أكرِمْ وأنعم بالموالي!

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

د. حمزة المزيني

 

كتب الزميل الأستاذ إبراهيم طالع مقالا في ثلاث حلقات (إلى الآن!) بعنوان «صناعة الموالي ولغة العرب» (الشرق، 11، 18، 25-11-2013م) عرض فيه قضايا كثيرة تثار دائماً عن اللغة العربية وتاريخها،

 

والادعاء بأن لهجة من لهجاتها الحديثة تمثل اللغة العربية الصافية أكثر من اللهجات الأخرى، وأكثر دلالة على طبيعة اللغة العربية الأم من الأشكال الأخرى منها، بل أكثر من اللغة العربية الفصحى نفسها.

 

 

وسأحاول في هذا المقال والمقال التالي الحوار مع الزميل المبدع عن هذه القضايا، وإن كنت أخشى أن يصف كلامي بما وصف به «ردود» الأستاذ عبدالله بن فراج الشريف على مقالاته السابقة عن الموضوع نفسه!

 

 

وسأبدأ بمناقشة استخدامه مصطلح «الموالي». وقد شاع استخدام هذا المصطلح التحقيري إبان الجدل، الذي أُسمي ﺑ«الشعوبية» في العصر العباسي، بين العرب وشعوب البلدان المفتوحة - والفرس خاصة. ومصطلح «الشعوبية» نفسه متحيز للعرب؛ لأن المقصود به إدانة تحقير المتطرفين قومياً من الفرس للعرب، ولا يشمل إدانة مواقف العرب المشابهة ضد الفرس.

 

 

وكان مصطلح «الموالي» قد نُقل من كونه وصفاً تحقيرياً لتبعية فرد «أعجمي» لفرد عربي أو جماعة عربية ليكون وصفاً عاماً للداخلين تحت الحكم العربي بعد الفتح. ويعنى به تصنيف تلك الشعوب، حتى بعد إسلامها، في مرتبة أقل من مرتبة العرب. وهذا الصنيع مخالف لتعاليم الإسلام التي يصورها قوله - صلى الله عليه وسلم- : «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».

 

 

ولم يكن العرب الوحيدين الذين أطلقوا ألفاظاً تحقيرية على الشعوب التي تغلبوا عليها. فقد أطلق الرومان، مثلاً، على شعوب البلدان التي احتلوها وصف «البرابرة»، أي الأقوام المتوحشة التي لا تتكلم اللغة اللاتينية. وكذلك فعل المستعمرون الأوروبيون في العصور الحديثة حين وصفوا الشعوب التي استعمروها بأنهم متخلفون وأن على الرجل الأبيض «المستعمِر» أن يتحمل عبء تحضيرهم.

 

 

وكان المستعمرون الأوروبيون ينظرون باحتقار للغات الشعوب المستعمَرة وثقافاتها وآدابها كذلك. ومن ذلك قول تي بي ماكولي، الحاكم البريطاني للهند في زمنه، إنه «لا قيمة للتقاليد الهندية [الأدبية] إطلاقاً. و: «إنني لم أجد قط أن واحداً منهم (أي من الدعاة إلى اللغات والتقاليد الهندية) يستطيع أن يُنكِر أنَّ ما يحويه رَفٌّ واحدٌ في مكتبة أوروبية جيدة كان يعدِل الأدب المحلي للهند والعرب كله» (أمارتيا سين. الهوية والعنف. ترجمة: حمزة المزيني، ص 116). وظل هذا التحقير سائداً إلى الآن عند بعض العنصريين في الغرب؛ ومنه اتهام بعض غير المتخصصين للناطقين بالإنجليزية من الأفارقة والهنود وغيرهم بإفساد اللغة الإنجليزية.

 

 

ويتصل هذا التحقير ﻟ«الموالي» بالزعم بأن النحو العربي ليس نحواً دقيقاً للغة العربية؛ لأن الذين وضعوه كانوا «موالي»، وإمامهم سيبويه. بل لقد تجاسر بعضهم على القول إن سبب ما يراه من غموض في كتاب سيبويه أن معرفة سيبويه بالعربية ليست جيدة مما جعله يغمغم في وصفه لها!

 

 

ولا يلتفت هؤلاء إلى أن أشهر كتاب نحو للغة الإنجليزية في العصور الحديثة ألفه عالم دنماركي تعلم اللغة الإنجليزية في الجامعة! ذلك هو أوتو يسبيرسن (ت 1943م) الذي أمضى سنوات طويلة في تأليف كتابه الضخم: «نحو اللغة الإنجليزية المعاصرة على مبادئ تاريخية». ولا يزال هذا الكتاب مرجعاً ويدرس في أقسام اللغة الإنجليزية في الجامعات الأمريكية والإنجليزية وغيرها.

 

 

ومما يشهد، كذلك، بأن الأعراق التي ينتمي إليها العلماء والمبدعون ليست السبب في إنجازاتهم أن يؤلِّف اللسانيَّان البارزان، نعوم تشومسكي ومورس هالي، كتاباً ضخماً عن النظام الصوتي للغة الإنجليزية في إطار اللسانيات التوليدية. وهو: «النمط الصوتي للغة الإنجليزية»، 1968م. ذلك مع أنهما يتحدران من أصول يهودية وثقافة سلافية لا أنجلو ساكسونية. لكنهما ألَّفا بالإنجليزية أشهر الكتب وصاغا، تأسيساً على دراستهما لنظامها، أكثر النظريات اللسانية عمقاً في التاريخ.

 

 

ويقابِل تحقيرُ العرب لغيرهم في الحضارة العربية الإسلامية أن العرب، أنفسَهم، كانوا عرضة للتنقص بالتقليل من شأن إسهامهم فيها. ومن ذلك الإشارة دائما إلى أن البارزين في الثقافة العربية الإسلامية كانوا من أصول غير عربية. ومنه القول إن سبب تميز أبي العلاء المعري بشعره الفلسفي كونه روميّا، مثلا.

 

 

وبلغ الانتقاص من العرب الزعم بأن النحو العربي نفسه أُخذ من النحو السرياني أو اليوناني أو أنه قُعِّد بتأثير المنطق اليوناني. وكانت هذه الادعاءات سائدة في أوروبا حتى أوائل القرن العشرين، وتبناها بعض المستشرقين، وأخذها عنهم بعض الباحثين العرب المعاصرين كأنها مسلمة لا تقبل الجدل.

 

 

ومن المحقق أنه لا أحد في الحضارة الغربية، بشقِّها الأنجلو ساكسوني، مثلا - باستثناء بعض المواقف العنصرية المتطرفة ضد المتحدرين من أصول غير ساكسونية واتهامهم بأنهم لا يمثلون هذه الثقافة- يقبل بأن تتخلى الآن عن مئات الآلاف من المنجزين فيها الذين ينتمون إلى أعراق غير ساكسونية. فهل يمكن أن تتخلى الثقافة الإنجليزية الآن، إذا ما اقتصرنا على الأدب والدراسات النقدية واللغوية والفلسفية، عن تشومسكي، وإدوارد سعيد، وديريك والكوت، وأمارتيا سين، وجوزيف كونراد الذي ولد في أوكرانيا ولغته الأولى البولندية، فعلى الرغم من أنه يعد أفضل كتّاب اللغة الانجليزية في هذا القرن إلا أن لكنته كانت كثيفة حتى إن أصدقاءه لا يكادون يفهمونه حين يتحدث»، وفلاديمير نوبوكوف «الذي يعد واحداً من كتّاب اللغة الإنجليزية المتميزين مع أنه يرفض أن يحاضِر أو يتحدث إلى وسائل الإعلام ارتجالاً، ويصرّ على أن يكتب كل كلمة بشكل مسبق مستعيناً بالمعاجم وكتب النحو. وكما فسر هذه الظاهرة بتواضع قائلا: «إنني أفكر مثْل عبقري، وأكتب مثل كاتب متميز، وأتكلم كطفل» (ستيفن بنكر. الغريزة اللغوية، ترجمة: حمزة المزيني، ص389)، مثلاً؟

 

 

وخلاصة القول إن الحضارة العربية الإسلامية، مثلها مثل الحضارة الغربية الآن وكل حضارة كبرى في الماضي، لم تكن مرتبطة بعرق معين. فقد قامت، مثل تلك الحضارات، على اللغة العربية وشارك فيها المبدعون من كل عرق، ولم تكن إبداعاتهم بسبب مورِّثاتهم العرقية بقدر ما تعود إلى انتمائهم إلى ثقافة كانت العربية لغتَها. لهذا فهُم، على اختلاف الأعراق، أهلٌ لهذه الثقافة.

 

 

إن الذين يتوهمون نقاء الثقافة العربية القديمة وينتقصون من إسهام المبدعين فيها من غير العرب، ويتهمونهم بإفسادها، والذين يرون أن سبب تميز كثير من العلماء في الحضارة العربية الإسلامية يعود إلى كونهم ينتمون إلى أعراق غير عربية، إنما يعيشون، جميعاً، تحت تأثير الأوهام والنزعات العنصرية التي كانت شائعة قديماً، وظلت سائدة حتى بدايات القرن العشرين في الغرب. وهي التي نشأ عنها أسوأ التحيزات العرقية والثقافية من كل نوع. وهي التي أثبتت العلوم البيولوجية والتاريخ الثقافي عدم صحتها منذ عقود.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات