الإعلام الحائر.. بين الخبر والرأي!

السنوسي محمد السنوسي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

إحدى المشكلات التي يُعانيها الإعلامُ في مصر - بمختلف وسائلِه - خاصَّةً بعد الثورة، هي الخَلْط الشديد بين الخبَرِ والرأي؛ مرَّةً بصياغة الخبر كأنه رَأْي، ومرة بتقديم الرأي كأنه خبَر! بحيث لم يَعُد المشاهد أو القارئ يعرف: هل الذي أمامه هو تعبيرٌ عن حدَثٍ وقع، أم عن رأيٍ مطروح؟!

 

 

ومن المعروف أنَّ الإعلام يتكوَّن من خبَرٍ ورأي، الخبر يَبْحث في ماذا حدث وكيف... إلى غير ذلك من علامات الاستفهام، التي تحاول تسليط الأضواء على الحقيقة، أما الرَّأي فهو يعتمد تصورًا واحدًا عن الحدث؛ ولذا يختلف الناس في آرائهم؛ لأن كلَّ واحد يرى الحدث من زاويته هو، ومِمَّا يتوافر لديه من معلومات.

 

 

 

وهذا الخَلْط الحاصل بين الخبر والرأي يؤدِّي إلى:

 

أولاً: تشويه الحقائق.

 

وثانيًا: تشويش القارئ أو المُشاهد.

 

وثالثًا: ويعبِّر أيضًا عن نوعٍ من عدم الثقة في القارئ؛ فكأنَّ القارئ لن يهتدي إلى الحقيقة بمجرَّد الاكتفاء بذِكْر الحدث كما هو بالضبط!

 

ورابعًا: هذا الخلط يعني فرْضَ وصاية على المتلقِّي؛ لأن الرأي يحمل في مضمونه معنى النصيحة والتوجيه.

 

 

 

المال والإعلام:

 

هذا بالطَّبع فضلاً عن دور "رأس المال" الذي تزاوَج بطُرقٍ غير شرعيَّة مع "الإعلام" لِمصالح مشتركةٍ بينهما، وعن هذا حدِّثْ ولا حرج!!

 

 

وفي رأيي؛ فإنَّ أحدَ أهمِّ الأسباب وراء الارتباك الحاصل في الساحة الإعلامية الآن: هو كثرة برامج (التُّوك شو) التي تحوَّلَت إلى منابر سياسيَّة، بل إلى منصَّات للقضاء! وخرَج فيها المذيعُ "أو المذيعة!!" من دور المُحاور الموضوعيِّ إلى دور القاضي، وربَّما: الجلاَّد؛ لصالح رأس المال الذي يُدير هذه القناة الفضائيَّة، أو تلك.

 

 

ومن ثَمَّ تحوَّل رجال الأعمال - في الخَفاء! - إلى رجال سياسة، يُحاولون توجيه الرَّأي العامِّ، والتأثيرَ على متَّخِذي القرار عن طريق إثارة بعض القضايا، أو تسليط الضَّوء عليها بطريقةٍ ما.

 

 

وهنا أضمُّ صوتي إلى صوت الأستاذ الكبير "سلامة أحمد سلامة" في مقاله: "تسونامي التوك شو!" (الشروق 14 مايو) الذي خلصَ فيه إلى أنَّ: "الإعلام بالحقائق والمعلومات أجدى كثيرًا من الكلام و(التوك شو) الذي يثير سجالاً، ولا يقدِّم أخبارًا ومعلومات تضيء عقول الناس، وتغيِّر سلوكياتهم، وهو الهدف الذي يسعى التليفزيون لتحقيقه، بدلاً من إغراق المشاهدين في (تسونامي التوك شو)، والبرامج الحواريَّة التي أصبحَتْ (موضة) لا مَهْرَب منها!!".

 

 

 

إيصال رسالة، أم تسلُّط في الأداء؟!

 

ورُبَّما يأتي الخلط بين الخبَرِ والرأي بسبب الحرص على إيصال رسالة محدَّدة، أو إثبات الذَّات، خاصَّة وسط هذا الكمِّ الهائل في وسائل الإرسال (من صحافة وتلفزيون) التي يبدو أمامها المتلقِّي مندهشًا أو حائرًا!

 

 

ربَّما يكون هذا التفسير له قدرٌ من الصحة، لكنِّي رغم ذلك أعتقد أنَّ الحقيقة المجرَّدة هي خير دعاية للحقيقة نفسها، وأنَّنا يجب أن نثق في عقل المتلقِّي وقدرته على الفهم والتحليل والمقارنة، لا أن نتعامل معه على طريقة (الأب الفاضي) الذي يقف لابنه بالمرصاد، وعلى كلِّ صغيرة وكبيرة، ويقول له: افعل كذا، ولا تفعل كذا... ويمارس عليه التسلُّط والكَبْت طوال الوقت؛ مما يُضْعِف شخصيَّة الابن، ويفقده النُّموَّ العقلي، والتفتُّحَ الذِّهني، والقدرةَ على التعامل مع المواقف، بعيدًا عن وصاية أبيه.

 

 

ومن الطريف أنَّ الأنظمة الديكتاتوريَّة تتعامل بمنطق هذا (الأب الفاضي) مع الشُّعوب، ولا تتيح أمامها خياراتٍ متعدِّدة؛ لأنَّها ترى نفسها الأقدر على فَهْم الأمور، ومُعالجة القضايا والاختيار، فلماذا يختار الشَّعبُ ويتعب نفسه طالما أن الحكومة تعمل له كلَّ شيء، وتُمارس بالنيابة عنه وضْعَ القوانين والتشريعات؟!

 

 

 

الخبر ثم الرأي:

 

الصَّحافة الناجحة هي التي تَذْكر أولاً الأخبارَ بكلِّ تفاصيلها المعتمِدة على المصادر الموثوقة، وشهادات العيان، ثم تَفْتح الباب واسعًا أمام الآراء والتحليلات في الأعمدة وصفحات الرَّأي، مع الحرص على تقديم آراء متعدِّدة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

 

 

فالمُعادلة الصحيحة: الخبر، ثم الرأي، لا العكس، ولا الخَلْط بينهما، وإذا كانوا في القانون يقولون: الحُكْم عنوان الحقيقة، ففي الإعلام: الخبَرُ عنوان الحقيقة.

 

 

 

لقد ثبت بخبرةِ التاريخ أنَّ الصحافة الموجَّهة التي تقدِّم رأيًا واحدًا بطريقةٍ فجَّة، لا تجد قبولاً لدى المتلقِّي، وتجربة الصُّحف القوميَّة عندنا قبل الثورة خيرُ دليل!

 

 

 

صحيح أنَّه لا يوجد إعلامٌ مُحايِد أصلاً، ولا موضوعيٌّ بنسبة 100 %؛ بمعنى أنَّ أي وسيلة إعلام لا بدَّ أن يكون لها اتِّجاه ما، تحاول أن تروِّج له، لكن المطلوب أن نفرِّق بين الحياد، والموضوعيَّة، والذاتية:

 

الحياد: هو خرافة كبيرة، وهو يعني المُيوعة، وعدمَ وضوحِ الرؤية؛ لأن أيَّ إنسان - أو مؤسَّسة إعلامية - لا بد أن يكون له رأيٌ في المسائل المطروحة، بغضِّ النظر عن صوابه؛ ولا يمكن أن يكون الإنسان حياديًّا أبدًا، مهما حاول أن يُخفِي رأيه المباشر.

 

 

 

والموضوعيَّة: تعني أنَّك تستند إلى الحقائق والأرقام لا الأهواء، وأنك تحترم وجهات النَّظر الأخرى، وتُقدِّمها كما هي، دون تشويهها أو الافتراء عليها؛ لأنَّ تجاوز الموضوعيَّة يجعلنا نقع في شباك الدعاية، ويحوِّل الإعلام إلى إعلان!!

 

 

 

أما الذاتيَّة: فهي من صفات الأديب؛ لأنَّه ينطلق في أعماله من مشاعره وأفكاره وتجاربه الخاصة، ويجنح إلى الخيال، غير مرتبط بالواقع.

 

 

 

نحن نحتاج إلى أن نقترب من "الموضوعيَّة" بأكبر درجة ممكنة، وإلى الأخبار الموثَّقة التي تضَعُنا في قلب الحدث وأبعادِه، أكثر من حاجتنا إلى الرَّأي الذي يُمارسه البعض بِما يُشْبِه الوصاية والدِّيكتاتورية!

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات