العجلة المحمودة

عامر الهوشان

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

 

 

كنت أستمع لخطيب الجمعة يوما وهو يتحدث عن الإنفاق في سبيل الله وفضائل الصدقة على الفقراء والمساكين و.... الخ، فنويت أن أتصدق بمبلغ معلوم لصنف من الأصناف التي تجوز عليهم الصدقة حين أخرج من المسجد، ولكني لم أترجم ما نويته في قلبي إلى فعل وعمل على عجل، بل ما زلت أتريث فيه وأتمهل وأسوّف وأؤجل حتى انقضت أيام وأسابيع دون أن تصل تلك الصدقة المنوية إلى أهلها وأصحابها .

 

قلت لصديقي بعد أن روى لي قصته: لو استعجلت تنفيذ ما نويت فور خروجك من المسجد لكان خيرا لك، فالعجلة في أعمال البر وأبواب الخير محمودة، بينما الاناة في مثل هذه الفضائل والتمهل والتريث غير مرغوبة .

 

ليس ما جرى مع صديقي سوى نموذج ومثال لعشرات ومئات القصص المشابهة، فكثيرا ما ينوي أحدنا القيام بعمل من أعمل البر بعد ان يستمع لموعظة مؤثرة أو يقرأ مقالا مميزا أو قصة محفزة، إلا أنه لا يسرع في تنفيذ ما نواه، ولا يتعجل في تحقيقه، فإذا الأيام والليالي تمر وتتوالى، وإذا بالخير الذي نواه لم يتجاوز حدود نفسه وقلبه .

 

لا شك أن الأصل في الأناة والتريث هو الحسن، وأن الأصل في العجلة والاستعجال هو الذم، فقد جاء ذكر العجلة والاستعجال والتعجل في القرآن الكريم في معرض الذم، قال تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) الأنبياء/37، وقال تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) الإسراء/11 .....

 

إلا أن هذه القاعدة الأخلاقية ليست على العموم، فهناك بعض الاستثناءات التي تجعل من العجلة في بعض الأمور والمواقف خلقا محمودا، بينما التريث فيها والتمهل أمرا مذموما غير محمود، ومن هنا قسم العلماء العجلة إلى مذمومة ومحمودة .

 

ولعل أهم أمثلة العجلة المحمودة هي الاستعجال في التوبة والإنابة اإلى الله تعالى، فموضوع الإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وإعلان العودة إلى الله تعالى بالندم على ما فات والعزم على عدم العودة إلى طريق الموبقات، والمبادرة إلى فعل الطاعات واستبدال السئات بالحسنات .....لا يحتمل أي تأخير أو تأجيل .

 

قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران/133، وقال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) النساء/17، وقال تعالى: (.....وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور/31 .

 

ومن المعلوم أن هناك اتفاق بين العلماء على أن التوبة تجب على الفور، حيث إنها من أصول وقواعد الإسلام الهامة، ولأن الإنسان لا يعلم ما يعرض له في حياته من الآفات والموت ونحو ذلك .

 

قال ابن القيم رحمه الله: المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة، وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده: أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة، ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم . مدارج السالكين 1/272

 

ليست العجلة محمودة في باب التوبة والإنابة إلى الله فحسب، بل هي كذلك في جميع أبواب الخير وأعمال البر، وقد شاع بين الناس المثل القائل: "خير البر عاجله"، وهو مثل يستشهدون به على استعجال الخير .

 

فمن نوى التصدق بمال أو الإنفاق على مسكين أو إعالة أسرة بائسة أو كفالة يتيم أو التبرع بمبلغ من المال لبناء مسجد أو ...... فليبادر إلى تنفيذ ما نوى وليتعجل في ترجمة ما عزم عليه قبل أن يصارعه الشيطان على نيته تلك، ويحول بينه وبين الأجر العظيم الذي ينتظره إن هو فعل ما نواه  .

 

والحقيقة أن التجربة أثبتت أن تعجل المسلم في تنفيذ ما نوى من الخير والإسراع بإنجاز ما عزم عليه من البر يجعله في مأمن من وساوس الشيطان ومكائده التي لا تكاد تنتهي إن هو لم يفعل ذلك، فتارة يذكره بأولاده الذين يحتاجون ماله، وأخرى يخوفه من مصائب الدنيا ونوائب الدهر، وليس بغريب على الشيطان أن يذكره - في سبيل منعه من استعجال تنفيذ ما نواه من الخير - بآية أو حديث تتناول حق الورثة بماله، و وجوب أن يذرهم من بعده أغنياء ......الخ .

 

والغريب في هذا الزمان هو طريقة تعامل بعض المسلمين مع "العجلة والاستعجال"، حيث ترى بعضهم يستعجل في مسائل أمر الإسلام فيها بالتأني والتمهل والتريث، بينما يتمهل ويتريث ويتأنى في أمور طلب دين الله الحق فيها العجلة والاستعجال !!!

 

فتجد أحدهم مثلا: يستعجل في تصديق كلام أحدهم عن أخيه المسلم دون تثبت كما أمر الله تعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات/6، بينما الواجب حسب الأمر الإلهي التريث والتمهل حتى يتثبت ويتأكد من صدق ما نقل إليه من كذبه .........!!

 

بينما تراه يتمهل ويتأنى ويتريث في إنفاق مال في سبيل الله نواه، أو في بر أو خير عزم عليه، أو في أداء فريضة الحج رغم توفر الاستطاعة المادية والمعنوية، أو في أداء الحقوق لأصحابها، أو في كتابة وصيته أو ....... الخ .

 

وعلاج مثل هذه الحالة يكمن في الالتزام بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في موضوع العجلة والتأني، و وضع كل منهما ضمن سياقها وموضعها الصحيح، فما أمر الإسلام العجلة فيه واعتبره من النوع المحمود عجلناه، وما طلب منا التريث والتأني فيه التزمناه .

              

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات