شُهرة في البئر!

محمد بن عبدالعزيز الشريم

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

من الأخبار الشهيرة التي تُروى في كتب التاريخ العربي قصة ذلك الرجل الذي جاء إلى مكة في وقت الحج، ورفع ثيابه وبال في بئر زمزم، طلباً للشهرة التي كان يدرك أن القيام بعمل مشين -مثل فعلته تلك- سوف يحققها له! وبالفعل، صارت قصته مضرب مثل حتى يومنا هذا لمن يطلبون الشهرة عبر ممارسات تافهة أو حمقاء.

 

ربما كان الأوائل أوفر حظاً منا، إذ لم تكن لديهم منابر إعلامية جماهيرية يشتهر من خلالها أولئك التافهون. فكانت الرواية خبراً تاريخياً محفوظاً في الكتب؛ فلم ير عامة الناس صورة هذا الشخص، ولا مقطع فيديو له أثناء فعلته الشنيعة، ولا حتى صورته الشخصية، بل ولا حتى عرفوا اسمه!

 

المشكلة في وقتنا المعاصر أن الشهرة السريعة تتطلب”تميزاً” في الغرابة، أو “استفزاز” فئة من المجتمع. والطريقة الأسهل التي أدركها السفهاء هي التطاول على الثوابت الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية. ولكن قواعد اللعبة تغيرت، مع وسائل التواصل الاجتماعي خاصة. إذ إن أكثر من يخدم المتجاوز هم خصومه أو الذين على الأقل لا يؤيدونه على ما قام به، إذ يقومون بنشر تجاوزاته حتى تبلغ من لم يحلم المتجاوز بإيصالها لهم!

 

وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “أميتوا الباطل بالسكوت عنه”. ويقول المعاصرون “لا تجعلوا من الحمقى مشاهير”. ولكن بعض أفراد مجتمعاتنا للأسف صاروا هم الذين يحيون الباطل ويشهرونه بالتحذير منه! فصاروا يقدمون له دعاية مجانية؛ لدرجة أن بعض الحمقى الراغبين في الشهرة صار يستفز بعض فئات المجتمع حتى يتبادل أفراده رسائل التحذير منه على أوسع نطاق؛ وبالتالي يحقق هدفه بالحصول على الشهرة التي يطمع فيها!

 

هوس الشهرة المثير دفع كثيراً من الناس، منهم كبار من الرجال والنساء، ومنهم مراهقون وحتى أطفال، نحو مواقف في غاية الغرابة لأجل الاشتهار والرواج بين متابعي وسائل التواصل الاجتماعي! فهناك مقطع لفتاة تضع الماكياج في وجه أخيها الشاب، ليحظى هذا المقطع بملايين المشاهدات والكثير من التفاعل عبر التعليقات! وفتاة أخرى لديها نصيب لا بأس به من الشهرة، ولكنها تريد أن تحافظ عليها بأي طريقة، فقامت بحلق حواجبها في مقطع مصور منشور ومتداول!

 

وتطور الأمر ببعضهم لإضافة “أكشن” على مقاطعهم لأجل جلب المشاهدين، الذين لم تعد المقاطع العادية تستهويهم لكثرتها! فصرنا نرى منهم مقالب مفزعة ومخيفة يقومون بها ضد أصدقائهم أو أقاربهم. وليت الأمر توقف عند الكبار، فهناك من يستغل الأطفال الصغار في تصوير مقطع مثير، بإخافتهم بشكل مرعب جداً، مثل الذي يدخل على أخيه الصغير وثيابه كلها ملطخة بالدماء ثم يسقط أمامه صريعاً! كثير من هذه المقاطع توثق عملاً يستحق العقوبة النظامية، وربما يعرف ذلك من قام به، إلا أن بريق الشهرة الذي نقدمه له نحن المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي يجعله يقدم على فعله ولا يبالي، فالشهرة لها بريق تصعب مقاومته!

 

التحكم في الجماهير في زمن الإعلام الاجتماعي المفتوح أصبح بالتأكيد غير ممكن. وبالتالي فإن الهدف الواقعي ليس القضاء على هذه التفاهات، بل يكفي أن يقل انتشارها، وألا يكافأ “مؤلفوها” أو “صناعها”بالتعريف بهم أو بمنحهم مزيداً من الشهرة. وحينما يقل نشر هذه التفاهات، فإن التافهين سيتناقصون، ولا يجدون في الإثارة المستفزة سبيلا نحو الشهرة التي يسعون لتحقيقها.

 

المصدر: تواصل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات