الضاد تصرخ: لم تلحنون؟!

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

عراقي محمود حامد

 

لما ظهرت الأشرطة وانتشرت قال فيها أحد العلماء:

لكل زمانٍ مضى آيةٌ

وآيةُ هذا الزمان الشريط

فإذا كان لكل زمان آية، فآية هذا الزمان القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية (الإنترنت) وهذه التقنية الهائلة في الاتصالات.

 

وقد انتشرت هذه الوسائل الحديثة وسرت في جميع ربوع العالم سريان النار في الهشيم، وعمل المفسدون والمرجفون والمنافقون وأهل الكفر منذ اللحظة الأولى على استغلالها لحرب دين الله وإطفاء نوره جل وعلا.

 

ولكن مع كل هذا المكر الشيطاني بالليل والنهار تعامل المخلصون لدين الله تبارك وتعالى مع هذه المعطيات للعصر الحديث، وضربوا فيها بأسهم لا بأس بها، ولو علم من عمل على نشر هذه التقنية وتيسيرها من أعداء الدين أنها ستسخر لخدمة دين الله وللعمل على أن يبلغ ما بلغ الليل والنهار ما أقدموا على هذه الاختراعات وتطويرها وتذليلها للجميع.

 

وهذا من تأييد الله ونصرته لدينه؛ ففي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»[1].

 

وهذا من فتح الله تبارك وتعالى ونصره لدينه: قال جل في علاه: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8-9]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ؛ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ»[2].

 

فحمل المخلصون العاملون لدين الله تبارك وتعالى الباذلون لنصرته على عواتقهم أن يضربوا بنصيب في هذا المضمار لتتكافأ الفرص؛ ولئلا يكون لأحد حجة بعد البلاغ والبيان، فيعتذر ويتذرع بأنه لا يعرض إلا الأفلام والعري، ولا نسمع من يتكلم في الدين إلا الروبيضات والمأجورون الذين يلبِّسون على الناس أمر دينهم.

 

وقد قال ابن المبارك رحمه الله تعالى:

وهل أفسد الدينَ إلا الملوك

وأحبارُ سوء ورهبانها

لما كان الأمر كذلك انبرى أولئك الصادقون -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- وأطلقوا الفضائيات الإسلامية ودشنوا المواقع الهادفة الهادية، وأصبح لكل وجهة هو موليها؛ ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42].

 

لكنَّ لي عتابًا أراه واجبًا من باب التواصي الذي أثنى الله تعالى على القائمين به إذ قال جل في علاه: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾ [العصر: 3]، ومن باب التناصح الذي أمرنا به صلى الله عليه وسلم إذ قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»[3]، وقوله: «المُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ إِذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ»[4]- ألا وهو وجوب تعلُّم العربية على كل من تصدى للدعوة والنصح فضلًا عن التدريس والإفتاء.

 

فإن مما يكلم القلب ويُدمع العين تلك العُجمة في ألسنة كثير من المتصدرين المشهورين ومَن هم في طريقهم إلى الشهرة بفعل هذه الفضائيات وتلك المواقع، فلا تكاد تجد -إلا من رحم ربُّك وقليل مَا هم- من يُحسن العربية إلقاءً وكتابة وتحدُّثًا مع المشاهدين، وتضرب أذنيك اللحنةُ تلو اللحنة من الأخطاء الجليَّة- لا أقول: إنها من المسائل المختلف فيها، أو من المسائل المُشكِلة، بل من الواضحات الجليَّات، فقد يكون اللحن في كتاب الله تعالى ولا أبالغ، وكثيرًا ما يكون في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الكلام، وهذا قد يؤدِّي إلى تحريف كلام الله عن مواضعه، والكذبِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يدري.

 

وأجزمُ بأنك لن تستطيع أن تصغي بإنصات ولا أن تحصل فائدة مرجوَّة إذا سمعت الفاعل منصوبًا والمفعول به مجرورًا مثلًا.

 

وصارت العجمةُ للأسف هي الشّعار، واللحن في العربية هو الأساس، وإذا وقعت على من يُقيم قواعد اللغة الشريفة فأنت محظوظ، فعُدَّهم عدًّا، واحرص على عدم السماع إلا منهم حتى لا تتأذى باللحن إن كنتَ ممن تذوَّق حلاوة العربية وأَنِس بجمالها ووقف على بعض أسرارها.

 

وهذا في نظري القاصر راجع إلى تقسيم المتصدرين للدعوة إلى علماء ووعاظ ودعاة، فإن أنكرتَ على أحدهم قيل لك: هذا داعيةٌ يخاطب العَوَام، أو واعظ يقرِّب النصيحة للناس!

 

وأنا على يقين أن اللحن لا يقرب المعنى بل يزيده غموضًا، وهذا المتحدث لو علم لقال بما علم.

 

هذا وقد انتشرت للأسف في هذا العصر الفوضوية في العلم، وتوجهت همم المبتدئين للتصنيف والنقد، وتزببوا قبل أن يتحصرموا، وتصدَّروا للتدريس والفتوى قبل أن يتأهلوا، وقد قال أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بالفالي[5]:

تَصَدَّرَ للتَّدريسِ كُلُّ مُهَوّس

بَليدٍ تَسَمَّى بِالفَقيهِ الْمُدَرِّسِ

فَحُقَّ لأهلِ العِلمِ أنْ يَتَمَثَّلُوا

بِبَيْتٍ قَديمٍ شاعَ في كُلِّ مَجْلِسٍ

لَقَدْ هُزِلَتْ حتى بَدا مِنْ هُزَالِها

كُلاها وحتى سامَها كُلُّ مُفْلِسِ

وقديمًا قال الشافعي رحمه الله: «إذا تصدَّر الحَدَثُ فاتَه علمٌ كثيرٌ»[6]. هذا مع حسن الظن بالجميع في أنهم يريدون نفع الأمة والعمل لهداية الخلق إلى طريق الحق.

 

لكني أتعجب لداعية يدعو إلى الكتاب والسنة ولا يستطيع أن يقيم عربيته، والقرآن والسنة عربيان فكيف يُفهمان ممن لا يُحسن العربية، ولم يَدرسها على شيوخها، ولم يصقل لسانه بمفرداتها، ولم يهذِّب وجدانه بآدابها.

 

ولي أن أتساءل:

♦ أليست اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولسان نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم؟!

♦ أليست لغتنا العربية هي التي نقلت الإسلام إلى أمم العالم؛ لينقذهم بإذن الله تعالى من عذاب الدنيا والآخرة؟!

♦ أليست لغتنا العربية هي لغة الحضارة وهي سفينة نوح التي نقلت لأمم كثيرة المعاني الحقيقية للتقدم والتمدن؟!

♦ ألم تكن العلوم التي خُطَّت باللغة العربية هي السبيل والمرجع لعلوم أوربا ونهضتها بعدما كادت تغرق في ظلام جهلها وتخلفها؟

♦ ألا تمثِّل لغتنا جزءًا لا يتجزَّأُ من هويتنا الثقافية؟!

 

فكان لزامًا علينا –ولا بد- أن نعالج الداء قبل أن يستفحل، فكيف إذا صار طاعونًا عامًّا، واتسع الخرق على الراقع؛ وهذا يقينًا من مخططات الأعداء الذين عملوا على تبغيض لغة القرآن إلى أهلها، وإشاعة القول بصعوبتها وثقلها على الألسنة، والسخرية ممن يتعاطاها أو يتعامل بها، وإطلاق الضحكات على مُدرِّسيها، ووصفهم بأشنع الأوصاف في الإعلام وجعله ضُحْكة في مسلسل أو فلم أو مسرحية، وإثارة الدعوات من المثقفين المستنيرين -زعموا- للتحرر من قيود اللغة وآدابها، وإطلاق العنان للسان يقول كيفما شاء بلا ضابط ولا رابط، والحَكَم هو الذوق والمعنى، والتركيب المتناسق. فهذا هو الإبداع عندهم، أما علم البيان والمعاني والبديع (علوم البلاغة) فعلوم عفا عليها الزمن، والدعوة إلى الشعر الحر، وهو بمعناه الحقيقي، أي: الشعر المتحرر من قيدي الوزن والقافية الذي أدار ظهره للشكل المتوارث.

 

يقول الأستاذ سالم مبارك الفلق: «تلك الدعاوى الرامية إلى تفجير العربية وتحويلها إلى ركام من التراكيب والدلالات التي يعجز اللبيب عن إدراك مراميها فضلًا عن المثقف العادي. وقد بلغ مداه وأقصاه عند من يسمون أنفسهم (أهل الحداثة)، والحداثة أمرها محدَث، وشر الأمور المحدثات، لم يفكروا في حداثة تحافظ على خصوصيتنا وهويتنا وشريعتنا، وتوقف نزيف الكلمة الطيبة التي نحروها على نصب الغموض والرمز وعبث القول، والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:

1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، ولهاثهم خلف «العصرنة»!

2- الخلط بين الحَدَاثة -وإن شئت فقل: بين الهدم- والتجديد[7].

 

ولبيان أهمية الضبط يقول: «علامات الإعراب التي تتميز بها العربية دون غيرها من اللغات الأخرى والتي يحاول أعداء الإسلام أن يطمسوها بدعوى (تبسيط النحو/ صعوبة النحو... إلخ)، ولا تعدو أن تكون معولًا يحاول أن يصيب مقتلًا في كيان هذه الأمة، وهي محاولات هدَّامة تحاول إضعاف العربية. كما قال ذلك الشيخ ابن باز.

 

بينما تُلزم الكثيرات من اللغات متكلميها بترتيب معين للكلمات يميز الوظائف النحوية فيها، ويضيع هذا التمييز إذا اختل هذا، فالإنجليزية مثلًا تتبع ترتيب فاعل + فعل + مفعول، فإذا أردت أن تقول: أكل زيدٌ طعامًا، يجب أن تقول: زيدٌ أكل طعامًا. ولا يجوز أن تقول: أكل زيدٌ طعامًا، أما في اللغة العربية فأنت تقول: أكل زيدٌ طعامًا/ وزيدٌ أكل طعامًا/ وأكل طعامًا زيدٌ/ وطعامًا أكل زيدٌ/ وطعامًا زيدٌ أكلَ، فتأمل هذا وتدبَّره. وفي معرض الحركات فإن جملةَ (ما أحسن زيد) يمكن أن تكون استفهامًا وتعجبًا وذمًّا؛ وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق بأواخر الكلمات وتميز الفعل من الفاعل من المفعول، ونظام الإعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية»[8].

 

عيبٌ علينا وعار ألا نحسن العربية على وجهها، ونتكلم الإنكليزية كأننا أحد أبنائها، أو كأننا ولدنا في أرضها، ونترك لغة القرآن.

 

وهذا ليس تزهيدًا في تعلُّم اللغات الأجنبية، لكن أن يصل بنا الحال إلى أن تجد الكثير ممن يريد أن يُظهر أنه متحضِّر مُستنير يأتي في كلامه بمصطلحات أجنبية أعجمية، ليُري محدَّثه طَلَاقته في الحوار ومدى ثقافته، وإن تحدَّثت أمامه بالفُصحى ازدراك ونظر إليك شزرًا، كأنما تُعيده إلى العصور المُظلمة.

 

وبكل يقين أقول: إننا لن نستطيع أن نُقيم صحوة حقيقية إلا بالرجوع إلى مصدر عزِّنا وفهمه فهمًا سليمًا مستقيمًا، ولن يتم لنا هذا إلا بالرجوع إلى علوم الآلة وأهمها العربية التي بدونها لن نفهم ديننا القائم على كلام الله وكلام رسوله وكلام علمائنا الأفذاذ عليهم الرحمة.

 

فقد كان الواحد من علمائنا موسوعيًّا يأخذ من كل علم بنصيب، ثم قد يتخصص ويبدع في فنٍّ ما، لكنهم لم يكونوا يلحنون ويضيعون عربيتهم الأصيلة التي أتقنوها مع طلبهم للعلم، حتى ولو نشأوا في بلاد غير عربية أو كانوا هم أنفسهم غيرَ عرب أصلًا.

 

بل كان الخلفاء والأمراء يحذرون اللحن ويخافون أن يتهموا به لشناعته:

فقد دخل النضر بن شميل على المأمون ليلة فتفاوضا الحديث، فروى المأمون عن هشيم بسنده إلى ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سَداد من عوز» بفتح السين. فقال النضر: يا أميرِ المؤمنين صدق هشيم، حدثنا فلان ابن فلان... إلى علي بن أبي طالب، فذكر الحديث، فقال فيه: «سِداد من عوز» وكسر السين، وكان المأمون متكئًا فاستوى جالسًا وقال: كيف قلت، «سِداد» بكسر السين؟ قلت: لأن السَّداد بالفتح هاهنا لحن، فقال: أتلحنني؟ قلت: إنما لحن هشيم فتبعه أمير المؤمنين، فقال: ما الفرق بينهما. قلت: السداد، بالفتح: القصد في الدين والسبيل، وبالكسر: البلغة، وكل ما سددت به شيئًا فهو سداد. فقال المأمون: أَوَتعرفُ العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول:

أَضَاعُونِي وَأي فَتًى أَضَاعُوا

لِيَومِ كَرِيهَةِ وَسِدَادِ ثَغْرِ

فاستوى جالسًا وقال: قبَّح اللهُ مَن لا أدبَ له. ثم أخذ يسأله عن أخلب بيت قالته العرب، ثم عن أنصف بيت قالته العرب، ثم عن فعل الأمر من الإتراب، ثم عن فعل الأمر من الطين، ثم دعا بالدواة والنضر لا يدري ما يكتب، ثم دفَع ما كتب إلى خادم ووجَّهه معه إلى الحسن بن سهل. فلما قرأ الرقعة قال: يا نضرُ، قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فأخبره، فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى، فأخذ ثمانين ألف درهم بحرف واحدٍ استفيد منه[9].

 

أقول: بل بشَكْلةٍ استُفِيدت منه!

 

وحكى المبرد أن يهوديًّا بذل للمازني مائة دينار ليقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك؛ فقيل له: لم امتنعت مع حاجتك وعائلتك؟ فقال: إن في كتاب سيبويه كذا وكذا آية من القرآن، فكرهت أن أقرأ القرآن لأهل الذمة، فلم يمض من ذلك إلا مُدَيدة، حتى طلبه الواثق ، وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله، وذلك أن جارية غنت بحضرته:

أظلومُ إن مُصابَكم رجلًا

أهدى السلام تحية ظلمُ

فرد التوّزي عليها نصبَ «رجل» ظانًّا أنه خبر «إن» فقالت: لا أقبل هذا ولا غيره، وقد قرأته كذا على أعلم الناس بالبصرة أبي عثمان المازني؛ فأُحضر من سُرَّ مَن رأى، وسأله الخليفة عن البيت، فقال: صوابه: «رجلًا»، فقال له الخليفة: ولم؟ فقال: إنَّ «مصابكم» مصدر بمعنى: «إصابتكم». فأخذ التوزي في معارضته، فقال: هو بمنزلة قولك: إن ضربَك زيدًا ظلمٌ، فالرجل مفعول «مصابكم» و«ظلم» الخبر، والدليل عليه أن الكلام معلَّق إلى أن تقول «ظلم» فيتم، فقال التوزي: حسبي، وفهم. واستحسنه الواثق. وأمر له بثلاثين ألف درهم[10].

 

فمن ترك شيئًا لله عوّضه، ورحمةُ الله على علمائنا الذين صانوا العلم فصانهم، وأعزوا العلم فأعزهم الله!

 

فاللحنُ كان عندهم معيبًا جدًّا؛ لذلك قال أبو الأسود الدؤلي، وهو واضع علم النحو على المشهور بأمر علي رضي الله عنه: «إني لأجد لِلَّحن غَمرًًا كغمر اللحم».

 

ويقال: إن ابنته قالت له يومًا: يا أبتِ، ما أحسنُ السماء؟ قال: أي بنية نجومها، قالت: إني لم أُرِد أي شيء منها أحسن، إنما تعجبت من حسنها، قال: إذًا فقولي: ما أحسنَ السماءَ، فحينئذ وضع النحو [11].

 

وقد كانوا يتحاشون أن يُنسبوا إلى اللحن؛ فهذا الحجاج بن يوسف -وهو مَن هو شدةً وبطشًا- قال ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحنُ؟ قال: الأمير أفصحُ من ذاك. قال: عزمتُ عليك لتخبرني، وكانوا يعظِّمون عزائم الأمر، فقال يحيى بن يعمر: نعم، في كتاب الله، قال: ذاك أشنع له! ففي أي شيء من كتاب الله؟ قال: قرأت: «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها (أحبُّ) إليكم من الله ورسوله» فترفع أحب وهو منصوب. قال: إذًا لا تسمعني ألحن بعدها. فنفاه إلى خراسان[12].

 

وقد كان الصحابةُ -لفهمهم لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ولعلمهم أنه لن يتوصل إلى هذا إلا بالفقه في العربية- يؤمرون بتعلُّمها:

فقد كتب عمر إلى أبي موسى: «أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن؛ فإنه عربيٌّ»[13].

وعن عمر رضي الله عنه أيضًا أنه قال: «تعلموا العربية؛ فإنها تزيد في المروءة»[14].

وقال أبيُّ بن كعب رضي الله عنه: «تعلَّموا العربية كما تتعلمون حفظ القرآن»[15].

 

وقد ورد عن جماعة من السلف أنهم كانوا يضربون أولادهم على اللحن[16].

 

وإليك أقوال علمائنا الجلية في هذه المسألة:

ذكر إمامنا الشافعيُّ رحمه الله أَنَّ على الخاصَّة الّتي تقومُ بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلّم لسان العرب ولغاتها، التي بها تمام التوصُّل إلى معرفة ما في الكتاب والسُّنن والآثار، وأقاويل المفسِّرين من الصحابة والتابعين، من الألفاظ الغريبة، والمخاطباتِ العربيّة، فإنَّ من جَهِلَ سعة لسان العرب وكثرة ألفاظها، وافتنانها في مذاهبها جَهِلَ جُملَ علم الكتاب، ومن علمها ووقف على مذاهبها وفَهِم ما تأوَّله أهل التفسير فيها زالت عنه الشبه الدَّاخلةُ على من جَهِلَ لسانها من ذوي الأهواء والبدع[17].

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: «فإنَّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون»[18].

 

وقال أيضًا: «وما زال السلف يكرهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتى في المعاملات، وهو التكلّم بغير العربية إلَّا لحاجة، كما نصَّ على ذلك مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ، بل قال مالكٌ: «مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه»، مع أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوَّغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام»[19].

 

وقال: «اعلم أنَّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيرًا قويًّا بيّنًا، ويؤثر أيضًا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ، وأيضًا فإنَّ نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنَّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلَّا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجب»[20].

 

وقال رحمه الله: «معلومٌ أنَّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السلف يؤدِّبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصًا وعيبًا»[21].

 

ونقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد كراهة الرطانة، وتسميةِ الشهورِ بالأسماءِ الأعجميّةِ، والوجهُ عند الإمام أحمد في ذلك كراهةُ أن يتعوَّد الرجل النطقَ بغير العربية.

 

وقال بعض العلماء: «وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة، وعلم العربية، وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها، ورسائلها»[22].

 

وعن الرحبي قال: «سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحانٌ، فكتب عن اللَّحَّان لحانٌ آخرُ؛ صار الحديثُ بالفارسية!»[23].

 

وقال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله تعالى: «ابتعد عن اللحن في اللفظ والكتب، فإن عدم اللحن جلالة، وصفاء ذوق ووقوف على ملاح المعاني لسلامة المباني»[24].

 

وقال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: «ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلَّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيُّ المستعمِر لغته فرضًا على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجنًا مؤبّدًا، وأمَّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأمَّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ»[25].

 

هذه شهادة علمائنا للعربية وأقوالهم في وجوب تعلمها خاصة لمن يطلب العلم الشرعي.

 

وقد يقول قائل: إننا نتعصب للغتنا، أقول: وحُقَّ لنا، لذلك سأورد بعض كلام غير العرب من المستشرقين الدارسين لعلوم العرب وحضارتهم، والحقُّ ما شهدت به الأعداء، فهاك بعض أقوالهم:

قال المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس: «إنَّ في الإسلام سندًا هامًّا للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة، كاللاتينية حيث انزوت تمامًا بين جدران المعابد.

 

ولقد كان للإسلام قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوب التي اعتنقته حديثًا، وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب فاقتبست آلافًا من الكلمات العربية ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوةً ونماءً.

 

والعنصر الثاني الذي أبقى على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تُبارى، فالألماني المعاصر مثلًا لا يستطيع أن يفهم كلمةً واحدةً من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة، بينما العرب المُحدَثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كتبت في الجاهلية قبل الإسلام»[26].

 

وقال المستشرق الألماني يوهان فك: «إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسيًّا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزًا لغويًّا لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية»[27].

 

أقول: ولم لا وهي اللغة التي أنزل الله تبارك وتعالى بها كتابه، فهي محفوظة بحفظ الله تعالى لدينه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فحِفظُ اللغة العربية من تمام حفظ الدين.

 

وقال جوستاف جرونيباوم: «عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمد أنزلها ﴿ قرآنًا عربيًّا ﴾، والله يقول لنبيِّه: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]، وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان، أما السعة فالأمر فيها واضح، ومن يتتبع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات .وتزيّن الدقة ووجازة التعبير لغة العرب، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيرًا فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمَّة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبيِّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثل أجنبيٍّ أقصر في جميع الحالات، وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران -وهو عارف باللغتين العربية والسريانية- إنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسَّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحسنًا، وإن الفارابي على حقٍّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو المنزُّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلَّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا»[28].

 

وقالت المستشرقة الألمانية هونكه: «كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد؟! فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة، فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار يتكلمون اللغة العربية بشغفٍ، حتى إن اللغة القبطية مثلًا ماتت تمامًا، بل إن اللغة الآرامية لغة المسيح قد تخلّت إلى الأبد عن مركزها لتحتلّ مكانها لغة محمد»[29].

 

وقال المستشرق الألماني كارل بروكلمان: «بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أيُّ لغةٍ أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعًا مؤمنون بأن العربية وحدها اللسانُ الذي أُحِلّ لهم أن يستعملوه في صلاتهم...» [30].

 

فهذه دعوة لتصحيح المسار والبداية الحقة على طريق التمكين بالعودة الصحيحة الصادقة، وترتيب أولوياتنا في التعلم والتعليم.

 

وأوصي إخواني من طلبة العلم أن لا يزهدوا في تعلم العربية ويصبروا أنفسهم على تعلمها؛ والأمر ليس صعبًا كما هو موهوم، وليس مستحيلًا كما يزعم البعض، فبإمكانك أن تدرس كتابًا أو اثنين في النحو والصرف، وبعدها تراعي ما درسته في خطبك ودروسك، بل وفي كل كلامك، بهذا إن شاء الله نخطو خطوات واسعة نحو التمكين.

 

وأرشح للمبتدئ «التحفة السنية شرح المقدمة الآجرومية» للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.

ثم يرتقي إلى كتاب «قطر الندى وبل الصدى» لابن هشام، وشرحه لابن هشام أيضًا.

ثم ينتقل إلى ألفية ابن مالك وشروحها، ومن أنفع تلك الشروح شرح ابن عقيل.

 

ومن الكتب الميسرة في النحو: القواعد الأساسية للسيد أحمد الهاشمي، وجامع الدروس العربية للشيخ مصطفى الغلاييني.

 

وأغلب الكتب الماضية تجمع بين النحو والصرف.

 

ومن الكتب الخاصة بالصرف: شذا العَرْف في فن الصرف، للحملاوي، والصرف للمراغي، والتطبيق الصرفي للدكتور عبده الراجحي.

 

وهذه دعوة لإقامة الدورات والمحاضرات لمن فتح الله لهم القلوب من طلبة العلم والدعاة حتى يكونوا بفضل الله على قدر المسئولية الملقاة على عاتقهم حتى لا يشار إليهم بالنقص أو إن شئت بالجهل بأصل العلوم.

 

وهأنذا في الختام أهديكم بعض أبيات للشاعر حليم دموس أرجو أن تحفظوها وأن تعمموها:

لا تسلني في هواها

أنا لا أهوى سواها

يالقومي، ضيعوها

فدهاها ما دهاها

كلما صعدت آهًا

هتف الإخوان واها

ما أنا وحدي فداها

كلنا اليوم فداها

لغة الأجداد كوني

لحمة نحن سداها

وعلى بغداد فيضي

بركات في رباها

وعلى المغرب هبي

نسمة طاب شذاها

واسطعي في الشام نورًا

يتلالا في سماها

 

وهو القائل أيضًا:

 

لو لم تكُنْ أمُّ اللغاتِ هيَ المُنى

لكسرتُ أقلامي وعِفتُ مِدادي

لغةٌ إذا وقعتْ على أسماعِنا

كانتْ لنا بردًا على الأكبادِ

ستظلُّ رابطةً تؤلّفُ بيننا

فهيَ الرجاءُ لناطقٍ بالضّادِ

وتقاربُ الأرواحِ ليسَ يضيرهُ

بينَ الديارِ تباعدُ الأجسادِ

أفما رأيتَ الشمسَ وهيَ بعيدةٌ

تُهدي الشُّعاعَ لأنجُدٍ ووَهادِ

أنا كيفَ سرتُ أرى الأنامَ أحبّتي

والقومَ قومي والبلادَ بلادي

ــــــــــــــــ

[1] متفق عليه: أخرجه البخاري (2834)، ومسلم (162) من حديث أبي هريرة.

[2] أخرجه أحمد في «مسنده» (4/ 103) حديث (16998)، من حديث تميم الداري، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط مسلم».

[3] أخرجه مسلم (82) من حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ.

[4] أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1/ 93) حديث (238) من حديث أبى هريرة، وحسنه الألباني في «صحيح الأدب المفرد» (1/ 107). .

[5] الكامل في التاريخ لابن الأثير (8/335).

[6] صفة الصفوة (2/ 252).

[7] اللغة العربية، التحديات والمواجهة (ص 17).

[8] اللغة العربية، التحديات والمواجهة (ص 16، 17).

[9] راجع «معجم الأدباء» (2/ 483).

[10] راجع «بغية الوعاة» (1/ 464، 465).

[11] انظر «تاريخ دمشق» (25/ 190).

[12] انظر «أخبار النحويين» (1/ 2).

[13] أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (10/ 456) برقم (30534).

[14] «الجامع» (2/ 25) للخطيب.

[15] أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (10/ 457) برقم (30535).

[16] «الجامع» (2/ 28، 29).

[17] «التهذيب» (1/ 5).

[18] «اقتضاء الصراط المستقيم» (ص203).

[19] «الفتاوى» (32/ 255».

[20] «اقتضاء الصراط المستقيم» (ص207).

[21] «الفتاوى» (32/ 252).

[22] «الفوائد المشوق إلى علوم القرآن» (ص 7).

[23] «الجامع» (2/ 28).

[24] «حلية طالب العلم» (ص 41).

[25] وحي القلم (3/ 33، 34).

[26] الفصحى لغة القرآن- للأستاذ/ أنور الجندي (ص 301).

[27] الفصحى لغة القرآن- للأستاذ/ أنور الجندي (ص 302).

[28] الفصحى لغة القرآن- للأستاذ/ أنور الجندي (ص 306).

[29] مجلة اللسان العربي (86/ 24) عن كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب».

[30] (من قضايا اللغة العربية المعاصرة- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ص 274).

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات