تأسس مجمع لغوي بالرباط وسيتعاون هؤلاء جميعا على تعزيز جانب اللغة العربية في العصر الحديث.

وما مؤتمر اللغة العربية الذي انعقد بالمغرب إلا دليل على اهتمام العرب بمستقبل لغتهم.

ولم يعد الآن شك في اعتبار اللغة العربية لغة حية وان اعتراف هيئة الاونيسكو بها لأكبر دليل على ذلك فقد طبعت لأول مرة مجلتها (البريد) بلغتنا وذلك بتاريخ 16 ديسمبر 1960 ولقد خصصت اعتمادا كبيرا للتعريف بالأدب العربي وعلوم العرب إلى العالم كله.

انه من العار أن تعترف هيئة دولية بلغتنا في الوقت الذي ما زال فيه بعض الشباب العربي لا يومن بها ولا يعمل على نشرها بكل الوسائل، أن قوميتنا لا تثبت إلا على أساس اللغة العربية وذلك لان تراثنا لا يتجلى للعيان إلا بواسطتها فلنقتد بتاريخنا، ولنعمل على تحقيق مجدنا، ولنقبل بكل قوانا على التعريب والاستفادة من الانطلاقة الأدبية الشعبية ومن الاتجاه العلمي المنظم الذي تنشره مجامعنا.

إننا إذا رددنا بان اللغة العربية ضعيفة أو بان فكرنا ضعيف فإنما ذلك اعتراف لما يردده أعداؤنا يجب أن نتحداهم، وان نجعل لغتنا لغة العلم كما كانت من قبل فإذا ما قلنا في المغرب أن التعريب لا يمكن نظرا لعدم وجود الأساتذة باللغة العربية وانتظرنا حتى يجدوا، وآمنا بان هاته العلوم يجب أن تدرس بلغة أجنبية فلا شك أن الذين سيوجدون سيكونون جاهلين باللغة العربية أيضا، فإذا أردنا أن نعرب التعليم بعد عشر سنوات فسيقول الآخرون: أن التعريب لا يمكن نظرا لعدم وجود الأساتذة باللغة العربية ولننظر حتى يوجدوا وهكذا تستمر العلة ويستمر التعليم بلغة غير لغتنا.

نحن لا ننكر فضل اللغات الأخرى على العالم وعلينا أيضا ولكننا ننكر أن ننسى لغتنا وحضارتنا وتاريخنا ونتصل بلغة أخرى فنطلع بواسطتها على حضارة الأوربيين وعلومهم فنعظمهم ونستصغر تراثنا وعروبتنا، ونحن لا ندعي أن اللغة العربية أصبحت الآن في طور الكمال لان هذا الاعتبار سيعد من خطل القول، ولكننا نريد أن نقول أن اللغة التي استطاعت أن تنهض أيام العباسيين وان تسع حضارة اليونان، تستطيع الآن إذا ما توحدت جهود العرب أن تساير الركب وان تكون في مقدمته.

لذلك يجب ان نضع انفسنا امام الامر الواقع وان نعلن تعريب التعليم وبذلك سنضطر إلى ايجاد ما عجزنا عليه، لان الحاجة دائما هي التي تدعو إلى الاكتشاف والاستنباط سواء في حاجيات الإنسان الضرورية أو في التعبير عن مفاهيمها بعد اكتشافها، ونحن نرى أن كثيرا من اختراعات الحديثة قد وجدت من العرب عند إرادة التعبير انطلاقا من ألسنتهم وفكرهم فاختلقوا لها معاني جديدة كانت ملائمة للمعنى المقصود بها بعد الوضع، فالقطار والسيارة، والدبابة أو الزاحفة، والصاروخ، والقنبلة الذرية والقمر الاصطناعي، والسفينة الفضائية كل هذا يدل على أن في لغتنا تعابير يمكن أن تستعمل للدلالة على جل المخترعات.

وما هاته الأمثلة إلا أدلة على أننا إذا هيأنا الفرصة لانتشار لغتنا فسيجد المجال كثير من العلماء والأدباء لخلق ما احتجنا إليه.

وليعلم العرب انه لا يرجع إنجاح لغتنا إلا لأيدينا فلنؤمن بانتصارنا ولنعتقد ذلك لان الإيمان هو أساس النجاح ومهما دخل الإيمان بشيء في قلوب قوم إلا حولوه من طريق التفكير إلى طريق التطبيق والانجاز.

(1) عصر المأمون للدكتور احمد فريد الرفاعي ط الرابعة ج 1 ص 377.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات