أوَ قد قالها ؟ اليقين آخر محطات العاقلين

علي جابر المشنوي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

 

 

بداية الحكاية :

لماذا أمرنا الله بهذا؟ لماذا أمر الله بهذا ولم يأمر بهذا ؟ لم أقتنع بهذا الحكم الشرعي! عقلي لم يستوعبه! وكالعادة فإن هذه الدعاوى تحضر مُتلبسة برداء العقل رافعة للواء النقد ، مستجيرة بأن ديننا دينُ العقل ، ولأنه دينُ العقل ، فإن أصحاب هذه الدعاوى يأخذون كل الأمور جملة بلا تفريق ، فيعرضونها على " أذواقهم" ثم ما قبلته أذواقهم قبلوه وما رفضته ردوه..!

(1)

في صبيحة يوم في مكة المكرمة ، التقى النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المشركين ، فحدثهم بأنه أُسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عاد من ليلته! التقط المشركون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقوا إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه مهرولين ظانين أن هذه القصة التي سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم ستكون كافية في زعزعة إيمان أبي بكر وارتداده عن دينه.

وأمام أبي بكر قال المشركون : إن صاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : إن كان قال فقد صدق وفي رواية : أو قد قالها؟ قالوا نعم! قال: صدق! قال المشركون : تُصدقه في أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس ثم عاد، ونحن نقطع أكباد الإبل شهرًا ذهابًا وشهرًا إيابًا ؟ قال : إني أصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه في خبر السماء. انتهت القصة وهي معروفة مشهورة.

 

لقد قامت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه مئات الأدلة على وجود الله جل وعلا ، ثم قامت عنده مئات الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مرسولٌ من عند الله يأتيه الوحي ، فآمن به. لقد استخدم أبو بكر رضي الله عنه العقل والفطرة في الإيمان بهذين الأصلين ثم آمن وبعد أن آمن وجب التسليم. التسليم لهذا الرجل الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ولهذا فإن أبابكر بنقاشه السابق للمشركين قد أثبت أنه المستمسك بالعقل حقاً وأنهم المهملون للعقل أو المنكرون لما تأمرهم به عقولهم. فإن المشركين لو عقلوا حقاً لما أتوا إليه ليردوه عن دينه بذكرهم لحديث الإسراء مع علمهم بأنه يؤمن بما هو أكبر منه ، فمن قامت عنده الأدلة الواضحات الصادقات البينات المتعاضدات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم و أنه يأتيه الوحي من السماء ، لن يتردد في الإيمان بما هو أدنى من ذلك كالإسراء والمعراج ، فالإيمان بما هو أعلى مقتضٍ للإيمان بما هو أدنى من باب أولى! ، ومثل هذا قصة المُشرك الذي يؤمن بأن الله خلقه ثم يسأل : من يُحيي العظام وهي رميم؟ فكان الرد الإلهي عليه بذات الحجة : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلقٍ عليم. فهذا المُشرك يزعم التعقل والفهم وحسن الجدال والمناظرة لكن العقلاء يجمعون على غبائه ، لماذا ؟ لأنه يؤمن بأن الله خلقه أول مرة! والإيمان بأنه خُلق من لا شيء ابتداء موجبٌ للتسليم بإمكانية إعادة هذا الخلق مرة أخرى ، وذلك لأن خلق الشيء ابتداء سيكون أدعى للصعوبة من إعادة خلقه مرة أخرى ، فإيمان هذا المُشرك بالأصعب يوجبُ إيمانه بالأسهل من باب أولى ، والعقول على ذلك متفقة.

(2)

ثم إن أبابكر رضي الله عنه وأرضاه لم يقل مباشرة : صدق! وإنما قال : إن كان قالها فقد صدق! لماذا ؟ لأن حصول مثل هذا الشيء لا يُصدق من كلُ أحدٍ لغرابته ، وإنما يُصدقُ إذا ثبت عندنا صدق قائله ، وقد ثبت عند أبي بكر رضي الله عنه صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به ، فجاءت إجابته مُقترنة بإن الشرطية : إن كان قالها فقد صدق ، وهذا كمال العقل وكمال اليقين وكمال الإيمان المبني على الأدلة العقلية والفطرية.

ونحن قد قامت عندنا  الأدلة على أن لهذا الكون خالقٌ ومُدبرٌ ، ثم قامت عندنا الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به ، وهذه الأدلة شهد بها المحبون والكارهون ، فهي أدلة متعلقة بشخصه وبسيرته ، وبالآيات التي جاء بها والمعجزات التي معه ، والنبؤات التي حدث بها ثم جاءت بعد سنين كفلق الصبح ولا يزال بعضها يتحقق إلى يومنا هذا ، وليس هذا الموطن موطن  سرد هذه الأدلة بل تُبحث في مظانها.

فلما قامت عندنا هذه الأدلة الموافقة للعقل والفطرة آمنا به ، فلما آمنا به آمنا بكل ما جاء به وسلمنا له.

فقول أحدهم : لم أستوعب مثل هذا! أو لماذا يأمر الله بهذا ؟ هو قولٌ باطلٌ لو تأمله قائله ، لأننا لو عرضنا كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على أذواقنا - التي ندعي أنها عقولنا - فما رضته ارتضيناه وما أبته رددناه لما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به أي ميزة عن غيره من البشر! لأننا عندما نسمع كلام الواحد من الناس فإننا نتأمله فإن رأيناه حقاً قبلناه أو رددناه ، فإن تعاملنا بمثل ذلك مع ما بلغنا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا فائدة من إيماننا إذن ، وسينتفي التسليم ، وستنتفي مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وإن زعمنا غير ذلك ، لأننا بتعاملنا مع ما جاء به كتعاملنا مع ما يقوله الواحد من الناس قد جعلناه واحداً من الناس وجعلنا كلامه ككلامهم حاشاه وهو المُبلغ عن ربه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

(3)

والمعترض باعتراضات على حكم الله تعالى ، هو في الحقيقة قد وضع نفسه في موضع الخالق ثم بدأ يقبل هذا ويرد هذا بذوقه وبما يراه ، ونسي أنه مخلوق مستعبدٌ لربه متبتلٌ إليه ليس له من الأمر شيء إلا أن يقول : سمعنا وأطعنا. والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا.

لو كان الإيمان إنما هو الإيمان بما ترتضيه أنفسنا لآمن كل أحد بل لأصبح الناس كلهم مؤمنون ولا فرق بينهم! بل سيصبحُ الإيمان بلا معنى يميزه عن غيره! لكن الإيمان هو التسليم لله والتسليم لرسوله تبعاً إذ هو المُبلغ عنه(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) هو الخضوع له والخنوع (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ? وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) هو الاستجابة لله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) هو الإيمان بكل شيء جاء به الصادق المصدوق وثبت عنه ، هو الإيمان واليقين بالغيب (( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون(3)

عندما حرم الله الربا قال بعضهم : إنما البيع مثل الربا! أي لا فرق بينهما فكيف يُحلُ البيعُ ويُحرمُ الربا!؟  هذا الاعتراض يتردد اليوم كثيراً لكن في مسائل أخرى ، لكن انظر إلى رد الله على هؤلاء المعترضين (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ? وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) هذا الأمر باختصار ، نعم هناك فروق بين الربا وبين البيع ، لكن الله سبحانه وتعالى ذكر الفرق الأهم للمؤمن المُسلم لحكم ربه وهو : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. هذا هو الفرق الأهم الذي إن ثبت عندنا سلمنا به. فإن حرم الله شيئاً قلنا سمعنا وأطعنا ، لماذا؟ لأن الله حرمه. وأما ما وراء ذلك من العلل والحكم فلا مانع من بحثها والتأمل فيها وتجليتها إلا أن خفاءها لا يعني بحالٍ رد ما قضى به الله وأمر. ثم قال الله تعالى بعد ذلك (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ? وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ? هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي من بلغه نهي الله عن التعامل بالربا فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد إلى ذلك بعد أن علم بالنهي فالعقاب مصيره المُستحق.

خاتمة :

في رحلة طلب الحق ؛ اليقينُ هو آخر محطات العاقلين ، إذ ساقتهم العقول والفطر بما رأته من الأدلة المتعاضدة إلى الإيمان بهذا الدين القويم ثم التسليم له بيقين فيما لا تدركه عقولهم وأفهامهم أو لا ترغبه أهواؤهم وشهواتهم ، وأما المتخيرون ما يعجبهم من الحق بعد أن عرفوه ، فهم أهل الأهواء وأهل الكِبرِ وإن تلبسوا لباس العقل.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات