لا عليك ما فاتك من الدنيا (1)

خالد سعد النجار

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أربع إذا كن فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم»

 

(1) أربع خصال جامعة للفضائل كلها.. إنها الغنيمة الباردة التي من حازها لا ينبغي له أن يبكي ما فاته من حطام الدنيا، سواء كان مالا أو ولدا أو عقارا أو جاه، فخصال الخير تبقى وحطام الدنيا زائل، وخصال الخير تنفع صاحبها في الدنيا بمحبة الخلق له وحسن الثناء عليه، وكذلك تنفعه في الآخرة بأن مكافأتها الجنة..

 

والانشغال بخصال الخير يثمر مجتمعا سويا لا يهضم فيه فقير ولا يظلم فيه ضعيف، أما التكالب على حطامها فلا ينتج إلا مجتمعا ماديا تسوده المصلحة والمنفعة والجري وراء كل لذة وشهوة. قال طاووس: "إن هذه الأخلاق منائح يمنحها الله عز وجل من يشاء من عباده، فإذا أراد الله بعبد خيرا منحه منها خلقا صالحا".

 

(2) إنها خصال الخير التي لا يبغي بها المؤمن الصادق بدلا، وإن فاتته بعد جنيها الدنيا بأسرها ومتاعها وزينتها، فحب الدنيا أقتل من السم. صدق الحديث: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»

 

(3) وعن الحسن بن على -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة»

 

(4) قال الطيبي: "جاء هذا القول ممهداً لما تقدمه من الكلام، ومعناه إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب، فارتيابك من الشيء منبئ عن كونه مظنة للباطل فاحذره، وطمأنينتك للشيء مشعر بحقيقته فتمسك به، والصدق والكذب يستعملان في المقال والأفعال: وما يحق أو يبطل من الاعتقاد، وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية المطهرة عن دنس الذنوب ووسخ العيوب". والحاصل أن الصدق إذا مازج قلب الكامل امتزج نوره بنور الإيمان فاطمأن وانطفأ سراج الكذب، فإن الكذب ظلمة والظلمة لا تمازج النور.

 

(5) قال ذو النون المصري: "الصدق سيف الله في أرضه، ما وضع على شيء إلا قطعه". وقال أبو سليمان: "اجعل الصدق مطيتك والحق سيفك والله غاية طلبتك". وقال: "من كان الصدق وسيلته كان الرضا من الله جائزته". فعاقبة الصدق أحلى من العسل، قال يوسف بن أسباط: "يرزق الصدوق ثلاث خصال: الحلاوة، والملاحة، والمهابة".

 

(6) وقال الفضيل: "لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال".

 

(7) قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ) [محمد:21]. قال الجنيد: "حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب". وقال بعض الصالحين: "عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك". روي أن ربعي بن حراش لم يكذب كذبة قط، فأقبل ابناه من خراسان وهما عاصيان قد تأجلا، فجاء العريف إلى الحجاج فقال: أيها الأمير، إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب كذبة قط، وقد قدما ابناه من خراسان وهما عاصيان، فقال الحجاج: علي به، فلما جاء قال: أيها الشيخ، قال: ما تشاء. قال: ما فعل ابناك؟ قال: المستعان الله، خلفتهما في البيت. قال: لا جرم والله لا أسوؤك فيهما، هما لك.

 

(8) قال ابن مسعود: "لا يصلح الكذب في هزل ولا جد، ولا أن يعد أحدكم حبيبه شيئا ثم لا ينجزه به". وقال إسماعيل بن عبيد الله المخزومي: "أمرني عبد الملك بن مروان أن أعلم بنيه الصدق كما أعلمهم القرآن، وأن أجنبهم الكذب، وإن كان فيه القتل".

 

(9) وقال مطر الوراق: "خصلتان إذا كانا في عبد كان سائر عمله تبعا لهما: حسن الصلاة، وصدق الحديث". وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "إن الرجل ليحرم قيام الليل وصيام النهار بالكذبة يكذبها"

 

(10) وقال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات:10] أي الكذابون.. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان أبغض الخُلق إليه -صلى الله عليه وسلم- الكذب"

 

(11) وعنها قالت: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضا عنه حتى يحدث توبة".

 

(12) وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه عليه". وقال بنان عن عامر: "من كذب فهو منافق. ثم قال: لا أدري أيهما أبعد غورا في النار الكذب أم الشح". وقال مطرف بن طريف: "ما أحب أني كذبت وإن لي الدنيا وما فيها، كان سفيان يقول: ما أحب أني تعرضت لسخط الله". وروي عن أبي العالية قوله: "أنتم أكثر صياما وصلاة ممن كان قبلكم، ولكن الكذب قد جرى على ألسنتكم". وعن الأحنف بن قيس قال: "ليس للكذوب مرؤة، ولا للبخيل حياء، ولا لحاسد راحة، ولا لسيئ الخلق سؤدد". وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "لا تجد المؤمن كذابا". وقال أيضا: "لا تنظروا إلى صلاة أحد ولا إلى صيامه، ولكن انظروا إلى من إذا حدث صدق، وإذا ائتمن أدى، وإذا أشفى ورع". وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: "أبرار الدنيا: الكذب وقلة الحياء، من طلب الدنيا بغيرهما فقد أخطأ الطريق والمطلب، وأبرار الآخرة: الحياء والصدق، فمن طلب الآخرة بغيرهما فقد أخطأ الطريق والمطلب".

 

(13) قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) [الأحزاب:24]..

ففي الصدق رفعة الدنيا والآخرة.. كان لقمان عبدا أسودا، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم، فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: "صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني". وعن ابن أبي فديك قال: "إن محاسن الأخلاق مخزونة عند الله عز وجل، إذا أحب عبدا منحه خلقا حسنا أو خلقا صالحا". كلم عمر بن عبد العزيز الخليفة الوليد في شيء، فقال له: كذبت. فقال عمر: "ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه" وعن نافع، قال: دخل ابن عمر رضي الله عنهما المسجد، فطاف سبعا وصلى ركعتين ثم خرج، فلقيه رجل من قريش على باب المسجد، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قد طفت وصليت. قال: نعم. قال: ما أسرع هذا. قال: "أجل، أنتم أكثر منا طوافا وصياما، ونحن خير منكم، نحن نأتي صدق الحديث وأداء الأمانة وإنجاز الوعد"

 

(14) وقالت عائشة رضي الله عنها: "خلال المكارم عشرة، تكون في الرجل، ولا تكون في ولده، وتكون في العبد، ولا تكون في سيده، يجعلها إليه حيث شاء: صدق الحديث، وصدق البأس، والمكافأة بالصنائع، وحفظ الأمانة، وصلة الرحم، والتذمم للجار [أي الإحسان]، والتذمم للصاحب، وإعطاء السائل، وإقراء الضيف، ورأسهن الحياء".

 

(15) كان عبد الملك بن مروان إذ دخل عليه رجل من أفق من الآفاق، قال: "اعفني من أربع، وقل بعد ما شئت: لا تكذبني فإن الكذوب لا رأي له، ولا تجبني فيما لا أسألك عنه، فإن في الذي أسألك عنه شغلا عما سواه، ولا تطرني فإني أعلم بنفسي منك، ولا تحملني على الرعية فإني إلى معدلتي ورأفتي أحوج". والصدق در لا يتركه حر، والشريف من عدت سقطاته.. قال علي بن المديني: "لا أشبه الكذب إلا بثوب خلق لا ينتفع به". وقال مطرف بن طريف: "ما أحب أن كذبت، وأن لي الدنيا وما فيها". وقال إياس بن معاوية: "ما يسرني أني كذبت كذبة فغفرها الله عز وجل لي، وأعطى عليها عشرة آلاف درهم، ويعلم بها أبو معاوية بن قرة". يعني إجلالا لأبيه لا يطلع. وقال بعض العقلاء: "إنما يكذب الإنسان ليصدق فليصدق وليستريح".

 

وقال الأحنف بن قيس: "ما كذبت منذ أسلمت إلا مرة واحدة". وقال عبد الرحمن بن سلمة: "ما كذبت منذ أسلمت، إلا أن الرجل يدعوني إلى طعامه، فأقول: ما اشتهيه، وعسى أن لا يكون كذبا".

 

أقفل قتيبة بن مسلم ومعه بكر بن ماعز من خراسان، فصحب بكر رجلا، فقال له: يا بكر كذبت قط؟ فسكت عنه. قال: يا بكر كذبت قط؟ فسكت عنه. حتى عاد إلى حمام أعين، فقال: يا بكر كذبت قط؟ فقال: إنك قد أكثرت علي، وإني لم أكذب كذبة قط إلا واحدة، فإن قتيبة أخذنا بالسلاح فاستعرت رمحا، فلما مررت به قال: يا بكر، هذا السلاح لك؟ فقلت: نعم. وكان الرمح ليس لي: الـصدق حلـو وهو الـمر والـصدق لا يتركه الحر جوهرة الصدق لها زينة يحسدها الياقوت والدر ـ

 

-----

(1) فعن عبد الله بن عمر: رواه الطبراني في المعجم الكبير والحاكم في المستدرك برقم 7876 ج 4 ص 349 والبيهقي في شعب الإيمان برقم 5257 ج4 ص 321 ـ وعن عبد الله بن عمرو: رواه أحمد في المسند / مسند المكثرين من الصحابة برقم 6365 ورواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان برقم 4801 ج4 ص 205 وقال: هذا الإسناد أتم وأصح ورواه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب برقم 1505 ج1 ص 374 ورواه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق برقم 271، قال العراقي: وفيه ابن لهيعة، وقال الهيثمي بعد ما عزاه لأحمد والطبراني فيه ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح ـ وعن عبد الله بن عباس: رواه ابن عدي في الكامل 14/455 وابن عساكر في تاريخه 87/145 وقال المنذري: رواه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي بأسانيد حسنة وفيه عند البيهقي شعيب بن يحيى. قال أبو حاتم ليس بمعروف، وقال الذهبي بل ثقة عن ابن لهيعة وفيه ضعف. وقال الهيثمي: إسناد أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني حسن والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم 873، وفي السلسة الصحيحة برقم 733 وتخريج الترغيب 3/12 (2) مكارم الأخلاق ج: 1 ص: 26 برقم 32 (3) رواه مسلم ـ كتاب البر والصلة والآداب برقم 4721(صحيح) .

 

المصدر: موقع طريق الإسلام

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات