في عصر الدعاة الجُدد و"بزنس الدعوة!"!

خباب الحمد

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

في عصر سُعار التسوُّق، والإقبال على الاستهلاك، وتغوُّل الرأسماليّة في تفاصيل كثير من حياتنا؛ حتى دخلت ساحة العمل الديني؛ نرى الكاتب الفرنسي "باتريك ميشيل" يُصوّرها على أنّها ذات علاقة استهلاكية رأسمالية بالدين!

 

حتماً ظهر لنا فئة من الدعاة يقومون بهذه التنميطات، حتّى صارت الدعوة لديهم عبارة عن مشروعات شخصيّة، عرض وطلب... وبيع وشراء... وتجارة واستثمار... وليت الأمر وقف عند ذلك؛ ليكون الداعية مجرد مندوب تسويق للشركات والمؤسسات التجارية... لا بل لتصير الكلمة الدعويّة ممتزجة بالطعم المادي، وقد يتربّح منها بعضهم مبالغ طائلة؛ تجعل الفقير منهم بعد سنين غنياً !

 

يَاْمَا ضعفت نفوس كثير من الخلق أمام الفلوس إلاّ من عصمه الله؛ فتكون مهنة تجلب لهم الكثير من الربح والمال الوفير، ولو كان هذا تفرغاً منه لتقديم البرامج النافعة؛ وبقدر مُحدد يكفيه حاجته؛ لاختلف الحال إن على الموقف الفقهي أو المستوى العُرفي الدعوي.

 

ومن تتبع سير الأنبياء والمرسلين وجد أنّ عدم سؤال الأجر، يقرونها مع حثّ المدعوين على عبادة الله وحدة؛ وعدم سؤالهم الأجر منهم؛ لكي لا يشعر المدعو أنّ الداعية يتكسّب من خلف دعوته!

 

لهذا يقول تعالى: {أم تسألهم أجراً فهم من مغرمٍ مُثقلون} والآية استفهام بمعنى النفي؛ فمحمدٌ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل من يدعوهم إلى الله ويُبلّغهم رسالته الأجر؛ لأنّه لو فعل ذلك سيُعرضون عن دعوته؛ فهم من أي شيء يتبرّمون ولا يرغبون أن يتحمّلوا أي تكلفة لسماع صوت الدعوة.

 

وهذا مبدأ يحسن بالدعاة العلماء مراعاته؛ فخطوط الفتوى مدفوعة الأجر، ونشر آيات وأحاديث وأدعية بصوت الداعية بمقابل مادي، واختلاف الدعاة مع بعض القنوات حين يعلمون أنّ آخر يأخذ أكثر منهم، أو حصريّة دعوة الداعية في قناة لقاء مقابل مادي، ورفض بعضهم تلبية الدعوة لعدم جمال المكان وفخامته، أو إعراضه عن المُحاضرة إن علم قلّة الحضور، أو مطالبته بأفضل خدمات السفر من حيث الدرجة الأولى، والفندق الأفضل، وغيرها من الأشياء...

 

هذه الأشياء وغيرها؛ ستؤثر قطعاً في قبول الناس لدعوة الدعاة؛ خاصّة إذا ارتبطت الدعوة بمصالح الداعية الشخصيّة؛ فسيؤثر على سمعته؛ فالتعفّف من أموال الناس = مبدأ الدعوة الإسلاميّة؛ وهو ديدن الأنبياء والرسل، وهو الذي جعل دعوتهم تنتشر؛ بل إنّ الدعوة انتشرت في كثير من مصاقع البلاد؛ بسبب حسن خلق التجار، وبذلهم الخير من أموالهم للناس؛ لا طلبها منهم.

 

إنّ تملُّك قلوب الناس يكون بالزهد في دنياهم؛ وما أجمل الحكمة النبوية التي قالها رسول الله جاءت في حديث حسن الإسناد: {ازهد في الدنيا يُحبُّك الله وازهد فيما أيدي الناس يُحبّك الناس} فإذا شعر الحضور أنّ الداعية يقوم بتسليع الدين ويتكسّب من الأموال حتّى تتكسّد عنده؛ سيُضعف ثقتهم به؛ بل يعدمها إن شعروا أنّه يتكسّب ويجمع ثروة من دعوته.

 

ومن أراد العمل في الدعوة فقد دخل في أعظم سوق تجاري؛ يربح المرء منه مالا يُعدُّ ولا يُحصى من الأجور بالقراريط؛ وقد ورد عند الدرامي وابن أبي شيبة بسند صحيح أنّ ابن مسعود – رضي الله عنه – قال:" كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا أَلْبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً ؟ فَإِنْ غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ " قَالُوا: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ: " إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ".

 

وقد أدرك العلماء الربّانيون ذلك فمن ناحية تربوية وتطبيقية نرى الإمام الفُضيل بن عياض "لأَن آكل الدُّنيا بِالطَّبل و المزمار أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَنْ آكُلُهَا بِديني".

وأدركوه العلماء ذلك فقهياً فجمهور أهل العلم على عدم جواز الاستئجار على القُرب الدينيّة؛ ولهذا يقول ابن تيمية:"والفقهاء متفقون على الفرق بين الاستئجار على القرب وبين رزق أهلها، فرزق المقاتلة والقضاة والمؤذنين والأئمة جائز بلا نزاع وأما الاستئجار فلا يجوز عند أكثرهم" [مجموع الفتاوى ٣٠-٢٠٦].

وما دامت الدعوة والفتيا من القُرَبِ فإنّها مناصب ذات تبليغ عن الله ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليها.

 

وقد يغفل بعض الدعاة إبّان دعوتهم في أجواء التكسُّب المادي، عن سريان الضعف في عرض مبادئ الدين وعقيدته فيضعفون عن مواقف الثبات والصلابة في الدعاية إلى الدين؛ والتركيز على عرض الدين كقِيَم ومُثُل وأفكار؛ يُمكن أن يأخذ المستمع منها ما يُريد بحسب بُغيته ليُطبّق ما هو مقتنع به لا بما يجب عليه أن ينضبط به ويستسلم له؛ مع الترويج الدائم بين كل فقرة وأخرى بعبارات الوسطية، والتسامح، والتيسير، والحريّة؛ والإفادة من الحالة الفردانيّة في عمليّة نصرة الدين؛ فإذا أردنا النصر فلنصلي الفجر؛ وإذا أردنا مقاومة المحتل فلنصم؛ وإذا أردنا أن نتعامل مع مآسي المسلمين فليس إلاّ الدعاء... !

 

وليس المراد من ذلك التقليل من الاهتمام بالصلاة والصيام والدعاء؛ لكنّ عرض منظومة الإسلام؛ كحالة شعائريّة مظهريّة تعبُّديّة؛ بعيداً عن الحديث الجاد للنهوض بالأمّة بسائر أنواع النهوض الجماعي والتغيير التربوي والإصلاح السياسي والمقاومة الجهادية؛ كل ذلك سيُحدث حالة من التدين الخاص مِمّا سيتيح المجال لتمدد الأفكار العلمانية...!!

 

قال ابن القيم رحمه الله: " كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها, فلا بد أن يقول علي الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره, وإلزامه, لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس, ولا سيما أهل الرياسة, والذين يتبعون الشبهات, فأنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق, ودفعه كثيرا فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات, لم يتم لما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق, ولا سيما إذا قامت له شبهة, فتتفق الشبهة والشهوة, ويثور الهوى, فيخفى الصواب, وينطمس وجه الحق, وان كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبة فيه أقدم على مخالفته, وقال لي مخرج بالتوبة وفى هؤلاء وأشباههم قال: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً).

 

المصدر: المسلم

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات