في نور آية كريمة.. ‘يريد الله أن يخفف عنكم‘

أمير سعيد

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

"يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"
آية عظيمة، توضح حكمة الشرائع ومراد الله سبحانه وتعالى منها، وهو التخفيف عن عباده المؤمنين، تيسير الطريق لهم، معانقة الفطرة والسير معها في طريق واحد لا يعتلجان فيه أو يتعاكسان.. جاء الإسلام بالحنيفية السمحة فنظم الدين والدنيا معاً في مسار معبد رفيق، يتسق مع الفطرة فلا نكد ولا شقاق وانفصام. يُلتزم هذا الطريق فلا غبن ولا ظلم ولا هضم. ما جعل الله فيه من حرج، إنما الحرج على من يتنفس من غير هوائه ويستنشق ما سواه؛ فيضيق صدره كأنما يصعد في السماء.

 

يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما - بسند فيه انقطاع – "ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت هذه الثلاث "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ .... وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا "، وإن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، وإن الله لا يغفر أن يشرك به،  وإن الله لا يظلم مثقال ذرة ومن يعمل سوءا يجز به، وما يفعل الله بعذابكم".

 

وإذ انصرف بعض المفسرين إلى أنها في شأن زواج الإماء، وفي الضعف تجاه النساء عموماً، فإن هذا لا يمنع أن يقال كما يقول القرطبي أن "الصحيح أن هذا في جميع أحكام الشرع"، أو كما يجمع ابن عطية بقوله: "ثم بعد هذا المقصد (نكاح الإماء) تخرج الآية في مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى عن عباده، وجعله الدين يسرا، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب".. فالتخفيف هنا يشمل معاني عديدة، منها أنه "يخفف في التكليف على العموم، فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية، وقيل: يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها" كما ذكر الألوسي، أو كما يقول أهل الأصول كابن عاشور: "أن الله لا يزال مراعيا رفقه بهذه الأمة وإرادته بها اليسر دون العسر، إشارة إلى أن هذا الدين بين حفظ المصالح ودرء المفاسد، في أيسر كيفية وأرفقها، فربما ألغت الشريعة بعض المفاسد إذا كان في الحمل على تركها مشقة أو تعطيل مصلحة".

 

جاءت الشريعة برفع الحرج والتخفيف والتيسير، وما أدركت البشرية ذلك، إذ رأتها تكبيلاً، وانفلتت من عقالها؛ فلم تحصد إلا مزيداً من الشقاء والعسر والنكد؛ فلم تفلح منظومات الرأسمالية الطاغية وتفشي الربا والغش والتدليس كرافعة للاقتصادات بل زادت العالم شقاء، مزيداً من الإفقار والاستغلال للفقراء، وشقاء للأغنياء، ولم يمنح الانفلات الأخلاقي السعادة للبشرية بل زادت به قلقاً واضطراباً وانهارت به مؤسسة الأسرة، وتفككت المجتمعات، "وذلك منتهى ما تطيقه الرذيلة من الجهد في إفساد البيوت بتنكيث قوى الرابطة الزوجية، وجعلها وسيلة لما هي في الفطرة والشريعة أشد الموانع دونه؛ لأنها هي الحصن للمرتبطين بها من فوضى الأبضاع، والحفاظ لما فيه هناء المعيشة من الاختصاص" (تفسير المنار).. وهكذا في كل منحى من مناحي الحياة.

  

لقد ارتضى الله للناس هذا الدين، يسوسون به دنياهم، يتسقون به مع فطرتهم، في صفاء شامل، صفاء في علاقتهم بربهم، وبالكون حولهم، وبسائر المخلوقات، ففي اتباع أوامره واجتناب نواهيه مفتاح السعادة، وبلوغ الأماني، وتحقيق المرتجى، وفي الطريق يتجلى تخفيف من نوع آخر، هو تخفيف الرخص وأحكام الحاجات والضرورات.. ثم مع بعد هناك تخفيف من نوع جديد يدركه العارفون الصالحون، الذين يقول بعضهم: "يريد الله أن يخفف عنكم أتعاب الخدمة بحلاوة الطاعات".

 

والله الحكيم الخبير يعلم من شأن عباده ضعفاً، أراد لهم معه تيسيراً وتسهيلاً، كما يقول السعدي: "لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، ناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته".

 

بالإنسان ضعف حقيقي، لا يدرك كنهه أصحاب النظريات الاجتماعية الوضعية، فيصوغون له "تخفيفاً" يثقله، ومفاهيم ترديه، و"مدنية" تشقيه، وأفكاراً تضله، وعقائد تجعل صدره حرجاً كأنما يصعد في السماء!

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات