من مغالطات الملاحدة: اتهام السيدة مارية القبطية بالزنا

ربيع أحمد

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

 

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان ويعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض يجادل في البديهيات ويجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علما ومن العلم جهلا ومن الحق باطلا ومن الباطل حقا.

 

 

 

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين وضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.

 

 

 

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل صحيح وادعاءات بلا مستند راجح، ورغم ضعفها وبطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى ومغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم.

 

 

 

ومن مغالطات الملاحدة اتهام السيدة مارية القبطية بالزنا، وأن إبراهيم رضي الله عنه ابن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مارية رضي الله عنها ليس ابنه وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يعلم ذلك ولذلك شك في ثبوت نسبة بنوة إبراهيم إليه كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

 

 

 

ذكر بعض أقوال الملاحدة:

 

يقول أحد الملاحدة: "عندما ولدت مارية إبراهيم اتهمها محمد صلى الله عليه وسلم بالزنا ويعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم ليس ابنه...".

 

 

 

ويقول آخر: "حين حبلت مارية القبطية وولدت ابراهيم، لم يصدق محمد صلى الله عليه وسلم نفسه هذا الأمر فهرع بالطفل لعائشة يسألها إن كان يشبهه فأجابت بأن الطفل لا يشبهه! فأرسل صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ليقتل خادم ماريا الذي اتهم بالزنا بها (اتهام مؤكد من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم أنفسهم من صحيح السيرة والأحاديث).

 

 

 

عن عائشة رضي الله عنها: قالت: “أهديت مارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابن عم لها، قالت: فوقع عليها وقعة، فاستمرت حاملا، قالت: فعزلها عند ابن عمها، قالت: فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره، وكانت أمه قليلة اللبن، فابتاعت له ضائنة لبون، فكان يغذى بلبنها، فحسن عليه لحمه، قالت عائشة رضي الله عنها: فدخل به على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: “كيف ترين؟" فقلت: من غذي بلحم الضأن يحسن لحمه، قال: “ولا الشبه"، قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت: ما أرى شبها، قالت: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول الناس، فقال لعلي: “خذ هذا السيف، فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته“، قالت: فانطلق، فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطبا، قال: فلما نظر إلى علي ومعه السيف، استقبلته رعدة. قال: فسقطت الخرقة، فإذا هو لم يخلق الله عز وجل له ما للرجال شيء ممسوح". المرجع: المستدرك على الصحيحين، كِتَابُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ذِكْرُ سَرَارِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حديث رقم 6875.

 

 

 

عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال له علي اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر! المرجع: صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة، حديث رقم 2771 ".

 

 

 

تعريف موجز بالسيدة مارية رضي الله عنها:

 

وقبل إبطال دعوى الملاحدة الجائرة باتهام السيدة مارية بالزنا حري بنا أن نعطي تعريف موجز عنها، و السيدة مارية القبطية رضي الله عنها هي مولاة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأم ولده إِبْرَاهِيم [1] أهداها المقوقس إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فوطئها بملك اليمين[2]، فولدت منه إبراهيم [3]، فلما ولدت إبراهيم صارت أم ولد، وعَرَضَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ عَلَيها الْإِسْلَامَ وَرَغَّبَهَا فِيهِ، فَأَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَتْ أُخْتُهَا[4]، وماتت مارية سنة ست عشرة[5] من الهجرة، وَكَانَ عمر رضي الله عنه يحشر الناس بنفسه لشهود جنازتها، وصلى عليها عمر رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع[6] وأطلق عليها القبطية نسبة إلى القبط، والقبط هم أَهْلُ مِصْرَ [7].

 

 

 

النبي صلى الله عليه وسلم ينسب إبراهيم رضي الله عنه له:

 

جاء في كتب السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب إبراهيم رضي الله عنه له، وإذا كان صاحب الشأن نسب الولد له فلا يصح لنا أن نترك كلامه ونتمسك بكلام شرذمة أتت بعد موت صاحب الشأن بأكثر من ألف سنة تدعي أن الولد ليس ولده، و عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم» ثم دفعه إلى أم سيف، امرأة قين[8] يقال له أبو سيف، فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أبا سيف أمسك، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي، فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول، فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه[9] بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون» [10]، وهذه الرواية تدل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك في ثبوت نسبة بنوة إبراهيم إليه بل سماه إبراهيم، وعندما مات حزن عليه حزنا شديدا.

 

 

 

المعروف عند الصحابة أن إبراهيم رضي الله عنه ابن النبي صلى الله عليه وسلم:

 

و من المعروف عند الصحابة أن إبراهيم رضي الله عنه ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهناك العديد من الأحاديث تدل على ذلك فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ مِثْلَ قِيَامِهِ، ثُمَّ سَجَدَ مِثْلَ رُكُوعِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَذَلِكَ، ثُمَّ سَلَّمَ "[11].

 

 

 

و عن جابر بن عبد الله قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات، بدأ فكبر، ثم قرأ، فأطال القراءة، ثم ركع نحوا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحوا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحوا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم انحدر بالسجود فسجد سجدتين، ثم قام فركع أيضا ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحوا من سجوده، ثم تأخر، وتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهينا، وقال أبو بكر: حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه، حتى قام في مقامه، فانصرف حين انصرف، وقد آضت الشمس[12]، فقال: " يا أيها الناس إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس " [13].

 

 

 

و عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جُلُوسًا فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزِعًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّيهَا، حَتَّى انْجَلَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا حَتَّى يَكْشِفَ مَا بِكُمْ»[14].

 

 

 

و عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ " [15].

 

 

 

وصحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدرى بابن صاحبهم من غيرهم، و المستقر عندهم أن إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف نترك كلامهم لكلام أناس جاؤوا بعد أكثر من ألف عام يدعون أن إبراهيم رضي الله عنه ليس ابن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!!!!!!!!!!.

 

 

 

المعروف في كتب التاريخ والسير أن إبراهيم رضي الله عنه ابن النبي صلى الله عليه وسلم ومن سريته مارية:

 

إن المعروف والمشهور في كتب التاريخ والسير أن إبراهيم رضي الله عنه ابن النبي صلى الله عليه وسلم ومن سريته مارية، ومن ذلك ما قاله ابن سعد (المتوفى: 230هـ): وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الولد القاسم. وبه كان يكنى. ولد له قبل أن يبعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله وهو الطيب وهو الطاهر. سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنَّهُ وُلِدَ فِي الإِسْلامِ. وَزَيْنَبَ وأم كلثوم ورقية وفاطمة وأمهم كلهم خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصي. وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمه مارية القبطية بعث بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقوقس صاحب الإسكندرية [16].

 

 

 

وقال ابن قتيبة (المتوفى: 276هـ): وولد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من خديجة: القاسم- وبه كان يكنى- والطيّب، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأمّ كلثوم. ومن مارية القبطية: إبراهيم [17].

 

 

 

و قال الطبراني (المتوفى: 360هـ): خديجة بنت خويلد بنت أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أم ولده الذكور والإناث إلا إبراهيم عليه السلام فإنه من سريته مارية القبطية [18].

 

 

 

و قال ابن كثير (المتوفى: 774هـ ): فإنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - ولد له القاسم، والطيب، والطاهر، من خديجة فماتوا صغارا وولد له إبراهيم من مارية القبطيّة، فمات أيضا رضيعا. وكان له من خديجة أربع بنات: زينب، ورقية وأم كلثوم، وفاطمة- رضي الله عنهم أجمعين- فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به- صلوات الله وسلامه عليه- ثم ماتت بعده بستة أشهر [19].

 

 

 

وقال ابن حجر (المتوفى: 852هـ): وكان جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة إلا إبراهيم فإنه كان من جاريته مارية والمتفق عليه من أولاده منها القاسم وبه كان يكنى مات صغيرا قبل المبعث أو بعده وبناته الأربع زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة وقيل كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له الطاهر والطيب ويقال هما أخوان له وماتت الذكور صغارا باتفاق[20].

 

 

 

ولا يوجد كتاب من كتب علماء الإسلام فيه أن إبراهيم رضي الله عنه ليس ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية مما يدل على استفاضة واشتهار العلم بأبوة النبي صلى الله عليه وسلم لإبراهيم من مارية عند العلماء دون نكير منهم مما يفيد صدق هذا الخبر وكذب القول بخلافه.

 

 

 

و من المعروف عند العقلاء أن الرجوع في كل مجال وكل فن من الفنون يكون إلى أهل هذا المجال وأهل هذا الفن، وأن المتخصص في علم من العلوم أدرى به من غيره، وأن صاحب الدار أدرى بما فيه، ولذلك إن اختلف في مسألة طبية فإنه يرجع فيها إلى أهل الطب، وإن اختلف في مسألة هندسية يرجع فيها إلى أهل الهندسة، وإن اختلف في مسألة نحوية يرجع فيها إلى أهل النحو وإن اختلف في مسألة دينية فإنه يرجع فيها إلى أهل الدين.

 

 

 

و قد نقل ابن حزم (المتوفى: 456هـ) إجماع علماء المسلمين على أن إبراهيم رضي الله عنه ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية فقال: وَاتَّفَقُوا أن إبراهيم بن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلق حرا وَأمه مَارِيَة أم ولد لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحرمَة على الرِّجَال غير مَمْلُوكَة وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَطَؤُهَا بعد وِلَادَتهَا وَأَنَّهَا لم تبع بعده وَلَا تصدق بهَا وَأَنَّهَا كَانَت بعده عَلَيْهِ السَّلَام حرَّة[21].

 

 

 

و ممن نقل الإجماع ابن القطان (المتوفى: 628هـ) قال: واتفقوا أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق حرًا وأمه مارية أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمة على الرجال بعده غير مملوكة، وأنه عليه السلام كان يطؤها بعد ولادتها، وأنها لم تبع بعده ولا تصدق بها، وأنها كانت بعده عليه السلام حرة [22].

 

 

 

وممن نقل الإجماع أيضا بدر الدين العيني (المتوفى: 855هـ) قال: وَلَا خلاف أَن جَمِيع أَوْلَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَدِيجَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا سوى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ مَن مَارِيَة الْقبْطِيَّة [23].

 

 

 

وعلماء الإسلام أدرى بابن نبيهم من غيرهم، ومن هنا يتبين أن دعوى أن إبراهيم رضي الله عنه ليس ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية دعوى باطلة مخالفة لما عليه علماء الإسلام.

 

 

 

دعوى شك النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت نسبة إبراهيم إليه مبنية على رواية ضعيفة:

 

إن دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم شك في ثبوت نسبة إبراهيم إليه دعوى باطلة مبنية على رواية ضعيفة لها طريقان طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب وعقيل عن الزهري عن أنس وطريق محمد بن عمر الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري عن أنس أما الطريق الأول فممن رواه البزار في مسنده قال حَدَّثنا ابن لهيعة حَدَّثنا يزيد بن أبي حبيب وعقيل عن الزهري عن أنس، قال: لما ولد إِبْرَاهِيْمَ ابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مارية كاد يقع في نفسه منه، حتى أتاه جبريل -عليه السلام- فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم[24]، و الطريق الثاني رواه ابن سعد في طبقاته الكبرى قال أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ [25] ورواه ابن الجوزي في منتظمه قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ[26].

 

 

 

و الحديث ضعيف؛ لأن ابن لهيعة تفرد به، و هو لا يحتمل التفرد قَالَ الحُمَيديّ، عَنْ يَحيى بْن سَعِيد: " كَانَ لا يراه شيئا " [27]، وقال مسلم: " تركه ابن مهدي ويحيى ووكيع"[28]، وقال النسائي: " ضعيف "[29] وقال ابن حبان: " كَانَ يُدَلس عَن الضُّعَفَاء قبل احتراق كتبه ثمَّ احترقت كتبه فِي سنة سبعين وَمِائَة قبل مَوته بِأَرْبَع سِنِين "[30]، وقال ابن شاهين: " ليس بشيء "[31]، وقال ابن الجوزي: " قالَ يحيى بن سعيد قَالَ لي بشر بن السّري لَو رَأَيْت ابْن لَهِيعَة لم تحمل عَنهُ حرفا وَكَانَ يحيى بن سعيد لَا يرَاهُ شَيْئا وَقَالَ يحيى بن معِين أنكر أهل مصر احتراق كتب ابْن لَهِيعَة وَالسَّمَاع مِنْهُ وَأخذ الْقَدِيم والْحَدِيث هُوَ ضَعِيف قبل ان تحترق كتبه وَبعد احتراقها وَقَالَ عَمْرو بن عَليّ من كتب عَنهُ قبل احتراقها بِمثل ابْن الْمُبَارك والمقري أصح مِمَّن كتب بعد احتراقها وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث وَقَالَ أَبُو زرْعَة سَماع الْأَوَائِل والأواخر مِنْهُ سَوَاء إِلَّا ابْن الْمُبَارك وَابْن وهب كَانَا يتبعان أُصُوله وَلَيْسَ مِمَّن يحْتَج وَقَالَ النَّسَائِيّ ضَعِيف وَقَالَ السَّعْدِيّ لَا يَنْبَغِي أَن يحْتَج بروايته وَلَا يعْتد بهَا "، وقال الذهبي:" ضعفوه، ولكن حديث ابن المبارك وابن وهب والمقري عنه أحسن وأجود، وبعض الأئمة صحح رواية هؤلاء عنه واحتج بها "[32].

 

 

 

وليس لابن لهيعة في هذا الحديث متابع إلا الواقدي، والواقدي لا يعتد بمتابعته[33] قال البخاري متروك الحديث [34] وقال النسائي: متروك الحديث [35] وقال أيضا الكذابون الوضاعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة فذكر منهم الواقدي... وقال أبو حاتم الرازي: كان يضع الحديث [36]، و قال ابن شاهين: لا يكتب حديثه[37].

 

 

 

ومن هنا ندرك أن الرواية لا تصح سندا إذ رواها من لا يحتمل التفرد مما يرفع الثقة بالحديث ويؤيد ضعف الرواية، وقد أومأ البيهقي إلى ضعف الرواية حيث قال: وَفِي هَذَا إِنْ ثَبَتَ دَلَالَةٌ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ لِفِرَاشِ الْأَمَةِ [38]، وقال الذهبي بعد أن ساق الحديث: ابن لهيعة ضعيف[39] إشارة منه إلى ضعف سند الحديث.

 

 

 

ومن ناحية المتن فمتن هذه الرواية يخالف متن الحديث الذي رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه إذ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم» ثم دفعه إلى أم سيف، امرأة قين[40] يقال له أبو سيف، فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أبا سيف أمسك، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي، فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول... الحديث، ومن الملاحظ أن في رواية مسلم نفس الصحابي - ألا وهو أنس - الذي روى عنه أنه قال: لما ولد إِبْرَاهِيْمَ ابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مارية كاد يقع في نفسه منه فرواية مسلم ليس فيها وقوع شك النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت نسبة إبراهيم رضي الله عنه إليه.

 

 

 

ومن الناحية العقلية إذا كان الواحد منا يتخير لنطفه فهل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتخير لنطفه؟!!!! وهل المقوقس يبعث للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي جارية أم يبعث إليه جارية يعرف شرفها وطهرها؟!! وكيف عرف أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاد يقع في نفسه منه حتى أتاه جبريل؟!!

 

 

 

وعلى التسليم الجدلي بقبول الرواية التي تفرد بها ابن لهيعة فوقوع الشك من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد زال بقول جبريل عليه السلام: السلام عليك يا أبا إبراهيم وبالتالي فالسيدة مارية بريئة مما نسب إليها من الاتهام بالزنا.

 

 

 

ضعف الرواية التي استندوا إليها في زعمهم أن مارية رضي الله عنها عندما ولدت لم يصدق النبي ذلك وهرع بالرضيع لعائشة رضي الله عنها.

 

 

 

الرواية التي استندوا إليها في زعمهم أن مارية رضي الله عنها عندما ولدت لم يصدق النبي ذلك وهرع بالرضيع لعائشة رضي الله عنها يسألها إن كان يشبهه فأجابت بأن الطفل لا يشبه رواية ضعيفة فهي مروية عن أبي مُعَاذٍ سُلَيْمَان بْنُ الْأَرْقَمِ الْأَنْصَارِيّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُهْدِيَتْ مَارِيَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهَا ابْنُ عَمٍّ لَهَا، قَالَتْ: فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَقْعَةً فَاسْتَمَرَّتْ حَامِلًا، قَالَتْ: فَعَزَلَهَا عِنْدَ ابْنِ عَمِّهَا، قَالَتْ: فَقَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ وَالزُّورِ: مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى الْوَلَدِ ادَّعَى وَلَدَ غَيْرِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَلِيلَةَ اللَّبَنِ فَابْتَاعَتْ لَهُ ضَائِنَةَ لَبُونٍ فَكَانَ يُغَذَّى بِلَبَنِهَا، فَحَسُنَ عَلَيْهِ لَحْمُهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَدُخِلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَيْنَ؟» فَقُلْتُ: مَنْ غُذِّيَ بِلَحْمِ الضَّأْنِ يَحْسُنُ لَحْمُهُ، قَالَ: «وَلَا الشَّبَهُ» قَالَتْ: فَحَمَلَنِي مَا يَحْمِلُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ أَنْ قُلْتُ: مَا أَرَى شَبَهًا قَالَتْ: وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «خُذْ هَذَا السَّيْفَ فَانْطَلِقْ فَاضْرِبْ عُنُقَ ابْنِ عَمِّ مَارِيَةَ حَيْثُ وَجَدْتَهُ»، قَالَتْ: فَانْطَلَقَ فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ عَلَى نَخْلَةٍ يَخْتَرِفُ رُطَبًا قَالَ: فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَلِيٍّ وَمَعَهُ السَّيْفُ اسْتَقْبَلَتْهُ رِعْدَةٌ قَالَ: فَسَقَطَتِ الْخِرْقَةُ، فَإِذَا هُوَ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ شَيْءٌ مَمْسُوحٌ [41].

 

 

 

وهذه الرواية ضعيفة السند قال الألباني بعد أن ساق الحديث: ضعيف جدا...... سكت عنه الحاكم والذهبي، ولعله لظهور ضعفه؛ فإن سليمان بن الأرقم متفق بين الأئمة على تضعيفه، بل هو ضعيف جداً؛ فقد قال البخاري: "تركوه". وقال أبو داود، وأبو أحمد الحاكم، والدارقطني: "متروك الحديث". وقال أبو داود: "قلت لأحمد: روى عن الزهري عن أنس في التلبية؟ قال: لا نبالي روى أم لم يرو"! وقال ابن عدي في آخر ترجمته - وقد ساق له نيفاً وعشرين حديثاً (154/ 1-2) -: "وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد". قلت: وللحديث أصل صحيح، زاد عليه ابن الأرقم هذا زيادات منكرة، تدل على أنه سيئ الحفظ جداً، أو أنه يتعمد الكذب والزيادة؛ لهوى في نفسه، ثم يحتج بها أهل الأهواء! فأنا أسوق لك النص الصحيح للحديث؛ ليتبين لك تلك الزيادات المنكرة، فروى ثابت عن أنس: أن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "اذهب فاضرب عنقه". فأتاه علي؛ فإذا هو في ركي يتبرد فيها. فقال له علي: اخرج. فناوله يده، فأخرجه؛ فإذا هو محبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه. ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إنه لمحبوب؛ ما له ذكر. أخرجه مسلم (8/ 119)، والحاكم (4/ 39 - 40)، وأحمد (3/ 281)، وابن عبد البر في ترجمة مارية من "الاستيعاب" (4/ 1912)؛ كلهم عن عفان: حدثنا حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت... وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"! فوهم في استدراكه على مسلم![42]

 

 

 

ومن ناحية المتن فمتن هذه الرواية فيه نكارة إذ كيف يعزل النبي صلى الله عليه وسلم السيدة مارية عند ابن عمها، وهي أجنبية عنه، وقد حذر من الدخول على النساء والخلوة بهن[43]؟!! وإن قيل ربما؛ لأنه أخوها من أمها فالجواب لو كان أخاها من أمها ما حدثت هذه الشائعة أصلا، وإن قيل ربما يكون متزوجا، وقد اعتدت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عند ابن أم مكتوم [44] رضي الله عنه فالجواب الرجل الأعمى قد يتزوج لكن النساء عادة تزهد في الرجل الذي لا يقدر على الجماع فيستبعد أن يكون هذا الرجل المجبوب متزوجا.

 

 

 

ومن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل السيدة مارية رضي الله عنها بالعالية في المال الذى يقال له اليوم مشربة أم ابراهيم[45]، وكان يختلف إليها هناك، وضرب عليها الحجاب، وكان يطؤها بملك اليمين، فلما حملت وضعت هناك وقبلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم [46] فما الحاجة في أن يعزلها عند ابن عم لها، ويجعلها تترك المكان الذي أنزلها فيه وكان يختلف إليها فيه وولدت فيه، وهي في مثل هذه الحالة؟!!!.

 

 

 

ومن النكارة في المتن أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وَكَانَتْ أُمُّهُ قَلِيلَةَ اللَّبَنِ فَابْتَاعَتْ لَهُ ضَائِنَةَ لَبُونٍ فَكَانَ يُغَذَّى بِلَبَنِهَا إذ من المعروف أن من عادات العرب إرسال أولادها إلى البادية للرضاعة حتى يشب الولد وفيه طهارة الجو الطلق وفصاحة اللغة العربية [47]، وعندما ولدت السيدة مارية رضي الله عنها تنافست الأنصار في إبراهيم[48] أي تنافست الأنصار فيمن يرضعه[49].

 

 

 

وعلى التسليم الجدلي بصحة الحديث فليس في الحديث كلمة زنا وليس في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شك في مارية رضي الله عنها أو شك في ثبوت نسبة إبراهيم رضي الله عنه إليه بل تصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما بلغه ما يقول الناس بأمره لعلي رضي الله عنه أن يضرب عنق ابن عم مارية دون توجيه أي لوم أو عتاب أو استفسار لمارية دليل واضح أن مارية غير متهمة بشيء، ومن المعروف أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحابي أحد من الناس في الحق، وختام الحديث يدل على براءة السيدة مارية من الريبة إذ الرجل كان ممسوحا أي الرجل كان مجبوبا أي الرجل كان مَقْطُوع الذّكر والخصيتين[50] ومثل هذا الرجل تزهد فيه النساء.

 

 

 

الأحاديث الصحيحة تدل بوضوح على براءة السيدة مارية من الشك والريبة:

 

إن الأحاديث الصحيحة تدل بوضوح على براءة السيدة مارية من الشك والريبة ومنها مارواه مسلم عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «اذهب فاضرب عنقه» فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر[51].

 

 

 

ومنها ما رواه ابن منده عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال حدثني إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان كثر على مارية أم إبراهيم في ابن عم لها يزورها ويختلف إليها قبطي، فقال: خذ هذا السيف فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله، فقلت: يا رسول الله، أكون في أمرك كالسكة المحماة، لا يثنيني شيء حتى أقضي لما أمرتني به، أو الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فأقبلت متوشحًا السيف، فأجده عندها، فلما رآني اخترطت سيفي فعرف إني أريده، اشتد في نخلة، فرقى فيها، حتى إذا كان في بعضها ودنوت منه رمى بنفسه على ظهره، ثم شغر برجليه[52]، فإذا أنه لأمسح أجب ماله مما للرجال قليل ولا كثير، فغمدت السيف، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر، فقال: الحمد لله، يصرف عنا أهل البيت[53].

 

 

 

والأحاديث واضحة تمام الوضوح في براءة السيدة مارية من الشك والريبة فقد بان حال الرجل الذي اتهم بها أنه مجبوب ومثل ذلك الرجل تزهد فيه النساء ومثل ذلك الرجل لا يقدر على الوطء والجماع.

 

 

 

والأحاديث ليس فيه أي اتهام للسيدة مارية لا من قريب ولا من بعيد، وليس فيها أي لوم أو عتاب أو استفسار لمارية، والاتهام كان موجها للرجل، والعقوبة كانت للرجل فقط مما يدل على برائتها من الشك والريبة.

 

 

 

ومن الملاحظ أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أنس: " اذهب فاضرب عنقه " فيه إيجاز بالحذف فمَعْنَاهُ: اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ [54] بدليل أن علي رضي الله عنه امتنع عن قتل الرجل عندما رآه مجبوبا، وما كان لمثل علي أن يخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الأمر بقتل الرجل دون أن يتثبت علي من صحة التهمة المنسوبة إلى الرجل لقتله علي رضي الله عنه على الرغم من كون الرجل مجبوبا.

 

 

 

ويؤيد ذلك أن عليا رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما امتنع عن قتل الرجل وتركه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر وكأنه يعلل سبب عدم قتله، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه ذلك بل في الرواية الأخرى حمد النبي صلى الله عليه وسلم الله أنه صرف عن أهله السوء، وليس أنه أخطأ في الحكم على الرجل بالقتل، وأن عليا كاد أن يقتله لولا أن الله قدر أن يرى عليا الرجل مجبوبا وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ أَحَدٍ بِظَنٍّ بِغَيْرِ إقْرَارٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ، أَوْ عِلْمٍ أَوْ مُشَاهَدَةٍ، أَوْ وَحْيٍ، أَوْ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِ دُونَهَا [55]، ومن ظن أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله حقيقة بغير بينة ولا إقرار فقد جهل[56].

 

 

 

وكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بقتل الرجل إن ثبتت عليه البينة دون تفصيل عن كونه محصنا أو غير محصن، ودون وجود أربعة شهود أو إقرار معتبر وكون العقوبة القتل وليست الرجم أو الجلد فهذا دليل على أن أمره بالقتل ليس من أجل التهمة بالزنا بل من أجل انتهاك حرمته [57] بكثرة تردده على حرمه [58]وبكثرة تواجده عند بيتها مما جعل البعض يتهمه بها وفي كثرة تردده عليها مظنة للسوء، وإيذاء للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله وأكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة[59].

 

[1] الاستيعاب في معرفة الصحاب لابن عبد البر 4/ 1912.

 

[2] بالنسبة لوطء ملك اليمين أو التسري بملك اليمين أو التسري بالجارية الرقيق قال الدكتور صلاح عبد الفتاح: (التسري بالجارية مرتبطٌ بنظامِ الرِّقِّ، الذي كان نظاماً سائِداً في العالَمِ القديم، فالإِسلامُ لم يَصْنَعْه، وإِنما وَجَدَهُ نظاماً عالميّاً، فعملَ الإِسلامُ على ضَبْطِهِ وتنظيمِه وتوجيهِه، كما عَمِل على التَّقليلِ منه وتَجفيفِه، تمهيداً للتخلُّص منه! ولذلك لا يُلامُ الإِسلامُ لضبطِ وتنظيمِ الرق، إِنما يُمْدَحُ ويُثْنى عليه لهذا الضبطِ والتنظيم). (القرآن ونقض مطاعن الرهبان للدكتور صلاح عبد الفتاح ص 393) وقال الشيخ محمد البشير - رحمه الله -: « والحكمة الواضحة في التسري تتألف من عدة عناصر، فهو تأليف بين العنصرين المتفاوتين وهم السادة والعبيد بعلاقة نفسية جسمية، وتقريب بينهما، وتنقيص من النفور الطبيعي بملابسة طبيعية، ولا يخفى ما في هذا من طي المسافة بين السيادة والعبودية.ومن الحكم الظاهرة فيه أنه خطوة واسعة إلى التحرير ووسيلة قوية من وسائله، فإن الأمة إذا ولدت من سيّدها ترتفع درجة عن العبودية حتى في الاسم فتسمّى أم ولد، وترتفع إذًا بطريق شرعية إلى التحرير، فهي من الذرائع المحققة لحكمة الإسلام في العتق ولمقصده في التشوّف للتحرير. وكل هذا زيادة على ما تحصل عليه أم الولد من سيّدها من الاستيلاء على قلبه والحظوة عنده، ولقد وصل كثير من أمهات الأولاد من طريق هذه الحظوة إلى درجات رفيعة لم تبلغها الحرائر. وأما المبالغة في الإكثار منهن إلى درجة مستهجنة بناء على عدم تحديد الشرع لعدد خاص- فهذا من سوء تصرّف المسلمين- لا من حسن تصريف الإسلام » (آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي 4/ 368) والاستمتاع بوطء الأمة بملك اليمين أمر مشروع وكان معروف قبل الإسلام وبعده، وعجبا لمن يبيح زواج المثليين ويبيح الزنا ويشنع على ما أحل الله!!. وإذا كان العرف السائد في الحروب إلى وقت ليس ببعيد سبي النساء واتخاذهن رقيقا ومعاشرتهن بلا ضابط وبلا آداب فلما يشنع على الإسلام معاملته للعدو بالمثل وإباحته للتسري بالأمة الكتابية لكن بشروط وضوابط وآداب؟!!.

 

[3] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي 4/ 218.

 

[4] الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 212،و الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 8/ 311.

 

[5] تاريخ ابن عساكر 3/ 239.

 

[6] الاستيعاب في معرفة الصحاب لابن عبد البر 4/ 1912.

 

[7] مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 51،و مختار الصحاح لزين الدين الرازي ص 246 والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص 681.

 

[8] القين بفتح القاف: الحداد وامرأة قين أي امرأة حداد.

 

[9] يكيد بنفسه أي: يجود بها،وهو في النزع.

 

[10] رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2315.

 

[11] رواه أحمد في مسنده حديث رقم 7080 قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح،و انظروا أيها الأخوة: لقد مات إبراهيم، وكسفت الشمس في نفس اليوم، وربط الناس بين الحدثين، فلو كان الرسول يريد التأييد ولو عن طريق الأكاذيب، لصمت عن ذلك. لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم -برأه الله - يرفض كل أكذوبة من كل لون لتأييده، ولهذا صعد المنبر غاضبا وقال: «أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد أو لحياته. فإذا رأيتم شيئا من ذلك، فادعوا الله وصلوا» مناظرة بين الإسلام والنصرانية ص 105.

