الإشاعة وأثرها السياسي

إسماعيل أحمد محمد

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

نشَأت الإشاعة في بلادنا واسْتَشرت؛ حتى دخَلت في حيِّز التأثير المباشر على الاستقرار السياسي والفكري لبلادنا؛ فتارة تؤجِّج النفوس ضد دولٍ عربية شقيقة، وتارة تَنشر القلق والتربُّص بين طوائف الشعب المصري؛ لتظلَّ البلاد في حالة من التوتُّر وعدم الاستقرار، وما كان لتلك الشائعات أن تؤثِّر فينا، لولا أننا تغافَلنا عن مبادئ واعتبارات عديدة أرْساها الشرع الحنيف، أوَّلُها قول الحق - تبارك وتعالى - في ذَمِّ مُرَوِّجي الشائعات من المنافقين: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [النساء: 83].

 

حتى لو كان الناس يردِّدونه، فكلُّ امرئ مسؤول عمَّا يَلفِظه؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّث بكلِّ ما سَمِع))، وقد أسْهَمت الصحافة كثيرًا في الترويج المتعمَّد للأكاذيب؛ بغَرَض الرِّبح وذيوع الانتشار، وساعَدت بالتحليلات والمقالات في ترسيخ الضلالات، كأنها حقائقُ راسخة، وصار للكلمة المطبوعة دَلالتها التي تَرجح عند القارئ البسيط كلَّ مصدر للمعلومات، وحين تحاول الدفاع عن الحقيقة، يُفاجئك التدليس لا بالخبر المُزَيف وحْده، بل بسلسلة من المُعتقدات والتعصُّبات المُرتكزة أساسًا على الصحافة، وقد أسْهَمت أوروبا بصحافتها في تأجيج العداء للدولة العثمانية، وشَنَّعت عنها أكاذيبَ يتعامل معها الغرب اليوم على أنها حقائق تاريخيَّة لا تَقبل التشكيك، وقد حكى السلطان عبدالحميد الثاني في مُذكراته طرفًا من تلك الحرب: "قامت الصحف الأوروبية بتوجيه انتقادات لاذعة، مُدَّعية أن الأكراد بعد تشكيل هذه السرايا، زادوا من تصرُّفاتهم اللاإنسانيَّة ضد الأَرْمن، وأعْرَبت هذه الصحف عن خشيتها من قيام الأكراد بثورة يُعلنون فيها استقلالهم، ويبدو أنَّ الصحف تَبحث عن مواضيع؛ إذ تكتب عن كلِّ شيء، بغَضِّ النظر عن صحته أو كَذبه، فالمراسلون يكتبون عن أوضاع كردستان وَفْق وجهات نظر الأرمن، دون أن يُكَلِّفوا أنفسهم عناءَ الخروج من بيوتهم المُريحة في إستانبول"[1].

 

مع أنه يستنكر تُهمة اضطهاد الأرمن من الأصل؛ حيث يقول: "شيء مُضحك أن نُتَّهمَ بتعذيب الأرمن واستغلاهم، فلو جالَ المرء بنظره في تاريخ إمبراطوريَّتنا، لثَبَت لَدَيه أنَّ الأرمن كانوا دائمًا أغنياءَ، والذين يعرفون حقائقَ الأمور يؤكِّدون تفوُّق الأرمن ماليًّا على رعايانا المسلمين، لقد تقلَّد الأرمن في جميع العهود أعلى المناصب الوظيفيَّة في الدولة بما فيها منصب الوزير الأعظم"[2].

 

وكانت تُهمة اضطهاد الأرمن واحدة من حُجج الغرب في الاجتماع على حرب دولة الخلافة، وجرِّها لاتِّباع أهوائهم وإملاءاتهم، بل لَعِبت الإشاعات دورها الرئيس في تحويل دَفَّة النصر في الحرب العالمية الثانية؛ حيث نَجَحت المخابرات البريطانية في خداع اليابانيين، ودَفْعهم لمهاجمة الولايات المتحدة التي كانت ترفض الدخول في السياسة الدولية قبلها، فوقَع هجوم بيرل هاربور الذي دمَّر فيه الطيران الياباني عدة قِطَع بحرية أمريكيَّة في هجوم مُباغت، لَعِبت الإشاعة دورها فيه؛ لتُوهِمَ اليابان أنَّ الولايات المتحدة تنوي خَوْضَ الحرب لنُصرة الحلفاء الذين كانوا قد اقْتَربوا من الهزيمة الكاملة.

 

كانت الصحافة تُرَوِّج للأكاذيب، وتَطمِس الحقائق في نُظُم الحكم العربيَّة المتهاوية، لتَلْفِت انتباه العامة والغوغاء عن ملفَّات الفساد، وتُبعدهم عن مواطن ضَعْفها، فكان التخويف المبالغ فيه من التيار الإسلامي عامة؛ سواء كان محليًّا، أم إقليميًّا، وكان المفترض بهذه الأجندات أن تَبطُل ببُطلان النظام الفاسد؛ لتحلَّ محلَّها رؤية موضوعية مُنصفة لكلِّ أبناء الأُمَّة، لكننا نجد اليوم هيئات وحركات وأحزابًا - بل وأفرادًا - يسعون لنَشْر الضلالات حول الإسلام والإسلاميين، لا في الصحف والفضائيَّات وحْدها، بل ومواقع الإنترنت، وتَضيع الحقيقة بين سَيْل الأكاذيب والتشنيعات، والتضليل المتعمَّد، فلا يجد الحقُّ مجالاً لتفنيد ما يُنْشَر، لا لقلَّة الحِيلة، بل لكثرة وتنوُّع وذيوع الباطل، ولا مانع من الترويج لأكاذيب التاريخ على أنها حقائقُ، وحسبنا أن نرسِّخ الأُسس الشرعية لقَبول الرواية، ولا نَسْكت عن قول قائلٍ مَهْمَا كان متهافتًا، فكما قال الدكتور عبدالرحمن عبدالخالق في بحثه المتميِّز: "أثر الأحاديث الضعيفة والموضوعة": "والفساد قد يبدأ قليلاً بكلمة تافهة من شخص مغمور، ولكنها إن لَم تجد ردًّا، فإنها سَرعان ما تَنتقل من شخصٍ إلى شخص، ومن جيل إلى جيل؛ حتى تُصبح عقيدة راسخةً، ودينًا مُتَّبعًا، وهنا نعلم أنه لولا الحراسة الدائمة والقيام الدائب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لَدَرَس الحقُّ واختفى النور، وعمَّت الظلمات"[3].

 

ويُعلِّمنا الشرع أن نعرفَ الحقَّ بقائله، فإن كان راويه كاذبًا، رَدَدْناه، وإن كان مجهولاً، تَحفَّظنا في قَبول روايته؛ حتى يَدعمه غيره من الثِّقات، وحتى إن كان عدلاً موثوقًا به، وخالَف مَن هو أوثق منه، توقَّفنا عن قَبوله؛ حتى يُميِّزها أهلُ الاختصاص بتخصيص أو نَسْخٍ، ثم نعرف الحقَّ باتِّساقه مع ما ثبَت من حقائق ومقدمات، ولو مَحَّصنا ما تتناقله الصحف والفضائيَّات في كثير من الأخبار المعتمدة على أحاديث مُرسلة عن آحادٍ ومجاهيلَ، لاسْتَبْعَدنا معظمَها، ولفَهِمنا أنه من السهل جدًّا التدليس اليوم على الناس، ونَشْر الأراجيف والدسّ بين المؤمنين، وتزوير وجْه الحقيقة، وما خَبَرُ الفتاة التي زَعَمت أنها من الثوَّار، وأنها تلقَّت تدريبًا في دولة غربية عنا ببعيدٍ، ولا استغاثات الناس بالهجوم على بيوتهم، وكله كان كذبًا مفضوحًا من أنظمة توشِك أن تتهاوى، وقد سَمِعتُ حديثًا عن انحياز بعض الدول العربيَّة الشقيقة لنظام مبارك المتهاوي على حساب علاقاتها التاريخية بالشعوب، فاسْتَبَعدت ما تَتناقله الفضائيات والصحف ومواقع النت؛ تأسيسًا على ما قدَّمت، وهو رَدُّ روايات المجاهيل وآحادٍ غير عدول أو مجهولين، واستنادًا للعقل الذي يُرَجِّح أن تُؤثِر الدول مصالحها المستقبلية على مصائر أفراد يَفنون ولا مَحالة؛ كما قال أردوغان.

 

المادة باللغة الإجليزية

اضغط هنا

[1] مذكراتي السياسية؛ للسلطان عبدالحميد الثاني.

[2] مذكراتي السياسية؛ للسلطان عبدالحميد الثاني.

[3] أثر الأحاديث الضعيفة والموضوعة في العقيدة؛ للدكتور عبدالرحمن عبدالخالق، نسخة إلكترونيَّة.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/35224/#ixzz4j3EMy1hA

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات