أثر الإسلام في العربية وإيثار المسلمين لها

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

 

الدكتور علي أبو القاسم عون

 

هذا العنوان يتوزع إلي جانبين هما أثر الإسلام في اللغة العربية ، وأوسع ما فيه تحوّل العربية من لغة قومية إلي لغة عالمية ، وإيثار المسلمين للغة العربية وأعلى ما فيه حب غير العرب للعربية واستبدال كثير منهم اللغة العربية بلغاتهم المحلية.

 

أولا: أثر الإسلام في العربية:

لعل أبرز مظاهر أثر الدين الإسلامي في اللغة العربية هو تحولها من لغة قوم قطرية إلي لغة دين عالمية، ومن التعبير عن مكونات حياة ضيقة إلي استيعاب مجالات حضارة واسعة، ومن الانزواء في شبه جزيرة العرب إلي الانتشار في أنحاء الكون.

 

العربية لغة القرآن الكريم:

قال تعالى:" إنّا أنزلناه قرآنا عربيا لعلّكم تعقلون"(1)

وقال تعالى:" إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"(2)

وقال تعالى:"ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلّهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلّهم يتّقون"(3)

هذه الآيات تؤكد حقيقة عروبة القرآن، فمن المعلوم أنّه نزل بلسان العرب وأساليبهم في التخاطب، فكان فيه ما في العربية من الظواهر اللغوية التي بلغ بها نهاية البلاغة ومرتبة الإعجاز، وقد نفى القرآن أن يكون فيه لسان غير عربي، قال تعالى: "ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يُعلّمُه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين"(4)،   وقال تعالى:" ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصّلت آياته أأعجمي وعربي"(5)، ومع أنّ القرآن جاء على المألوف في لغة العرب من حيث الحروف والمفردات والجمل وقوانينها التركيبية العامة، وكان عربيا جاريا على أساليب العرب وبلاغتهم، فإنّه قد أعجزهم بأسلوبه المتميز ونظمه البياني ونهجه في الخطاب للعقل والعاطفة وتأثيره في الخاصة والعامة، وذلك سرّ إعجازه البياني وتأثيره الروحي (6)، وقد تحدى أرباب البيان والبلاغة في كل عصر،قال تعالى: "وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" (7)، وقال تعالى:"قل لإن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا"(8)، ولا أريد هنا أن أخوض في مسألة وجود ألفاظ أعجمية في القرآن، فتكفي الإشارة إلي المزيل للخلاف ، أعني قول أبي عبيدة القاسم بن سلام:(والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أنّ هذه الحروف أصولها عجمية كما قال الفقهاء إلاّ أنّها سقطت إلي العرب فأعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلي ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فهو صادق)(9)،ولكن أشير إلي مسألة أخرى وهي ما يفهم من (المبين) فيما ورد وصفا للسان عربي في قوله تعالى:"لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" (10) وقوله تعالى:"وإنّه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين"(11).

فهل يفهم من ذلك أنّ العربية قبل نزول الوحي قد كانت في حالة انحدار وبدأت تغمض في التخاطب بما تفرع عنها من لهجات، وجاء القرآن بلسان عربي مبين؟(12) وهذا مستبعد لأن اللغة العربية التي بدأت تتلاشى ثم اندثرت كما يقول المؤرخون هي العدنانية، والقرآن لم يأت بهذا اللسان، أو أن العربية قبل نزول القرآن الكريم كانت ذات لهجات متعددة(13) ومتباينة في الفصاحة، وأنّ من تلك اللهجات لهجة قريش التي كان لها من النفوذ والسيطرة بعلو مقامها وسمو رتبتها ما جعلها توحد تلك اللهجات في لغة واحدة وهي اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن، وأنّ العربية منها المبين ومنها غير مبين، والقرآن جاء باللسان المبين؟

مهما يكن من أمر فإن القرآن نزل في أعلى درجات البيان لأن وصفه بالعربي وصف بالبيان، فالإعراب بيان، ولم يكن بهذا المعنى إلاّ لأنّ أصله (العرب) وذلك لما يعزى إليها من الفصاحة والإعراب والبيان(14)، ووصفه بـ (المبين) تأكيد لما يفيده (عربي) وزيادة تقتضيها المغايرة، فكونه مبينا يعني أنّه أفصح ما يكون من العربية(15)، وأنّه يقع من التفاضل في العربية ما لا يقع في غيرها من اللغات، ولذلك رفعه عن أن يكون أعجميا وجعله في أعلى درجة من درجات البلاغة، وهي درجة الإعجاز التي اختص بها، ويشهد لذلك كما ذكرت أنّ الله تعالى وصفه بأنّه بلسان عربي مبين وكرر ذلك في مواضع كثيرة وبيّن أنّه رفعه عن أن يجعله أعجميا(16) ، وتحدى به البشر في أكثر من موضع على أن يأتوا بمثله، قال تعالى:               " قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا"(17) ،فقد ثبت أنّه تحداهم وثبت أنّهم لم يأتوا بمثله وذلك بالنقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري(18)، فهذا الوليد ابن عتبة يقول لما سمع قوله تعالى:" إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تّذّكرون"(19) : "والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أسفله لمعرق وإنّ أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر"(20)، وفي هذا دليل ارتقاء هذا اللسان من لغة الأدب العربي الرفيع إلي لغة القرآن العربي المعجز، وليس في الاعتزاز بنزول القرآن الكريم باللغة العربية أية أثارة من التعصب وهو ما حاربه الإسلام لأن التعصب يفرق ولا يجمع والقرآن جاء ليجمع الناس على دين واحد، والرسول بُعث للناس أجمعين(21).

ولا شك أنّ وصفه بالعربي يفهم كيف أنّ ترجمته ليست قرآنا لأنها تفقده صفة رئيسة من صفات القرآن(22)، وسنعود إلي مسألة ترجمة القرآن.

 

العربية باقية ببقاء القرآن:

العربية قبل القرآن كانت في لهجات متباينة ليس في طريقة النطق فحسب بل في بنية الكلمة وما يعتريها من إبدال وإعلال وبناء وإعراب، وفي اختلاف ذوات الكلمات الدالة، وكان لبعض اللهجات خصائص، ومن ذلك ما يعرف بالكشكشة والكسكسة والعنعنة والفحفحة والعجعجة والاستنطاء والششنة واللخلخانية والطمطمانية (23) وغير ذلك مما يخص البناء ومما يخص التركيب كالإعمال والإهمال واختلاف العمل .

وبنزول القرآن الكريم أخذت تلك اللهجات تتقارب ويزول ما بينها من اختلاف فالتقت في لسان واحد هو اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن الكريم، وبتوحيد العربية في لسان واحد كتب لها الخلود، لأن هذا اللسان سلك بها سبيل الرسوخ والصمود أمام الألسنة التي صادفتها في بقاع انتشارها وذلك بما أتيح لها من :

1- نقاء وصفاء، حيث تخلصت بفضل القرآن من حوشي الكلام ومستهجنه، وارتقت بالمعجم القرآني في أسماع الناطقين بها وأذواقهم.

2- يسر وسهولة بما اكتسبت من بلاغة القرآن وبيانه من حسن النظم وتنوع الأنساق وانضباط التراكيب وسلامة الأساليب.

3-  تقنين وتقعيد، فالغيورون على القرآن لم يتأخروا في استنباط القواعد وصياغة القوانين، ففيما وضعوا من علوم وما سطروا من قوانين في علوم العربية من نحو وصرف وأصوات وتجويد وكتابة خدمة جليلة للغة العربية تكفل لها البقاء والانتشار.

4- اتساع وشمول، فكل العلوم التي انبثقت عن الإسلام من فقه وعقيدة وكلام وتفسير وقراءات كانت بالعربية بل كان من شرط المشتغل في أيّ منها الإلمام بعلم العربية، وكل العلوم التي نشأت في حضن الحضارة العربية من فلك ورياضة وطب وكيمياء كانت بالعربية ترجمة وتأليفا، وهذا الاتساع وطّد أركانها ورسّخ مقامها، وإن تأوربت هذه الأخيرة ـ وهو ما يدعو إلي إصلاح الحال بالترجمة والتعريب ـ فإنّ العربية باقية ببقاء القرآن وخالدة بخلوده لأنه سبيل اتصال العبد المسلم بربه ولا سبيل غيره، وهو محفوظ إن شاء الله، قال تعالى:"إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون"(24) ، يذكر أحد الباحثين في رحاب هذه الآية أنّ الذكر ذكران، ذكر بالقلب ، وذكر باللسان وفي ذلك معنيان: المادة العلمية، والجارحة البشرية والحفظ يشمل الحافظ والمحفوظ، وهذه من أعظم المبشرات بخلودية القرآن العربي واللسان العربي والإنسان العربي(25)

 

اتساع العربية:

جاء في البيان والتبيين:" ولابدّ من أن نذكر ... الدليل على أنّ العرب أنطق وأنّ لغتها أوسع وأنّ لفظها أدلّ وأنّ أقسام تأليف كلامها أكثر..." (26) ، ونقل السيوطي عن ابن فارس أنّ كلام العرب لا يحيط به إلاّ نبي..."(27)

وأقول لابدّ من النظر في عوامل اتساع هذه اللغة وارتباط ذلك بالدين الإسلامي الذي خرج بها من الجنسية القبلية إلي الجنسية القرآنية، خرج بها من شبه الجزيرة إلي العالم الفسيح، وعوامل الاتساع كثيرة منها ما هو ذاتي ومنها ما هو خارجيّ، والذاتية منها ما هو من أثر الواضع واصطلاحه ومنها ما هو من استنباط اللغوي وتقنينه، وقد فصلت القول في هذه العوامل في بحث بعنوان (العربية والعولمة)(28) حيث بينت الخصائص الذاتية للغة العربية المتمثلة في خفة مباني الكلم الناتجة عن قلة عدد حروف الكلمة في الجمهور الأعظم من المفردات، والاتساق في الأصوات المكونة لها، وإجراء عمليات الحذف والإبدال، وحسن تأليف الحركات، وكل ذلك بطبع الواضع الأول وفضله، وفي أدوات استنبطها اللغوي من التصرف المطرد للواضع، وقنّنها ، كالاشتقاق والنحت والقياس والمجاز والتعريب والارتجال مما يتصل بالمفردة ، أو الحذف والتقديم والتأخير مما يتصل بالتركيب، وقد أشرت في ذلك البحث إلي بعض الخصائص التي تمكن العربية من مطاوعة تقنيات الحاسوب، وهي التوسط اللغوي والخاصية الصرفية والمرونة النحوية، والانتظام الصوتي والحساسية السياقية، وتنوع طرق الكتابة، وثراء المعجم واعتماد على الجذر، وشدة التماسك بين عناصر منظومة العربية وهي الصرف والمعجم والصوتيات والنحو وأنّ معرفة هذه الأمور تساعد في المعالجة الآلية.

وما أريد أن أشير إليه في هذا المقام هو العوامل الخارجية لاتساع العربية، وهي التي تكشف اللثام عن فضل الإسلام ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:

1- الإسلام وسع معنى العروبة فأصبحت غير قاصرة على الدم والنسب فقط، وإنما من تكلم العربية فهو عربي، فهي لغة انتماء وثقافة لأنها لغة القرآن ، والتلازم بينها وبين القرآن واضح، فهو كتابها الأكبر، وهو الذي خرجت به من شبه الجزيرة العربية، وبفضله دخلت كل مكان دخلت إليه دعوة الإسلام وانتشرت، وأصبحت لغة المسلمين جميعا لغة حضارتهم ولغة علمائهم (29)

2- علوم العربية التي نشأت في صدر الإسلام كانت في رحاب القرآن الكريم وتوجيهه، فهي علوم إسلامية النشأة والهدف، ونشأت لدفع اللحن عن القرآن وعن لغته، ولتعليم المسلمين العربية كي لا يلحنوا في القرآن ولا يخطئوا، وكي يلحقوا بأهل العربية في لسانهم(30) ، ولا شك أنّ علوم العربية من فقه اللغة ونحو وصرف وهي العلوم التي لا يحتج لها إلاّ بكلام العرب الفصيح قد وسعت اللسان العربي لأنها بنيت على الكثير واعتدت في كثير من مسائله بالفصيح القليل، ومن مقوماتها القياس، وما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب(31)، وبنشأة العلوم السابقة نشأت علوم العربية الأخرى مثل المعاني والبيان والبديع، وكان هدفها البحث في إعجاز القرآن ولا شك أنّها ساهمت في توسيع أساليب العربية لأنها لم تقتصر في الاستدلال على عصر أدبي معين، الأمر الذي فتح باب التوسع في التراكيب والتنوع في الأساليب بما لا يتعارض مع قوانين النحو وقواعد النظم.

3- علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم الشريعة من العلوم التي نشأت بفضل الإسلام ولخدمته وأسهمت في توسيع العربية، وهي أوضح ارتباطا بالإسلام، ولولا الإسلام ما كانت ولا كان لها مصدر ولا موضوع (32) ، فتلك العلوم وفروعها نشأت بفضل المعجزة الخالدة القرآن الكريم وبفضل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهما المصدران الأساسان المبدعان للحضارة الإسلامية فما كان الفكر الإسلامي إلا بوحيها، ولا شك أن هذه العلوم الإسلامية وغيرها من العلوم التي نشأت في رحاب الإسلام أو أعيد تنظيرها في رحابه كالسياسة والفلسفة والتربية والاقتصاد والتاريخ والطب والفلك وغير ذلك من العلوم العقلية والتجريبية لا شك أنّها قد أضافت ثروة لغوية من المفردات والمصطلحات إلي معجم العربية، وهي كما نعلم تتكون بالاشتقاق والارتجال والتعريب، فبتلك العلوم التي نشأت في بيت الحضارة الإسلامية استوعبت العربية آلاف المصطلحات في مختلف الميادين(33)، فالعربية لم تكن أداة لممارسة شعائر الدين الإسلامي فحسب وإنما صارت عاملا منتجا في الثقافة والحضارة لأنها لغة العلوم والفنون.

4- ما جمع في صدر الإسلام من لغة وشعر وأمثال وأُلف في معاجم لغوية وكُتب أدبية ودواوين شعرية، وما جمع وصنف في القراءات وعلوم القرآن وتفسيره وغريب الحديث كل ذلك ثبت أصول العربية ووسع دائرتها وحفظ ذاكراتها وأسس لاستمرارها وتطورها، توسعت بفضل ذلك وبفضل ما ترجم إليها، حيث ترجمت كل العلوم من طب وفلك وحساب وكيمياء ونبات ، فقد نشطت حركة الترجمة في العصر العباسي ، وبخاصة في عصر هارون الرشيد الذي شجع الترجمة من كل اللغات، ومن المعلوم أنّ تلك الترجمة تقتضي دخول كثير من أسماء المحسوسات والأدوات، وكثير من المصطلحات العلمية وتشكلها على نهج اللسان العربي.

5- ما نقل إليها من ألفاظ يعد من روافد الاتساع الذي تحقق للعربية ، حيث نقل إليها من الفارسية والرومية والسريانية والعبرانية والحبشية والقبطية والهندية وهذا من مقتضيات انتشار الإسلام واختلاط العرب بغيرهم من الشعوب التي اتصلوا بها وتواصلوا معها، وقد فصلت القول في هذا في بحث سابق بعنوان (العربية والتقارض اللغوي ) حيث بيّنت كثيرا مما اقترضته العربية من اللغات الأخرى، ووضحت المصطلحات المرادفة للاقتراض والمتصلة به وهي التعريب والمعرب والدخيل والمولد والمحدث، ومسائل كثيرة تتصل بمفهوم هذا المصطلح  وحدوده وشروطه ومتطلباته وفوائده في توسيع العربية وتطورها ومواكبتها للتحضر والتقدم(34).

6- اتساع الدلالة وتطورها من عوامل الاتساع ومظاهره، فهناك مئات الألفاظ التي اتسعت دلالتها بظهور الإسلام وتطورت معانيها بالتعميم أو التخصيص، وفي الكتب التي بحثت في هذا أمثلة كثيرة منها على سبيل التمثيل كلمة (طعن) كانت في العصر الجاهلي للضرب بالرمح ثم استعملت بعد الإسلام في علم الحديث والرواية، وكلمة (منطق) في الجاهلية وصدر الإسلام تفيد معنى الحديث والكلام وفي العصر العباسي وبخاصة لدى علماء الكلام والفلسفة تفيد معنى القياس العقلي، وكلمة (الترجمة) تطورت في البيئة الإسلامية من العناوين إلي تاريخ الرجال إلي معنى النقل من لغة أخرى (35)، ومنها أنّ (القياس) كان بمعنى التقدير فصار مصطلحا لأحد أصول الشريعة، واللغة، و(الصلاة) كانت بمعنى الدعاء ثم صارت بمعنى العبادة المعروفة، و(الفقه) أصله اللغوي هو الفهم ثم صار علما لعلم الفقه، و(العقيقة) أصلها الشعر الذي يخرج على الولد من بطن أمه ثم أطلقت على ما يذبح عند حلق ذلك الشعر، وهكذا حدث بفضل الإسلام توسيع للدلالة، وهذا دليل على "أنّ للدين أثرا كبيرا في اللغة وفي إحياء ألفاظ ودلالات، وفي ظهور ألفاظ وعبارات جديدة بظهور الدين"(36)، وكما سبق هناك ألفاظ كانت عامة المدلول قبل الإسلام وبظهور الإسلام صارت لها معان خاصة تتصل بالشعائر والعقائد كالمؤمن والكافر والمنافق والركوع والسجود والصلاة والصوم والحجّ والزكاة(37)، فللدين الإسلامي فضل على العربية بما أحدثه فيها من تطور وإثراء حيث ظهرت في العربية كلمات وعبارات جديدة تحمل معاني جديدة لألفاظ كانت دلالاتها مغايرة للدلالات المكتسبة في ظل الدين الإسلامي، وفي ظله أصبحت (الدلالة) علما على علم الدلالة الذي من مكوناته البحث في التطور الدلالي.

7- مكونات ثقافات ديانات أخرى، فمع أن العربية لغة القرآن لأنها بها نزل وبالإسلام ارتبطت فإنّ هناك مكونا آخر من مكونات اتساعها وهو ما نقل إليها من الديانات الأخرى، حيث نقلت إليها الكتب المنزلة مثل التوراة والإنجيل وسائر كتب الأنبياء من السريانية والعبرانية (38) وفي هذا زيادة مفردات ومصطلحات، وإن كانت بالتعريب، وكما ذكرت سابقا ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، وهذا بفضل التواصل الذي أحدثه الإسلام وتأثيره على أصحاب الديانات الأخرى.

 

 

انتشار اللغة العربية:

بخروج العرب من شبه جزيرتهم داعين إلي عبادة الله مبشرين بدينه حاملين كتابه بلسان عربي مُبين انتشرت العربية بانتشاره وقضت على لغات الشعوب التي احتكت بها فأصبح دينها الإسلام ولغتها لغة القرآن حيث توحدت شعوب البلدان المفتوحة في اللغة كما توحدت في الدين(39)

انتشرت العربية في بلاد الشام والعراق وقضت على الإغريقية والأرامية، وانتشرت في مصر وقضت على القبطية قضت عليها حتى في الكنائس حيث جعلت العربية في كثير منها لغة الصلوات والمواعظ، وانتشرت في شمال إفريقيا فتقهقرت البربرية أمامها وانعزلت في بعض المناطق (40) الضيقة وصارت لغة خاصة لا دينية ولا رسمية.

وانتشرت في بلدان آسيا حيث ظهر أثرها على الفارسية والأردية والتركية والأفغانية والكردية من حيث المعاملات الفقهية والمفاهيم السياسية والأخلاقية ومن حيث الحرف العربي.

وانتشرت في إفريقيا فظهر أثرها في السواحلية والهوسا وغيرها من اللغات الأفريقية.

ولم يقف الأمر عند الأبجدية العربية التي اقترضتها الهوسة في غرب إفريقيا والسواحلية في مشرقها، والفارسية والأردية في آسيا(41) بل تجاوزت ذلك إلي إقراضها كثيرا من الكلمات والعبارات والمصطلحات والجمل بنسب متفاوتة(42)

ولا جدال في أنّ هذا الانتشار الواسع للعربية قد تحقق بفضل القرآن كتاب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فالعربية هي التعبير عن وحدة العقيدة والشريعة والفكر والثقافة والمشاعر والأحاسيس(43)، يقول مصطفى صادق الرافعي:"إنما القرآن جنسية لغوية يجمع أطراف النسبة إلي العربية، فلا يزال أهله مستعربين به متميّزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكما حتى يتأذّن الله بانقراض الخلف وطيّ هذا البسيط ، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردّهم إليها وأوجبها عليهم لما اطّرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلي ما شاء الله (44) فالقرآن حفظ العربية من الاندثار، والإسلام وسع رقعة انتشارها المكاني بانتشاره، وربط حياتها بحياته فحيثما حل الإسلام حلت العربية لأنها وسيلة فهم الدين وأداء الصلاة وغيرها من العبادات.

وبما أنّ العربية متصلة بعقيدة المسلم باعتبارها لغة الوحي، ومعبرة عن حياته باعتبارها لغة دينه والدين الإسلامي منهج حياة، ومستوعبة لما يحتاج إليه من اللغات الأخرى بوسائلها المختلفة في الاقتراض والتعريب، وليست عصية على من رام تعلمها من غير العرب لأن إمكانات انتشارها متأصلة وأدوات نشرها متعددة، والرغبة في تعلمها متزايدة، فلا يحتاج أمر تمكينها وتوسيع انتشارها إلاّ قوة الإرادة وعلو الهمة، وإخلاص النيّة، وتجديد المنهج وجمع الطاقات وتكامل الإمكانات.

 

 

ثانيا- إيثار المسلمين للعربية

بنزول القرآن وانتشار الإسلام أصبحت العربية وعاء لثقافة عالمية واسعة، ولسانًا لحضارة كونية عظيمة ، وأداة للتواصل بين المسلمين، ووسيلة لأداء شعائر دينهم وصياغة مبادئ حضارتهم وقوانينها التشريعية، وبصيرورتها لغة العقيدة والعبادة ولغة التعامل والتواصل أتيح لها أن تكون لغة عالمية مقدسة، وسرّ قدسيتها هو ارتباطها بالقرآن الكريم ، الكتاب العربي المقدس لدى المسلمين وبالعقيدة الإسلامية الأساس المتين للفكر الإسلامي، وفي قدسيتها سرّ حب المسلمين لها وإيثارها على لغاتهم الأصلية.

ويمكننا ملاحظة الإيثار في مظهرين جليين هما الاستعراب والاقتراض.

 

 

 

الاستعراب:

وهو التحول من اللسان الأعجمي إلي اللسان العربي .

والتحول-في الصرف- من معاني (استفعل) (45)، وهذا المعنى تفيده (تفعّل) كذلك(46) ولكنني آثرت (الاستعراب) دون (التّعرب)، لأن الاستفعال يحمل معنى الطلب، فيكون التحول بطلب واختيار.

وهذا التحول من ثمرات الفتوح الإسلامية، فبهذه الفتوح واختلاط العرب مع أصحاب اللغات الأخرى حدث صراع سلمي بين العربية وتلك اللغات انتصرت فيه العربية انتصارا تامّا في كثير من الأقطار حيث حلت محل اللغات المحلية والقومية لتلك الأقطار، وقد أشرت إلي بعض منها مثل الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا، وأصبحت تلك الأقطار لا تُنازع في العروبة.

وصارت لغة العبادة والعلم في أقطار أخرى في فارس وما جاورها من الهند، لأنها لغة القرآن ولأن العلوم الإسلامية أساسها القرآن، وهي علوم لكل الشعوب التي اعتنقت الإسلام وقد اشترك أبناؤها على اختلاف أجناسهم وأوطانهم في ابتكارها ونشأتها ونموّها واتساع التأليف فيها ونشرها في أقطار الأرض، والدليل على ذلك أنّ أغلب المؤلفين الأوائل كانوا غير عرب " وهل هناك أدل عليها من كون قراء القراءات السبع المتواترة، خمسة منهم غير عرب ، ومن أنّ المؤلفين في إعجاز القرآن المشهورين من غير العرب..... ويقال ذلك في كل الفنون والعلوم العربية الإسلامية" (47)

لقد احتضنت العربية كثيرا من أعلام المسلمين غير العرب فعملوا في محيطها من أمثال سيبويه وابن سرين وابن سلام والزمخشري  والفرابي والفيروزأبادي.

إنّ أولئك العلماء المستعربين أو المتعربين ملكت العربية عليهم عقولهم وقلوبهم فأتقنوها وأحبوها، وصاروا أقلامها المبدعة في مختلف الفنون وعقولها المنتجة في كل العلوم وظلوا حراسها الذائدين وحماتها المدافعين، وقد عبروا عن حبهم للعربية وتفضيلهم لها في مقدمات مؤلفاتهم إيمانا منهم بتلك العروة الوثقى بين الإسلام واللغة العربية ، ونذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر:

 

1- الشيخ أبوحاتم الرازي(322هـ)

يقول في كتابه (الزينة في الكلمات الإسلامية) في فضل الرسول-صلى الله عليه وسلم-:"وبعثه بأفصح اللغات، وأعطاه أتم الكلمات وأنطقه بأبين لسان"(48)

ويجعل فصلا ضمن مقدمته بعنوان (فضل لغة العرب) يذكر فيه سبب تفضيل العربية على العبرانية والسريانية والفارسية، ويسجل حقيقة أنّه"لم يحرص الناس على تعلم شيء من اللغات في دهر من الدهور ولا وقت من الأوقات كحرصهم على تعلم لغة العرب حتى إنّ جميع الأمم فيها راغبون وعليها مقبلون ولها بالفضل مقرون وبفصاحتها معترفون"(49) بدليل نقل الكتب المنزّلة من السريانية والعبرية إلي العربية، وما قالته حكماء العجم من الفارسية إلي العربية وغير ذلك من كتب الفلسفة والطب والنجوم والهندسة والحساب من اليونانية أو الهندية إلي العربية(50)

2- ابن جنّي الرومي اليوناني (392هـ)

يذكر في مقدمة كتابه (الخصائص) أنه أجمع "للدلالة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة"(51)

وفي باب القول في أصل اللغة يقول:

"........... وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غَلْوة السحر...... فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه، وأنها وحي"(52)

 

 

 

 

3- أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا(395هـ)

يقول في مقدمة كتابه (مقاييس اللغة):

"إنّ للغة العربية مقاييس صحيحة وأصولا تتفرع منها فروع، وقد ألف الناس في جوامع اللغة ما ألفوا ولم يعربوا في شيء من ذلك عن مقاييس من تلك المقاييس، ولا أصل من تلك الأصول، والذي أومأنا إليه باب من العلم جليل وله خطر عظيم، وقد صدّرنا كلّ فصل بأصله الذي يتفرع منه مسائله..." (53)

لقد تمكن من العربية فضل تمكن وبني كتابه على أصولها وفروعها وألف في العربية التي آثرها كتبا أخرى منها مجمل اللغة.

4- الشيخ الإمام أبوبكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني(424هـ)

في مقدمة كتابه (دلائل الإعجاز) التي يبين فيها فضل العلم نجده شديد الدفاع عن علوم العربية وبخاصة علم النحو فنظرية النظم عنده تقوم على توخي معاني النحو، هذه النظرية التي تبين أنها أساس النظريات اللغوية الحديثة، ونجده شديد التوكيد على أهمية علم البيان والشعر والأدب والإعراب فهذه العلوم هي سبيل فهم الأساليب وتحليلها وسبيل تفسير القرآن وتدبره، فالجرجاني أحب العربية وأخلص لها وتعمق في سبر أغوارها فأنتج نظرية النظم التي تقف شامخة أمام النظريات اللغوية الحديثة بل تقف أصلا تبني عليه تلك النظريات مفاهيمها وتؤول إليه.

5- أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسبوري(429هـ)

أحب العربية ودفعه حبه إلي أن ينظر في فقهها ويبحث في أسرارها فألف (فقه اللغة وسر العربية) وقال في مقدمته:"إنّه عزّ وجلّ-لما شرّف العربية وعظّمها ورفع خطرها وكرمها قيض لها حفظة وخزنة من خواص الناس وأعيان الفضل وأنجم الأرض فنسوا في خدمتها الشهوات وجابوا الفلوات..."(54) وجعل حب العرب ولغتهم من حب الله ورسوله وتعلم العربية من الدين(55)

 

 

6- أبوالقاسم محمود بن عمر الزمخشري (538هـ)

قال في مقدمة كتابه (المفصل في علم العربية):

"الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي في لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يُجد عليهم إلاّ الرشق بألسنة اللاعنين،والمشق بأسنة الطاعنين"(56)

ففي هذا القول يحمد الله على أن جعله من علماء العربية ويصرح بكونه مجبولا مفطورا على الغضب للعرب والعصبية لهم. ويذم الشعوبية ودعاتها ويفخر بعدم الانضواء تحتها، وفي كل ذلك بيان لحبه للعربية واقتناعه بها وإظهار لحبه للعرب وتفضيله إياهم.

7- الشيخ الإمام شهاب الدين أبوعبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي الرومي البغدادي(626هـ)

يذكر في سبب تأليفه لكتاب (معجم البلدان) أنّه سئل عن (حباشة) اسم موضع جاء في الحديث النبوي وهو سوق من أسواق العرب في الجاهلية فقال: (حُباشة) بضم الحاء قياسا على أصل هذه اللفظة في اللغة لأنّ الحُباشة الجماعة من الناس من قبائل شتّى فعارضه بعض المحدثين وقال: هو حَباشة بالفتح، فأراد قطع الاحتجاج بالنقل ففكر في تأليف كتاب في هذا الشأن(57) وحقق ما أراد ، فكانت هذه الكلمات العربية سببا لتأليف هذا السفر العظيم والمرجع الكبير في أسماء البلدان ومواقعها(58)

8- أبوالحسن الندوي الهندي:(معاصر)

يقول في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين):

"ولكن المسلم ينظر إلي العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي وبغير العين التي ينظر بها الوطني العربي، إنّه ينظر إليه كمهد الإسلام ومشرق نوره ومعقل الإنسانية وموضع القيادة العالمية، ويعتقد أنّ سيّدنا محمدا العربي هو روح العالم العربي وأساسه وعنوان مجده..."(59)

ويقول في موضع آخر:"والعالم العربي....يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام ويستطيع أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي ويزاحم أوربا بعد الاستعداد الكامل، وينتصر عليها بإيمانه وقوة رسالته ونصر من الله ويحول العالم من الشّر إلي الخير ومن النار والدمار إلي الهدوء والسلام"(60)

ثم يقول:"لقد كانت ولا تزال قيادة هذا العالم بجدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها وأقواها في تاريخ الزعامة والقيادة وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الإسلامية وتفانوا في سبيلها فأحبهم الناس في العالم حبا لم يعرف له نظير، وقلدوهم في كل شيء تقليدا لم يعرف له نظير، وخضعت للغتهم اللغات ولثقافتهم الثقافات ولحضارتهم الحضارات، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلي أقصاه وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم، ويتقنونها كأبنائها وأحسن، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي ويُقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقّادهم"(61)

لقد أحب الندوي العربية وأجاد التأليف فيها وبها وله مئات الكتب والبحوث والمقالات في العربية والفكر الإسلامي منها على سبيل التمثيل لا الحصر إضافة إلي الكتاب الذي اقتطفنا منه ما سبق، رجال الفكر والدعوة الإسلامية،الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، الدعوة الإسلامية في الهند وتطوراتها، العرب يكتشفون أنفسهم.

 

الاقتراض:

في بحث سابق بعنوان (العربية والتقارض اللغوي)(62) ذكرت نماذج كثيرة لما اقترضته اللغات من العربية وبخاصة اللغات الإفريقية، وقد أكدت في ذلك البحث حقيقة أنّ ظاهر الأخذ والعطاء أو ما يسمى بظاهرة التبادل اللغوي هي أبرز ظواهر التأثير في اللغات (63)، وبيّنت أنّ الإقراض دليل غناء اللغة المقرضة، وهو دليل سيادة الأمة الناطقة بها (64)، وقد أشرت في بداية بحثي هذا إلي سيادة الأمة العربية والإسلامية في عصر نهضتها حيث حلت العربية محل اللغة الأصلية في كثير من الأقطار التي رحلت إليها مع الفتح الإسلامي، وأريد أن أثبت هنا أنّ اقتراض اللغات من العربية هو دليل تأثر تلك اللغات بالعربية، ودليل احتياجها لبعض ما في العربية، ففي العربية ميزات بنيوية وتركيبية لا توجد في غيرها من اللغات، وفيها من مصطلحات شعائر الدين الجديد ما لا يوجد في تلك اللغات وكذلك المصطلحات المنبثقة عن عصر الحضارة الإسلامية السائدة ، ولعلّ أبرز ما اقترضته بعض اللغات هو الخط العربي فقد اقترضته الفارسية والبشتو، والأردو والملايو والتركية(65) واقترضته الهوسة والفلانية ومجموعة من اللغات الغينية والبربرية(66) وأكثر اللغات اقتراضا من العربية هي الفارسية والتركية(67)

ومن أبرز ما اقترض من العربية بالإضافة إلي الخط مصطلحات العبادات والمعاملات ثم مصطلحات العلوم النظرية والتطبيقية التي صاغتها الحضارة الإسلامية.

وقد أشرت في بحث (العربية والتقارض اللغوي) إلي أنّ أكثر الكلمات العربية المقترضة لم يصبها تغيير في بنيتها الأساسية أو في أصولها، وإن حدث تغيير ففي استبدال بعض الأصوات أو في حذف بعضها وغير ذلك مما لا يمس جذر الكلمة أو بنيتها الأساسية.

وإن كنت هنا بصدد تأثر المسلمين باللغة العربية فلا بدّ من الإشارة إلي أنّ الاقتراض من العربية لم يكن مقصورا على اللغات التي خضعت أقطارها للدولة الإسلامية في عصر ازدهار حضارتها وإنما امتدّ إلي لغات لم يكن بينها وبين العربية فتح أو غزو أو سيطرة وإنما كان الاقتراض ثمار تواصل حضاري وثقافي بفعل الجوار وفضل التجار الدعاة، ومثال ذلك اللغات الإفريقية حيث اقترضت كثيرا من المفردات العربية والخط العربي.

والعربية تأثرت بها لغات لم يستقر في أقطارها المسلمون كاللغة المالطية فالجزء الأكبر فيها من العربية وكذلك الاسبانية وبعض اللغات الأوربية أخذت من العربية ما يصلح دليلا للتأثر، يقول أحد الباحثين بخصوص تأثير العربية "ارتبطت العربية بالإسلام ارتباطا لا فكاك منه لأنها لغة القرآن الكريم فهي اللغة الدينية للمسلمين في جميع أنحاء الأرض... فلا غرو إذا تركت آثارا عميقة باقية في لغات الأمم الإسلامية"(68)، ثم ينقل مترجما عن قول ((BROWNE . FG:

"ومن المقطوع به أنه لا يمكن أن تعرف لغة فارس أو تركيا أو الهند الإسلامية أو أي بلد إسلامي آخر وأدبه ومناحي تفكيره معرفة تبعث على الرضا دون إحاطة كبيرة باللغة العربية، ومن المؤكد بوجه خاص أن تذوقنا لهذه الآداب واستمتاعنا بها يزدادان كلما ازددنا علما بالعربية "(69)

فهذه الشهادة تدل على عمق تأثر تلك اللغات بالعربية وسعة اقتراضها منها.

وقد سبق أنّ أهم العوامل في انتشار العربية في الأقطار الإسلامية هو العامل الديني فـ "لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربية أبعد أثرا في تقرير مصيرها من ظهور الإسلام.....حيث صارت لغة الدين والحضارة"(70)، وأريد أن أذكر هنا بحثين بالخصوص الأول بعنوان (الدوافع الدينية في تطوير اللغة العربية في إيران)(71) فقد أشارت فيه الباحثة إلي نفوذ العربية في الأدب الفارسي وامتلاكها موقعا خاصا في الفارسية، وبينت حالات هذا النفوذ وهي:

1- الحالات التي كانت تبدو فيها كلمة عربية أبسط وأسهل من الكلمة الفارسية، أو كانت هناك كلمات بسيطة يؤدي استخدامها إلي حدوث انبساط وانفتاح في اللغة الفارسية.

2- في الحالات التي لم تكن توجد كلمة فارسية مرادفة للكلمة العربية وكان استخدام الكلمة العربية ضروريا (72).

وقد فصلت القول في عدة أمور أهمها آفاق اللغة العربية في ذلك القطر والتهديدات والتحديات التي تواجهها،واقترحت عدة اقتراحات منها تزويد ذلك القطر الإسلامي بوسائل تعليم العربية من كتب وكراريس وأقراص مدمجة وكل ما ييسر تعلم العربية، وإيجاد مراكز ثقافية للغة العربية تشرف على التواصل اللغوي والثقافي مع الدول الإسلامية، وتقوية الروح الدينية لدى الشباب، وعرض العربية باعتبارها لغة دينية بعيدة عن المواقف القومية لتجد طريقها للانتشار والشيوع.لقد كتبت بحثها بروح المُحبة للعربية الغيورة على لغة دينها الإسلامي.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
07-02-2023

ماشاء الله الموضوع مفيد جدا