 

[12] معنى وقد آضت الشمس أي رجعت إلى حالها الأول قبل الكسوف وهو من آض يئيض إذا رجع.

 

[13] رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 904.

 

[14] رواه ابن حبان في صحيحه حديث رقم 2834.

 

[15] رواه أحمد في مسنده حديث رقم 18664 قال شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح على شرط الشيخين.

 

[16] الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 4.

 

[17] المعارف لابن قتيبة ص 141.

 

[18] المعجم الكبير للطبراني 22/ 444.

 

[19] تفسير ابن كثير 3/ 606.

 

[20] فتح الباري لابن حجر 7/ 137.

 

[21] مراتب الإجماع لابن حزم ص 164.

 

[22] الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان 2/ 127.

 

[23] عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني 8/ 211.

 

[24] رواه البزار في مسنده حديث رقم 6331.

 

[25] الطبقات لابن سعد ص 108.

 

[26] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 3/ 345.

 

[27] التاريخ الكبير للبخاري 5/ 182.

 

[28] الكنى والأسماء لمسلم 1/ 519.

 

[29] الضعفاء والمتروكون للنسائي ص 64.

 

[30] المجروحين لابن حبان 2/ 11.

 

[31] تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين لابن شاهين ص 118.

 

[32] ديوان الضعفاء للذهبي ص 225.

 

[33] قال البيهقي في السنن الكبري: لَا تَنْفَعُ مُتَابَعَةُ الْوَاقِدِيِّ 5/ 57.

 

[34] الضعفاء الصغير للبخاري ص 104.

 

[35] الضعفاء والمتروكون للنسائي ص 92.

 

[36] إكمال تهذيب الكمال لعلاء الدين مغلطاي 10/ 290.

 

[37] تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين لابن شاهين ص 167.

 

[38] السنن الكبرى للبيهقي حديث رقم 15373.

 

[39] سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 154.

 

[40] القين بفتح القاف: الحداد وامرأة قين أي امرأة حداد.

 

[41] رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين حديث رقم 6821 قال الألباني: ضعيف جدا (السلسلة الضعيفة حديث رقم 4964).

 

[42] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني حديث رقم 4964.

 

[43] عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء» فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5232 ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2172.

 

[44] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: «ليس لك عليه نفقة»، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني»، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» فكرهته، ثم قال: «انكحي أسامة»، فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت به (رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1480) ولا يلزم من أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السيدة فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم أن يخلو بها، فليس في القصة أنه لم يكن متزوجا وليس في القصة أنه كان وحده في البيت.

 

[45] روي أن عائشة قالت: وَكَانَ أَنْزَلَهَا أَوَّلَ مَا قُدِمَ بِهَا فِي بَيْتٍ لِحَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فَكَانَتْ جَارَتَنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ عَامَّةَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ عِنْدَهَا حَتَّى فَرَغْنَا لَهَا فَجَزِعْتُ فَحَوَّلَهَا إِلَى الْعَالِيَةِ فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهَا هُنَاكَ. (الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 171).

 

[46] انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 171 وتاريخ الطبري 11/ 617.

 

[47] قال ابن القيم: كان عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم غير أمهاتهم (زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 5/ 135).

 

[48] الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 212 وتاريخ الطبري 11/.617

 

[49] الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي 6/ 67.

 

[50] قال أبو البقاء الحنفي المجبوب: هو مقطوع الذكر والخصيتين (الكليات ص 872).

 

[51] رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2771،والحديث فيه ابن إسحاق مدلس لكنه صرح بالتحديث،وله شاهد من حديث أنس بنحوه، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 1904 وقال: "وصرح البخاري وابن منده بتحديث ابن إسحاق، فزالت شبهة تدليسه وسائر رجاله ثقات، فهو إسناد متصل جيد".

 

[52] شغر أي رفع إحدى رجليه.

 

[53] معرفة الصحابة لابن منده ص 973.

 

[54] الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح الحنبلي ص 230.

 

[55] المحلى بالآثار لابن حزم 12/ 439.

 

[56] سبل الهدى والرشاد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي 10/ 432.

 

[57] انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص 60.

 

[58] تردده على حرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستلزم خلوته بها.

 

[59] الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص 294

 

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/103218/#ixzz4mFsAcaNV

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات