من أعظم دروس الحياة: رحلة الإنسان نحو البطولة-الجزء الأول

محمد الأمين مقراوي الوغليسي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

يصل عمر الأرض حسب آخر التقديرات إلى حوالي 4.5 مليون سنة، وعدد البشر الذين مروا من هنا لا يعلمه إلا الله تعالى، والتجارب البشرية على هذه الحياة أكبر من أن يحصيها كتاب أو إنسان، إلا أن الحقيقة التي يعلمنا إياها الواقع أن الكثير من البشر امتد بهم العمر امتدادا طويلا، ولكنهم لم يدركوا أهم الأسرار التي تعطي للحياة معنى، وللإنجازات قيمة، وللأحلام جمالا، تلك الأسرار أو الكنوز التي تجعل الإنسان ذكيا في طلبه للحياة، وصبورا في تحقيق مساعيه، ثم تتوجه بطلا في آخر حياته.

 

ولأن حياة الإنسان قصيرة جدا، ومروره بفترات ضعف-خاصة مرحلة الطفولة والشيخوخة- فإنه لا يملك أمام ذلك سوى الاستفادة من تجارب الآخرين، والتريث قبل اتخاذ قرارات مصيرية قد تؤثر على كل حياته..  بدل معاندة الحياة، وبدل القول: يجب أن أجرب كل ما جربه الآخرون، وهذا خطأ رهيب، بل عليه الأخذ بالحكمة القائلة: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذا بها.

 

كما أن الإنسان مطالب بالتأمل في تراكمات حياته، وتجاربه، وكيف يتغير، ويتأمل كذلك في الكيفية التي تغير بها الكثير من الناس، بل وكيف تغيرت المجتمعات والدول، ليستفيد أولا، وليستمتع بالحياة، وإلا كانت حياته هامدة، ملفوفة برداءٍ واحد، ويغلب عليها البرودة والبلادة.

 

وحتى تتضح الأمور أكثر، ونخرج من التنظير إلى التطبيق، يحسن بنا ضرب أمثلة واقعية من مختلف مجالات الحياة، حتى تكون الصورة واضحة، والمعنى قريبا.

 

مدرسة الحياة وسلم البطولة

 

لا ينال أي فريق كرة قدم في العالم لقب البطولة؛ ليوصف بوصف البطل إلا بعد رحلة طويلة من المباريات، يتغلب فيها على فرق كثيرة، تختلف في عناصرها وقوتها، كما تتنوع خططها واستراتيجياتها، ويتبارى معها في أغلب فصول السنة، فينافس على اللقب في فصل الخريف والشتاء والربيع، وقد يصل إلى بدايات الصيف، كما أنه يصطدم أحيانا بعوائق مادية ومالية، وأحيانا يجد نفسه أمام حكام بعضهم لا ضمير له، وبعضهم يبالغ في الحزم معه، كما أن كثرة التنافس تجعل العديد من عناصره تخرج مصابة من أرضية الميدان، وقد يمر هذا الفريق بضغوطات داخلية هائلة من مشجعيه، بالتالي فإن تجاوزه لكل المصاعب والعقبات المذكورة، وتغلبه على أغلب المنافسين له، يجعله في الأخير يستحق لقب البطولة، وهذا أحد أبرز الأمثلة عن الكفاءة في الحياة، والتي تجعل الإنسان بطلا في مجاله، أو في الحياة عموما.

 

الطالب وقطار الدراسة

 

لا يتخرج الطالب من الجامعة إلا بعد أن يكون قد قضى سنوات طويلة في مقاعد الدراسة، يمر بمراحل مختلفة، بدءً من المرحلة الابتدائية وصولا إلى المرحلة الجامعية، في مسيرته هذه يكون قد تعامل مع ظروف مكانية وزمانية متنوعة، وتفاعل مع الكثير من الزملاء في حياته الدراسية، حيث يختلف كل منهم في طباعه وذوقه وأخلاقه واجتهاده، دون أن ننسى الإشارة إلى تتلمذه على الكثير من الأساتذة، الذين يختلفون في خبراتهم ومزاجهم وأساليبهم، ومروره على مواد دراسية عديدة، انتهت باختبارات حاسمة، كل هذه التجارب جعلته في الأخير يتوج بتلك الشهادة، لكن القليل منهم من استفاد من تجاربه بعمق؛

 

ولذلك فإن عدد الذين يواصلون دراساتهم العليا يكون عادة قليلا، بل ونادرا إذا كانت وفق شروط صعبة، ثم القليل من هؤلاء من يواصل رحلة البحث والتعلم إلى آخر حياته، والحقيقة أن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء هو مدى استفادتهم من كل تلك التجارب استفادة حقيقية منذ أول يوم وطأت فيه أقدامهم باب المدرسة إلى يوم التتويج بالشهادة.

 

على مضمار الحياة

 

لا يتوج عادة أبطال سباقات العدو في أول سباق يخوضونه، فالتجربة والخبرة تلعب دورها في مسارهم، ولا تكفي قوتهم وسرعتهم، لهذا كان مرورهم بمختلف التدريبات والتنافس مع مختلف السباقين ومن مختلف الدول، وتجاوز الإصابات والإحباط أحد أقوى المحفزات التي تجعله يستفيد من طاقته وقدراته، وبالتالي يصل إلى الكفاءة في مجاله، حتى يعانق البطولة.

 

الناس والميكانيكي

 

عندما تتعطل سيارة الكثير من الناس فإن وجهتهم الأولى تكون نحو ميكانيكي متمرس، صاحب خبرة، ولا يتوجهون إطلاقا إلى ذلك الطالب الذي درس الميكانيك ولو وصل في دراسته إلى أعلى المراتب، ولو سألت الناس لقالوا: إن هذا يملك تجارب كثيرة، وكفاءته في مجاله معترف بها، إذن يدرك البشر قيمة التجارب في صقل مواهب الإنسان، حتى يصل إلى درجة الكفاءة، ثم يقف على منصة التتويج بالبطولة في ميدانه.

 

 

 

وإذا ادعى شخص أن يملك الكفاءة في قيادة السيارة، فإن عليه أن يكون قد قاد مختلف الأحجام والأصناف، وفي مختلف المناخات، وفي مختلف الأماكن الجغرافية، فقيادته إياها في فصل الصيف وفي فصل الشتاء، وفي المدن والقرى، وفي الدول الباردة المثلجة، وفي السهول والجبال، وفي حال الضباب الكثيف، أو في ظلمة زادها تعطل الأضواء شدة، وتعلمه تصليح الأعطال، كل ذلك يجعله مستحقا للقب البطولة في حياته.

 

هل سافرت حقا؟

 

إن الذي يسافر إلى الدول ويعتاد السكن في الفنادق، وقضاء وقته في مسابحها، أو في الأماكن التي يسميها أهل المراكز السياحية للمدينة، ويستخدم مترجما، لا يستفيد من سفره كثيرا، ويمكن تسمية عمله هذا رحلة أو زيارة، ولا يصل إلى وصف السفر بمعناه العرفي، فالسفر الحقيقي هو الذي يكشف لك حقيقة البلد، وثقافته، وواقع السكان وعاداتهم، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا عاش الإنسان بين الناس في ضواحي المدن أو في القرى، وبينهم في الأحياء أو العمارات، ويقف بنفسه على تصرفاتهم وعاداتهم، وردّات فعلهم نحوه، وهذا لا يتوفر في المدينة التي اعتادت على السياح، فأصبح أهلها غير مهتمين بوجودهم، واعتادوا على التفاعل الآلي، بينما يختلف الحال خارج الأماكن التي لم تألف وجود الغرباء من السائحين، حيث تكون مواقفهم هي التعبير الحقيقي عن حقيقة البلد وثقافته وعاداته. ومادام الأمر كذلك فإن هذا ما يفسر لنا عدم استفادة الكثير من الناس من أسفارهم، وعدم استمتاعهم بها.. ميدان السفر والضرب في الأرض الذي أوصى به القرآن الكريم، يعد أحد أبرز الميادين التي حُرم الناس مما فيها من فوائد ومعارف.

 

الطيار والطائرة

 

عندما تنهي شركات تصنيع الطائرات تجميع أي طائرة، تخضعها لأقسى أنواع الاختبارات، فعلى سبيل المثال: تختبر المحرك والأجنة والمكابح في مختلف الظروف الجوية والأرضية القاسية، لماذا تفعل ذلك؟ ببساطة لأن هيئة الطيران المدني لن تسلمها شهادة تثبت صلاحيتها للطيران إلا بعد أن تثبت كفاءتها، لتسلم في الأخير إلى طيار مقتدر، صاحب كفاءة عالية، هذا الأخير لم تسلمه شركته قيادة الطائرة إلا بعد أن قضى آلاف الساعات كمساعد طيار، ومرّ بمختلف الظروف والحالات.

 

الأم وأول مولود

 

عندما يولد للمرأة أول مولود ترتبك ولا تحسن التصرف معه، حتى لو كانت حائزة على أرقى الألقاب العلمية، وحتى لو كانت طبيبة، حيث تلتجئ إلى أمها أو حماتها طلبا للعون في كيفية التعامل مثلا: مع ارتفاع درجة حرارته، أو كيفية تنظيفه وتغسيله وتقميطه. ما الذي جعل هذه المتعلمة تلجأ إلى من لا تملك شهادة علمية؟ ببساطة تعاملها مع عدة مواليد جعلها تكتسب الكفاءة في ميدان الرعاية بالطفل، لتستحق في الأخير لقب البطولة

 

شركة تبحث عن خبراء

 

جرت عادة البشر على تسليم أموالهم أو حكمهم إلى الأكثر كفاءة، فتجد الأب يسلم الابن الأصغر مقاليد إدارة الشركة، في وجود أخوته الآخرين، وسبب ذلك هو وضعه جميع أولاده في ميزان الخبرة والكفاءة، وليس هذا في الأسرة وحسب، بل لو أن رجلا افتتح مشروعا ما، فإن أهم ما يركز عليه هو البحث عن الكفاءات التي تمتلك خبرة كبيرة في المجال الذي يريد الاشتغال فيه، وهذا ما يفسر عادة جذب العديد من الشركات خبراء شركات أخرى مقابل مرتبات أكبر، فهم يعلمون أن هذه الخبرات نتيجة سنوات طويلة، ونفقات تكوين عديدة، بالتالي فاستقطابهم لهؤلاء هو بالنسبة إليهم أحد ضمانات النجاح، التي تقود شركاتهم نحو البطولة.

 

الحياة بطولة

 

من الأمثلة التي سقناها في هذا المقال نصل إلى حقيقة هامة وهي أن المرور الواعي بمختلف تجارب الحياة، طريق نحو الكفاءة في الحياة، والكفاءة جسر نحو البطولة، ولذلك جاء في الحديث النبوي الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام :"ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" قد يعتقد الكثيرون أن سياسة الغنم والرعي أمر سهل، إلا أن هذا اعتقاد خاطئ، فرعيها هو عين الرعاية، فالراعي مطالب أولا بالتكيف مع الظروف البيئية المتنوعة، والتنقل، والتكيف مع المناخ، ومع الجوائح السماوية، فهو مطالب بتوفير الأكل لها ففي كل الظروف وهذا يعني أن يفكر ويبذل وسعه وطاقته في إيجاد مواطن الكلأ وإلا هلكت ماشيته، كما عليه أن يتعلم الصبر والحلم عليها فهي بطيئة في مشيها وتنقلها وأكلها، وعليه تعلم الرحمة فهو الذي يشرف على أكلها ونومها وولادة صغارها، وعلى علاجها وعلاج صغارها إن أصيبت بمرض أو حمى، وهذا يعلمه مراقبة الأمراض التي تهجم على قطيعه، وتهدده بالفناء، وهذا ينمي فيه حس المراقبة، ويقوي بصيرته، ويفيده الرعي في تعلم الصبر والهدوء؛ فالغنم معروفة ببطء حركتها وتنقلاتها، وإذا تعلم التصبر، أتاح له ذلك فرصا للجلوس والقعود والإبحار في عالم الأفكار ليلا ونهاراً، متأملا في الحياة وأسرارها، وعليه أن لا يهتم باحتقار الناس لهذه الحرفة.

 

ولاحظ أن الراعي يتعلم كيفية التعامل مع المخالفين والمتخلفين، فهو حريص على مراقبة القطيع ببصره، ثم يتعلم مع الأيام كيف يرد الشاردة إلى القطيع، قد ترجع بالصوت الصادر عنه أو عن يديه، وقد ترجع بالكلب الراعي، وقد ترجع بالعصا، ومن هنا يتعلم الراعي سياسة ما بين يديه، ومن فوائد الرعي أنه يعلم الراعي التواضع، ويطرد من قلبه الجشع، فهذه المهنة لا تدر أرباحا طائلة، فهو في آخر الموسم يود بيع ما بين يديه؛ ليجدد قطيعه مرة أخرى.

 

إذن لم يرسل الأنبياء لسياسة البشر إلا بعد أن تعلموا وتأهلوا لسياستهم، وهذا يعني لنا أن التجارب والكفاءات قيمة حقيقية، لا يمكن النجاح من دونهما.

 

إنه مهما اختلفت الميادين، ومهما تنوعت المجالات الدنيوية، إلا أن البشر جميعا يدركون في الأوقات الحاسمة أهمية الكفاءة والخبرة والتجربة، ويندم الكثير منهم على عدم امتلاكها في تلك اللحظات الحرجة؛ ذلك أن الكثير من البشر عاشوا عيشة سطحية، لا يعرفون من الحياة إلا ظاهرها، بعد أن ارتضوا أن يعيشوها بسهولة، بعيدا عن نصبها وتعبها، ولم يتحققوا بأحد المعاني التي حث عليها الإسلام، أي معنى الإحسان الذي بمعنى الإتقان، وفقدان المسلمين هذا المعنى جعلهم ضحية لسقطات ونكبات كثيرة، تعرضت لها الكثير من مشاريعهم، سواء أكانت مشاريع فردية، أو أسرية، أو مجتمعية، أو مشاريع نهضوية امتلكت الكثير من الخطط، لكنها كانت فاقدة للكفاءة في الحياة.. يتبع

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات