مختصر خطبتي الحرمين 7 من صفر 1439هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

اقتباس

ولما فُتِح بيتُ المقدِس، وقدِمَ أميرُ المُؤمنين عُمرُ -رضي الله تعالى عنه- إلى الشام، أمرَ بلالًا أن يُؤذِّن، فقال: "يا أميرَ المُؤمنين! ما أردتُ أن أُؤذِّن لأحدٍ بعد رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن سأُطِيعُك إذ أمَرتَني في هذه الصلاةِ وحدَها". فلما أذَّن بلالٌ، وسمِع الصحابةُ أذانَه، بكَوا بكاءً شديدًا. لقد ذكَّرَهم بحبيبِهم وقُرَّة أعيُنِهم، الذي أثارَ الإيمانَ في القُلُوب، وكان سببًا في نجاتِهم، فاشتاقَت إليه النفوس، وحنَّت إليه الأفئِدَة، واستكانَت لذِكرِه المشاعِر، وخالَطَ حُبُّه سُويدَاءَ الفُؤادِ وشَغافَ القُلُوب.

مكة المكرمة:

ألقى فضيلة الشيخ فيصل بن جميل غزاوي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "صُور من ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدين"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة القُدوة الحسنة التي يقتَدِي بها المُسلمون، مُبيِّنًا أن ذلك تمثَّل جلِيًّا في شخصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث ذكرَ جانبًا من جوانبِ الاقتِداء به - عليه الصلاة والسلام -، ألا وهو: الثباتُ على دين الله، وقد أوردَ العديدَ مِن صُور هذا الثبات؛ ليتأسَّى المُسلمون ويقتَدُوا به - صلى الله عليه وسلم -.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى-، فقال: اتَّقُوا الله حقَّ التقوَى، واستمسِكُوا بالعُروة الوُثقَى.

 

وأضاف الشيخ: فإن وُجودَ القُدوة الحسنة في حياةِ المُسلم ضرورةٌ حتميَّة؛ ليُقتَدَى بها، وتُكتسَبَ منها المعالِمُ الإيجابيَّة، وتكون دافعًا حثيثًا لتزكِية النَّفس، واستِنهاضِ هِمَّتها، والارتِقاء بها في مدارِجِ الكمال. وإن مِن جوانِبِ القُدوةِ في حياة الرسولِ الكريمِ -صلى الله عليه وسلم-: ثباتُه على الدين حتى أتاه اليقين، وقد ثبَّت الله نبيَّه على دينه، وأيَّدَه بنصرِه، وأعزَّه ومكَّنَه، وأعانَه في كل أحوالِه، فكان مِثالًا يُحتَذَى في التِزام الإسلام حتى الممات.

 

وقال حفظه الله: لثباتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- صُورٌ مُتعدِّدة، ومِن ذلك: ثباتُه على التمسُّك بالوحيِ كما أمرَه الله؛ فما زاغَ قِيدَ أُنملة عما بعثَه الله به. وقد التزَمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هديَ ربِّه، وتمسَّك به، على الرغم مِن مُحاولة المُشرِكين صرفَه عن حُكم القرآن وأوامِرِه، فثبت على عبادتِه لربِّه، وصبر على طاعةِ الله، واجتِهادِه في اغتِنامِ القُرُبات، وكسبِ الحسنات.

 

وتابع الشيخ: ومِن صُور ثباتِه -صلى الله عليه وسلم- ثباتُه على الأخلاق والمبادِئ والقِيَم؛ فقد بلغَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم– ذروةَ الكمال الإنسانيِّ في سائر أخلاقِه وخِصالِه، وفي جميعِ جوانِبِ حياتِه. والتوازُنُ في صِفاتِه -صلى الله عليه وسلم- مِثالٌ على ثباتِه، فحالُه على مِنوالٍ واحدٍ، ثابتةٌ مع تغيُّر الأحوال والظُّروف، فنجِدُه في كل أحوالِه يتدرَّجُ في مراتبِ العبوديَّة بين صبرٍ على البلاء، وشُكرٍ للنَّعماء، ونجِدُه يستوِي حالُه بعد المُصيبَة بحالِه قبل المُصيبَة، فلا جزَعَ ولا تسخُّط، ولكن تسليمٌ ورِضًا.

 

وبيَّن فضيلته أن من صُور ثباتِه -صلى الله عليه وسلم-: ثباته في دعوتِه إلى الله؛ إذ ظلَّ في مكة يدعُو الناسَ إلى "لا إله إلا الله"، وإلى عبادةِ الله، ويُحذِّرُه مِن الشركِ بالله، ومِن عبادةِ الأوثان سرًّا وجِهارًا، ليلًا ونهارًا، لا يكَلُّ ولا يمَلُّ. ولم يَثْنِ عزمَه سعيُ المُشرِكين للحيلُولة دُون وُصولِ دعوتِه إلى الناسِ، ولم يزِدْه ذلك إلا ثباتًا وبَذلًا لمزيدٍ مِن الجُهد في سبيلِ تبليغِ الدعوةِ ونشرِ الإسلام. ولما كلَّم المُشرِكون عمَّه أبا طالِبٍ أن يكُفَّ عن مُواصَلَة دعوتِه، قال -صلى الله عليه وسلم- في موقفٍ ثابتِ الإرادة، قويِّ العزم: "ما أنا بأقدَرَ على أن أدَعَ لكم على أن تستشعِلُوا لي مِنها شُعلَةً" يعني: الشمسَ.

 

وقال وفقه الله: واحتمَلَ -صلى الله عليه وسلم- إيذاءَ المُشرِكين بكل صَبرٍ، ولم يقبَل ما عرَضَتْه عليه قُريشٌ مِن مُلكٍ ومالٍ وجاهٍ، وواجَهَ في سبيلِ الله أشدَّ الأذَى مِن شتمِهم له، والسُّخريةِ مِنه، واتِّهامِه بالسِّحرِ والجُنُونِ والكذِبِ، وضربِهم له مرَّةً حتى أُغشِيَ عليه، ووضعِهم الرِّداءَ في عُنُقه وخنقِه به خنقًا شديدًا، ووضعِهم سلَا الجَزُورِ على ظهرِه وهو ساجِد، وإدمائِهم قدَمَيه، وشجِّهم وجهَه، وكسرِهم رباعيَّته، وغير ذلك مِن أصنافِ التعذيبِ والنَّكال الذي لقِيَه - بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.

 

لكنه لم يكترِث لذلك، ولم يفُتَّ في عضُدِه؛ بل مضَى في سبيلِه صامِدًا، رابِطَ الجَأشِ، يدعُو إلى الله تعالى، ويأمُرُ بالمعروف وينهَى عن المُنكَر على بصيرةٍ. فكيف كانت نتيجةُ ثباتِه -صلى الله عليه وسلم- على المبدأ؟!

 

وأكد الشيخ: لقد دخلَ الناسُ في دينِ الله أفواجًا، وهزمَ الله الصادِّين عن سبيلِه ودحرَهم، وتُوفِّي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بلَّغَ رسالةَ ربِّه البلاغَ المُبين، وقامَ بالواجِبِ خيرَ قِيام، وكان لأمتِه الناصِحَ الأمينَ. وكان موقِفُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الراسِخُ أمام الإيذاءِ والإغراء والمُساوَمَة درسًا تربويًّا للصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فقد ثبَتُوا لثباتِه في حياتِه وبعد مماته، ومِن ذلك يتعلَّمُ المُؤمنُ الثباتَ على العقيدة، والتمسُّك بالمبادِئ والقِيَم، والتِزامَ المنهَج الصحيحِ، وعدمَ الضعفِ أمام المِحَن، أو التفكير في المُغرَيات التي تُعرَض عليه لصَرفِه عن دينِه ودعوتِه.

 

ومِن صُور ثباتِه -صلى الله عليه وسلم-: ثباتُه وقت الشدائِدِ والمِحَن؛ ففي يوم حُنَين تعرَّضَ المُسلِمون إلى مِحنةٍ شديدةٍ، وبلاءٍ عظيمٍ، حينما اغترُّوا بكثرة عددِهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا، وانقضَّ عليهم المُشرِكُون، وكادُوا أن يهزِمُوهم، لولا أن أنزلَ الله السَّكينةَ عليهم، وثبَّتَ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- الذي أخذَ يدعُو الفارِّين مِن المعركة.

 

وختم الشيخ خطبته بالتأكيد على أهمية الثبات على الدين في أزمان الشدائد والمحن فقال: إن الثباتَ في أيام الفِتَن ووقتِ البلاء والمِحَن سِمةٌ مِن سِمات عباد الله الراشِدين، ودليلٌ على رُسُوخ الإيمان وقوَّة اليقين. فالثباتُ على دينِ الله مطلَبٌ أساسيٌّ لكل مُسلمٍ صادِقٍ، وإذا كان الثباتُ بيدِ الله وحدَه، وهو نعمةٌ إلهيَّةٌ، ومِنحةٌ ربَّانيَّة، والنبيُّ الكريمُ المُؤيَّدُ بالوحي، والموعُودُ بالنصرِ والتمكين يطلُبُ عونَ ربِّه، ويدعُوه أن يُثبِّتَه. فما أحرَى المُؤمن أن يسأل اللهَ الثباتَ مِن قلبٍ صادِقٍ، ويلجَأَ إليه مُتضرّعًا ألا يُزيغَ قلبَه، ولا يفتِنَه بشيءٍ مِن زهرةِ الحياةِ الدنيا. وفي المُقابِل يحذَرُ أن يكون ممَّن وصفَ الله عاقبتَهم بقولِه: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) [النحل: 94]؛ لأن القدمَ إذا زلَّت انقلَبَ الإنسانُ مِن حالِ خيرٍ إلى حالِ شرٍّ، وفي هذا تحذيرٌ أن يكون المرءُ على الاستِقامة فيَحيدَ عنها، ويزِلَّ عن طريقِ الهُدَى والحقِّ.

 

إن الثباتَ معناه: الاستِمرارُ في طريقِ الهِدايةِ، والالتِزامُ بمُقتضيات هذا الطريق، والمُداومَة على الخير، والسعيُ الدائِمُ للاستِزادة مِن الإيمان والتقوَى. والثباتُ على الدين لا يكونُ بكثرة الاستِماع للمواعِظ، إنما يكون بفعلِ هذه المواعِظ، وامتِثالِها في واقعِ الحياة، قال –تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66].

 

فإن الله يُثبِّتُ الذين آمنُوا بسببِ ما قامُوا به مِن الإيمان، الذي هو القيامُ بما وُعِظُوا به، فيُثبِّتُهم في الحياةِ الدنيا عند وُرودِ الفتن في الأوامر، والنواهِي، والمصائِب، فيحصُل لهم ثباتٌ يُوفَّقُون به لفعلِ الأوامِرِ وتركِ الزواجِر. وعند حُلول المصائِبِ التي يكرَهُها العبدُ، فيُوفَّقُ للتثبيتِ بالتوفيقِ للصبرِ، أو الرِّضا، أو الشُّكر، فينزِلُ عليه معونةٌ مِن الله للقيامِ بذلك، ويحصُلُ له الثباتُ على الدين عند الموتِ وفي القبر.

 

المدينة المنورة:

ألقى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "بلالُ بن رباح وعزُّ الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن أحوال الأمة الإسلامية في الآونة المُتأخرة، مُصبِّرًا ومُواسِيًا بقصة بلال بن رباحٍ - رضي الله عنه -، ومُبيِّنًا ثباتَه - رضي الله عنه - على دينِ الحقِّ، حتى شفَى الله غليلَه بقتلِه سيِّده الذي أذاقَه صُنُوفَ العذابِ، ورأَى عزَّة الإسلام في البلد التي عُذِّب فيها "مكة".

 

واستهل فضيلته خطبته بالوصية بتقوى الله تعالى، فقال: فيا أيها المُسلمون: أُوصِيكُم ونفسِي بتقوَى الله -جلَّ وعلا-؛ فبها تنالُوا الخيرات، وتتنزَّلُ البركات.

 

وأضاف الشيخ: إن ما تمُرُّ به الأمةُ الإسلاميَّةُ اليوم مِن فتنٍ وبلاء، ومِحَنٍ ولأولاء، وتسلُّط الأعداء، إنما هو امتِحانٌ وتمحيصٌ، ومُقدِّمةٌ لنصرٍ مُبين، وعزٍّ وتمكينٍ - بإذن الله رب العالمين.

 

وقال حفظه الله: لقد كان أولَ مَن أظهرَ الإسلامَ سبعةٌ: رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكرٍ، وعمَّار، وأمُّه سُميَّة، وصُهيبٌ، وبلالٌ، والمِقدادُ. فأمَّا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فمنَعَه الله بعمِّه أبي طالبٍ، وأما أبو بكرٍ فمنَعَه الله بقومِه، وأما سائِرُهم فأخذَهم المُشرِكُون فسامُوهم سُوءَ العذاب.

 

فما مِنهم أحدٌ إلا وقد أتاهم على ما أرادُوا، إلا بلال؛ فإنه هانَت عليه نفسُه في الله، وهانَ على قومِه، فقامَ المُشرِكُون بإيذائِه وتعذيبِه لعلَّه يرجِعُ عن دينِه، فقابلَهم بالصَّلابة والثبات، فزادُوا في تعذيبِه وبلائِه. فكان سيِّدُه أُميَّةُ بن خلَف يُخرِجُه إذا حمِيَت الظَّهيرة، فيطرَحُه على ظهرِه في بطحَاء مكة، ثم يأمُرُ بالصخرة العظيمة على صَدرِه، ثم يقول: لا تزالُ على ذلك حتى تمُوتَ أو تكفُرَ بمُحمدٍ! ويقول: أيُّ شُؤمٍ رمَانَا بك يا عبدَ السُّوء! لئِن لم تذكُر آلهتَنا بخيرٍ لنجعلنَّك للعبيدِ نكَالًا. فيرُدُّ بلالٌ -رضي الله تعالى عنه- وهو ثابتٌ لا يتزَعزَع: "ربِّي الله، أحَدٌ أحَدٌ! ولو أعلَمُ كلمةً أغيَظُ لكم منها لقُلتُها".

 

فلما بلغَ الكتابُ أجَلَه في تعذيبِه، أتَى الفرَجُ فاشتراه أبو بكرٍ -رضي الله تعالى عنه-، وأعتقَه لوجهِ الله - عزَّ وجل -، وتمضِي الأيام، ويُهاجِرُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- والمُسلمون إلى المدينة، ويُهاجِرُ بلالٌ -رضي الله تعالى عنه-، ويُصبِحُ مُؤذِّن الإسلام، ويخرُجُ مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى معركة بدرٍ.

 

وقد أقبَلَ المُشرِكون مِن قِبَل مكة بأسيادِهم، ومِنهم: أُميَّة بن خلَف وأبو جَهلٍ، يتقدَّمُون في خُيَلاء الكِبرِ والغُرورِ، جيشُهم نحو الألف، ويرَى بلالٌ سيِّدَه أُميَّةَ بن خلَف، الذي طالَما آذاه بمكة، فيشُقُّ الصُّفُوفَ ويزأَرُ ويقولُ: رأسُ الكُفر أُميَّةُ بن خلَف، لا نجَوتُ إن نجَا! رأسُ الكُفر أُميَّةُ بن خلَف، لا نجَوتُ إن نجَا! فمكَّنَه الله منه، فحمَلَ عليه فكان كأمسِ الدابِرِ، واليوم الغابِرِ.

 

وقال وفقه الله: ولما فُتِحَت مكة، صعد بلالٌ -رضي الله تعالى عنه- على ظهر الكعبة؛ ليجهرَ بكلمةِ التوحيد، على بُعد خُطواتٍ من المكان الذي يُعذَّبُ فيه. وفي وقتِ الظَّهيرة، وعلى رُؤوس الأشهادِ يُؤذِّنُ: "اللهُ أكبر، الله أكبرُ، أشهَدُ أن لا إله إلا الله، أشهدُ أن مُحمدًا رسول الله". فهيَّجَ ذلك الموقِفُ غيظَ أعدائِه، حتى قال بعضُهم: لقد أكرَمَ الله أبي إذ ماتَ ولم يسمَع هذا! وقال آخر: ليتَنِي مِتُّ قبل هذا!

 

فما حلَّ بالمُستضعَفين مِن المُسلمين في مكة في بداية الإسلام، مِن المِحنة والبلاء، إنما كان لإعدادِ جيلٍ جديدٍ حديثٍ، وتمكينٍ ونصرٍ حثِيثٍ، وتمحيصٍ وتصفِيةٍ ليَميزَ الله الخبيث. وما هي إلا فترة، ويمُنُّ الله على المُضطهَدين والمظلُومين الذين استُضعِفُوا في الأرض، ويجعلَهم أئمةً ويجعلَهم الوارِثين، ويُمكِّن لهم في الأرض.

 

وختم الشيخ خطبته بذكر أذان بلال المؤثر في مواقف وأزمان عديدة فقال: لقد ضاقَ بالمُشركين ذَرعًا، لما سمِعُوا صوتَ بلالٍ يصدَعُ بالأذان على ظهر الكعبة، ولئِن كان أذانُ بلالٍ يُؤذِي المُشرِكين، فإنه يُهيِّجُ قُلوبَ المُسلمين ويشتاقُون سماعَه، فكان إذا أذَّن بعد رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتمالَك نفسَه، فيُهِيجُ الحُزنَ، ويُثِيرُ البكاء، ويُغشَى عليه، ويَفزَعُ الناس، وترتَجُّ المدينةُ لذِكرَى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

أذَّن ذاتَ ليلةٍ في السَّحَر بعد وفاةِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاعتلَى سطحَ هذا المسجِد، فلما قال: "الله أكبر، الله أكبر" ارتَجَّت المدينة، فلما قال: "أشهدُ أن لا إله إلا الله" زادَت رجَّتُها، فلما قال: "أشهدُ أن مُحمدًا رسولُ الله" خرجَ الناسُ مِن بيُوتِهم، فما رُئِيَ يومٌ أكثرَ باكِيًا وباكِيةً مِن ذلك اليوم.

 

ولما فُتِح بيتُ المقدِس، وقدِمَ أميرُ المُؤمنين عُمرُ -رضي الله تعالى عنه- إلى الشام، أمرَ بلالًا أن يُؤذِّن، فقال: "يا أميرَ المُؤمنين! ما أردتُ أن أُؤذِّن لأحدٍ بعد رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن سأُطِيعُك إذ أمَرتَني في هذه الصلاةِ وحدَها". فلما أذَّن بلالٌ، وسمِع الصحابةُ أذانَه، بكَوا بكاءً شديدًا.

 

لقد ذكَّرَهم بحبيبِهم وقُرَّة أعيُنِهم، الذي أثارَ الإيمانَ في القُلُوب، وكان سببًا في نجاتِهم، فاشتاقَت إليه النفوس، وحنَّت إليه الأفئِدَة، واستكانَت لذِكرِه المشاعِر، وخالَطَ حُبُّه سُويدَاءَ الفُؤادِ وشَغافَ القُلُوب.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات