الوارثون لبيت المقدس

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

د. حسام الدين السامرائي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

 

فقد أخرج أحمد وابن ماجه - بسند صحيح - من حديث ميمونة بنت سعد مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قلت: يا رسول الله، أفتِنا في بيت المقدس، فقال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلُّوا فيه؛ فإن صلاة فيه كألف صلاة))، قلت: يا رسول الله، فمن لم يستطع أن يأتيه، أو يتحمل إليه؟ قال: فليُهدِ إليه زيتًا يسرج فيه؛ فإنه من أهدى إليه زيتًا، كان كمن صلى فيه)).

 

مشاعر وخواطر كانت تراود الصحابة، وأعْينهم وأرواحهم تشخص إلى بيت المقدس: "يا رسول الله، أفتِنا في بيت المقدس"، إنهم يعلمون عظيم الإرث الذي أحيل لهم، والأمانة التي أنيطت بهم، إنهم تعلموا منه صلى الله عليه وسلم شد الرحال إليه، فإن كانوا شدوا الرحال إلى البيت الحرام والمسجد النبوي، فمن سيشد الرحال إلى بيت المقدس؟

 

وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه والأمة من بعدهم فيقول بلسان الحال: إن مُنعتم من شد الرحال إليه بالجسد، فشدوا الرحال إليه بالروح.

 

دعونا نشد الرحال بالأرواح إلى بيت المقدس لتبدأ الحكاية فيما رواه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجدٍ وُضع في الأرض، قال: ((المسجد الحرام))، قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى))، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون عامًا)).

 

ليستوطنه بعد ذلك الأنبياء، فيهاجر إليه إبراهيم، ويرزق فيه بإسماعيل وإسحاق، ويعيش في كنفه يعقوب، فيرزق فيه بيوسف، ثم يقصده موسى ويحدِّث قومه بالوصول إليه: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21]، فيَتِيه القوم بعد عنادهم لرسولهم: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26]؛ ليبقى الأمل في موسى لبلوغ بيت المقدس حتى جاءت ساعة الموت، والحديث في الصحيحين من رواية أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أرسل ملَك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكَّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه قال: أرسلتَني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثورٍ، وله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنةٌ، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل اللهَ أن يدنيَه من الأرض المقدسة رميةً بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره، إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر)).

 

أمنيَّة يتمناها موسى عليه السلام عند موته، وهي أن يتقرب من بيت المقدس، إنه إرث النبوة الذي وصى به موسى إلى يوشع بن نون، لتحبس الشمس عند دخوله إلى بيت المقدس؛ فقد صح في الأثر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس لم تحبَسْ لبشر، إلا ليوشع لياليَ سار إلى بيت المقدس، وفي رواية: غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملَك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبنِ، ولا أحد قد بنى بنيانًا ولما يرفع سقفها، ولا أحد قد اشترى غنَمًا أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر وِلادَها، فغزا، فدنا من القرية حين صلاة العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورةٌ وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئًا، فحُبِست عليه حتى فتح الله عليه...)).

 

فيحمل الرسالة زكريا، ويركع في محراب بيت المقدس، ويرزق بيحيى، وتنشأ فيه مريم، ويولد على أبوابه عيسى - عليهم الصلاة والسلام جميعًا.

 

ثم تسلَّم الراية إلى خاتم النبيين وإمام المرسَلين صلى الله عليه وسلم، فينال الشرف الرفيع في رحلة الإسراء؛ ليعقد لقاء القمة في أكناف بيت المقدس، يا محمد، قد جمع لك الأنبياء جميعًا في هذا المكان الطاهر، فأوصِ أمتك ألا تفرِّط فيه.

 

فيصلي - عليه الصلاة والسلام - ستة عشر شهرًا إلى بيت المقدس، ويغرس حب البيت في أصحابه وأمته وهو يقول: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى)، ويذكِّر أصحابه بوصايا إخوانه الأنبياء من قبله، فيقول - كما روى ابن ماجه وغيره بسند صحيح من حديث عبدالله بن عمرو -: ((لما فرَغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا: حُكمًا يصادف حُكمَه، ومُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيومَ ولدَتْه أمه))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما اثنتان فقد أُعْطِيَهما، وأرجو أن يكون قد أُعْطِيَ الثالثة)).

 

ويعلمهم أن يحتمُوا بكنَفه عند الفتن؛ فقد قال - كما في الصحيح -: ((أُنذِركم الدَّجَّالَ، أنذركم الدجال، أنذركم الدجال.. ثم قال: وإنه لا يقرَبُ أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد المقدس، والطور))، فيسعى صلى الله عليه وسلم في حياته للوصول إليه، فيرسل أكرم أصحابه لغزوة مؤتة: "بوابة بيت المقدس"، ويذهب بنفسه إلى تبوك، ويجهز جيش أسامة للشام في حياته، فيرث الصديق الأمانة، ويعقد لواء أسامة على عقد النبي صلى الله عليه وسلم، فيفتح للفاروق بيت المقدس، ورغم أن فتح العراق وبصرى الشام قد سبق للفاروق، لكنه لم يذهب بنفسه إلا بيت المقدس؛ لعلمه بعظيم تلك الأمانة التي ورثتها هذه الأمة، فيذهب رضي الله عنه وأرضاه بثيابه البسيطة المتواضعة، ويدخل بيت المقدس، ويقف في محراب داود عليه السلام فيصلي الفجر وهو يقرأ: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].

 

فيتلقى الصالحون من أبناء هذه الأمة الرسالة، فينهضون لنصرة بيت المقدس كلما صرخ؛ فصلاح الدين الابن البار لهذه الأمة يدخله باثني عشر ألف مقاتل ليهزم ثلاثين ألفًا من الصليبيين، ويأسر مثلهم، فيُباع الأسير الصليبي بدرهم، وبعضهم بنعلين، فيقال: لماذا تبيعونهم بنعلين؟ فيقولون: ليسجل التاريخُ أن عبَّاد الصليب أهونُ علينا من نعلين!

 

أيها الكرام:

 

بيت المقدس اليوم بحاجة إلى رجال من أمثال أولئك العظام الذين عرَفوا عظيم الترِكة التي تحملوها، بيت المقدس يبحث عن رجال كأمثال عبدالله بن جحش يوم أحد، يوم أن سأل ربه فقال: اللهم إني أسألك عدوًّا شديد البأس، فيقتلني، ويبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقأ عيني، ويقطع أذني، حتى إذا ما وقفتُ بين يديك وسألتَني: لم فُعل ذلك بك؟ فأقول: فيك يا رب، ومِن أجلك يا رب!

 

إن أرحام الأمَّة التي أنجبت أمثال هؤلاء الصالحين لم تعقم بعدُ؛ ففي أمتنا أمثلة كثيرة من هؤلاء في كل زمان ومكان.

 

أيها الكرام، لو تأملتم في وسط المصحف الشريف لنظرتم إلى سورة الإسراء التي تقع في وسطه وقلبه؛ لتعيش آياتها العظيمة في قلب كل مسلم، وليبقى ذكر المسجد الأقصى خالدًا، يتوارثه الصالحون خلفًا عن سلف، فلا تضيِّعوا تلك الأمانة، ولا تتغافلوا عنها: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].

 

هذا، والله من وراء القصد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات