لماذا نرفض سنّ قانون للتحرش؟

علي جابر المشنوي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

عندما يأتي الحديث حول ضرورة سنّ قانون يعاقب المتحرشين، نجد فريقين منقسمين: الأول: يرفض سن قانون للتحرش. والثاني: يدعو لسنّ قانون للتحرش.

 

حالة الانقسام في الرأي هي حالة طبيعية، لكن المفارقة تبدو عندما يلاحظ المتابع أن الرافضين لسن قانون للتحرش هم في الغالب – كما يتضح بتتبع طرحهم– من دعاة التزام الشريعة، وما تدعو إليه من الفضيلة والستر والعفة، والمنع من الاختلاط بين الرجال والنساء، وإغلاق الطرق المؤدية للفساد! وفي الضفة الأخرى نجد غالب المطالبين بسنّ قانون للتحرش – كما يتضح أيضًا من طرحهم– هم من دعاة الاختلاط، وترك إنكار المنكرات وغير ذلك! وهنا ينبعث سؤال ضروري في عقل المتابع لحالة الانقسام في الرأي، وما يتبعها من نقاشات متعلقة بسنّ قانون للتحرش:

 

كيف يكون دعاة الفضيلة والستر والعفاف ضد سن قانون للتحرش، مع أن معاقبة المتحرشين داخل بالضرورة في الحفاظ على الفضيلة، ومعاقبة من تسول له نفسه تدنيسها؟! وكيف – في المقابل–  يطالب دعاة الاختلاط ونبذ الحجاب بسنِّ قانون يُعاقب المتحرش، مع أن هذه الدعوة لا تتماشى مع طرحهم العام؟!

 

هنا سوف نعطي إجابة لهذا السؤال المشروع ليتضح الأمر؛ إذ إن الخلاف حول سن قانون للتحرش إنما هو ثمرة لخلافٍ بين فكرتين! وإليك التفصيل:

 

بين الفكرة الإسلامية والفكرة الليبرالية:

 

الفكرة الإسلامية:

 

تقوم الفكرة الإسلامية على أن البشر مُستعبَدون لخالقهم جل وعلا، وبالتالي فهو وحده الذي له الأمر، كما أنه الذي له الخلق ((ألا له الخلق والأمر))، وهذا الأصل هو أصلٌ يؤمن به كل مُسلم. وبالتالي فالمجتمع المسلم من باب أولى يؤمن بهذا الأصل ويضعه نصب عينيه. إذا تبين هذا فإن العلاقة بين الجنسين في المجتمع المسلم يجب أن تكون متقيدة بشرع الله، والشرع يدعو إلى الفضيلة، وكل طريق يؤدي إلى تحقيق الفضيلة والعفاف فهو مطلوب؛ لأن الوسيلة إلى الشيء تأخذ حكمه. كما أنه يحارب الرذيلة والفسوق والمجاهرة بالمعاصي، وكل طريق يؤدي لهذه الأفعال الذميمة فهو مذموم كذلك.

 

الفكرة الغربية:

 

تقوم الفكرة الغربية على الأنظمة الوضعية التي يسنها البشر بعيدًا عن شريعة الله، كما أن التشريع الوضعي يقوم على الفصل بين القانون من جهة، والدين والأخلاق من جهة أخرى، وبالتالي فإن العلاقة بين الجنسين تقوم على التراضي فقط بين الطرفين، ولا تستحضر الدين أو الأخلاق مطلقًا؛ فيستطيع الذكر أو الأنثى أن يتصل بالطرف الآخر كيفما يشاء من الكلام إلى الفاحشة بلا مانع يمنع أو قانون يُعاقب، وتستطيع المرأة أن تتعرى كما تشاء إلا في حدود ضيقة جدًا، وهذه الحدود من صناعة الفكرة الليبرالية، وليست نتيجة للتشريعات الإلهية، وهلم جرًا فيما يتعلق بالأمور الدينية والأخلاقية. وليس هناك أي عقاب أو تجريم لأي ممارسة للرذيلة ومقدماتها إلا في حالة كان أحد الطرفين غير موافق.

 

قانون معاقبة المتحرشين:

 

بناءً على الاختلاف بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية فيما يتعلق بالتشريع والقانون كما فصلنا سابقًا، فإن مفهوم قانون التحرش يختلف بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي، وإن كان المسمى واحدًا "قانون التحرش أو معاقبة المتحرشين".

 

 

 

فقانون التحرش المُطبق في الدول غير الإسلامية هو قانون يقوم على المبدأ الذي ذكرناه؛ وهو حق الرجل والمرأة أن يتصلا ببعضهما خارج نطاق الزواج، سواء بالحديث أو الاتصال الجسدي من القُبلة إلى الزنا، وكذلك حق كل أحد في أن يلبس ما يشاء حتى لو حرمته الشرائع والفطر؛ لأن هذا التصرفات هي من الحريات، وليس من شأن أي أحد أن يتدخل فيها ما دام الطرفان متراضيين. وبالتالي فالمتحرش الذي يستحق العقوبة هو: الشخص – ذكرًا أو أنثى – الذي يحاول فعل الفاحشة أو مقدماتها من غير رضا الطرف الآخر. هذا هو مفهوم قانون التحرش في المجتمعات الأخرى. فسبب العقوبة ليس نتيجة لارتكاب المتحرش لمحرم في الشرع والفطرة، أو نتيجة لاعتدائه على الأعراض ومحاولة الاتصال مع من لا يحل له بطريق غير طريق الشرع، وإنما السبب فقط عدم رضى الطرف الآخر، أما لو رضي الطرفان فلا شأن لأحد بذلك.

 

وأما قانون التحرش الموافق للشريعة الإسلامية فهو جزء من مفهوم مختلف تمامًا عن المفهوم الغربي؛ إذ الشريعة تقوم على حكم الله الذي يأمر أولاً بالفضيلة وينهى عما يُضادها، ومن أوجه كمال الشريعة إغلاقها للطرق الموصلة للحرام أو الممنوع، ثم المعاقبة عليه بعد ذلك، وفتح الطرق الموصلة للمندوب، وترتيب الأجر الدنيوي والأخروي عليه، بخلاف القوانين الوضعية التي كثيرًا ما تترك الطرق الموصلة للجريمة مفتوحة على مصراعيها، ثم هي بعد ذلك تعاقب مرتكب الجريمة، وهذا تناقض، ولأجل هذا التناقض فإن كثيرًا من العقوبات في القوانين الوضعية لم تُسهم في تقليص معدل الجرائم؛ وذلك عائدٌ إلى إغفال ما اعتنت به الشريعة من إغلاق المنافذ المُفضية إلى المحظور، ولأجل هذا فقد خرجت دراسات غربية كثيرة تنازع في جدوى العقوبات، وتحاول طرح خيارات أخرى غير العقوبات؛ وذلك لأن العقوبات –كما أسلفنا– لم تُسهم في تقليص الجريمة!  فالشريعة إذن تأمر وتشرع كل ما يعزز هذا المبدأ – مبدأ الفضيلة–من الحشمة وغض البصر والزواج المبكر لمن لديه القدرة، وتنهى وتحارب كل ما يضاده كالتبرج والاختلاط والخلوة والزنا ومقدماته، وما إلى ذلك من مساوئ الأخلاق، وكل ما أوجبته الشريعة وجب على الأنظمة الحاكمة بها أن تقيمه وتسعى لتحقيقه في واقع المجتمع ومظهره، وكل ما حاربته الشريعة وجب على تلك الأنظمة أن تحاربه وتعاقب عليه بنوع من العقاب يوافق الشريعة، سواء فيما نصت على عقوبته كعقوبة الزنا، أو ما لم تنص الشريعة على عقوبة معينة لفاعله، لكنها حرَّمته؛ فتكون معاقبته من باب التعزير، والتحرش من النوع الثاني. وبناءً على ذلك فقانون التحرش الموافق للشريعة يجب أن يولد وبجانبه قانون للباس والعلاقة بين أفراد المجتمع - متمشيًا بذلك مع طريقة الشريعة التي ذكرناها آنفًا، وهي إغلاق منافذ الممنوع قدر الاستطاعة- يضع هذا القانون نصب عينيه الأمر بكل ما يعزز جانب الفضيلة والنهي عما يضادها فيما يتعلق باللباس والعلاقة بين الجنسين وما إلى ذلك مما هو داخل في هذا الباب. فتعاقب المتبرجة كما يُعاقب المتحرش، تُعاقب المتبرجة لإخلالها بما أمر الله به من الستر والفضيلة، ويُعاقب المتحرش لإخلاله بما أمر الله به من حفظ الأعراض والنهي عن الرذيلة.

 

 

 

ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا يكون أغلب الرافضين لسنِّ قانون للتحرش هم من دعاة الفضيلة والستر، واحترام أحكام الشريعة، كما نستطيع أن نفهم لماذا أغلب دعاة سن قانون للتحرش هم من الطرف الآخر.

 

فالرافضون لسنّ قانون يعاقب المتحرشين ليسوا في الحقيقة ضد معاقبة المتحرشين، وكيف يكونون كذلك والله يقول: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ عظيم في الدنيا والآخرة.."؟ لكنهم ضد سن قانون التحرش الموافق للمفهوم الغربي الذي يقوم على إباحة الزنا ومقدماته، ولا يمانع من حصول الفاحشة إذا تراضى الطرفان، وإنما يعاقب فقط إذا لم يكن هناك تراض. وهم في الحقيقة يدعون لتحكيم شرع الله، ولتطبيق النموذج الاجتماعي الموافق للتشريع الإلهي الذي يدعو للفضيلة ويحارب الرذيلة ووسائلها، ويرفضون الفكرة الغربية المنحلة المنفصلة عن شريعة الله وعن الأخلاق؛ فتجعل من الإنسان بهيمة يمارس الفاحشة ومقدماتها كما يشاء أمام الناس بلا نكير، ويلبس اللباس العاري باسم الحرية، ثم تسن قانونًا يُعاقب فقط من أراد ممارسة الزنا أو مقدماته بلا رضا من الطرف الآخر.

 

إن الشريعة الإسلامية تؤكد على أهمية ظهور المجتمع المسلم بمظهر إنساني طاهر وليس بهيمي، وهذا من أهم الأصول التي أكد عليها الوحي في مواضع كثيرة، بل خص الله هذه الأمة بالخيرية، وشرط الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتناول الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، وفي موضوعنا هذا فإن الشريعة تُعاقب المتحرش بلا شك، لكنها أيضاً تُعاقب من يمارس الزنا أو مقدماته، كما أنها تسد كل باب يُفضي إلى الحرام الذي تُعاقب عليه، وما أفضى إلى شيء أخذ حكمه.

 

فمتى وجدت قوانين تأمر بما تأمر به الشريعة من الستر والعفاف، وتُعاقب وتمنع خلاف ذلك من التفسخ والاختلاط وغير ذلك مما يخالف شرع الله فإن سن قانون يُعاقب المتحرشين سيكون أيضًا مما قصدت إليه الشريعة، وأمرت به!

 

أما أن يدعو أحدهم إلى سنّ قانون للتحرش محتجًا بأن الشريعة تدعو لذلك، ثم يرفض أمر الشريعة فيما سوى ذلك من الحث على الستر والعفاف، وإغلاق المنافذ المفضية إلى الفساد؛ فهذا في الحقيقة ليس مطالبًا بالشريعة، لكنه يستخدم أوامرها في الجزء الذي يوافق هواه، ولا يلقي لأوامرها بالاً في الجزء الذي تخالف فيه الشريعة النموذج الغربي!

 

فهنا -كما ترى- أوضحنا بجلاء الموقف من سن قانون لمعاقبة المتحرشين، وما هو شكل القانون المرفوض، وما هو شكل القانون الذي ندعو إلى تفعيله.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات