نخبة العالم الإسلامي وعالم الأشياء

محمد الأمين مقراوي الوغليسي - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

 

النخبة والنخب كلمات تتردد على مسامعنا يوميا، ونلتقي بها كثيرا عند قراءاتنا لمختلف المصنفات الفكرية والمؤلفات الإنسانية، ويوهم هذا الزخم الكبير الذي يتزاحم تارة في أعيننا وتارة في أسماعنا بوجود نخب حقيقية،  فاعلة تؤدي دورها الفكري والاجتماعي المنوط بها في مختلف مؤسسات المجتمع وعلى شتى المستويات، ابتداء ً من توجيه مسارات المجتمع، وترشيد الحاضر إلى استشراف المستقبل ومرافقة الأمة في أحلامها وفي مشاريعها، ولكن الناظر في واقعنا الحالي يدرك أن ما يتصور عن النخبة بعيد كل البعد عن الحقيقة التي.

 

وفي مثل هذه المواضيع والمواضع نحتاج إلى أن يكون أسلوب الخطاب مباشرا وواضحا، ولا نحتاج إلى المصطلحات الأكاديمية أو اللغة الرسمية؛ لأن الخطاب هنا يتوجه إلى إيقاظ إنسانية هذه الفئة، التي يحدد تفاعلها مع الواقع مصير ملايين البشر، فإن كانوا في المستوى تحرك قطار النهضة والبناء، وتزينت الحياة بالعدالة والكرامة، ونال المجتمع حقوقه، وإن كانت النخبة دون المستوى، تسببت بتقاعسها عن البذل، وتكاسلها عن التلبس بمعاني الرسالية في تغوّل الظلم، وتمكن أهل الشر من معاقد الحياة، وعانت المجتمعات، وهذا الذي يغلب على هذه الفئة اليوم.

 

النخب والانفصام عن الواقع:

 

فغالبية النخب المعاصرة خامدة الهمة، مقصرة في واجباتها الكبرى، والمتمثلة أساسا في الالتحام بالواقع، والتشابك مع كل تعقيداته، والتلبس بمواقع الفاعلية الاجتماعية، بل إن الذي يثير الشك والريبة هو انزواء غالبية النخب في مواقع لا محل لها من الإعراب إذا قورنت بواجب الوقت وفروض المرحلة التي تعيشها أمتنا، حيث يغرق الكثير منها في زاوية التنظير لقضايا لا طائل من وراءها، ولا يبنى عليها عمل، بل إن علمها داخل هذه الزاوية الحادة أدى في غالب الأحيان إلى إشغال مجموع الأمة بمسائل لا تحتل حتى مرتبة التحسينيات بالمقارنة مع ضرورات المرحلة التي تعيشها الأمة، فهي ضرورات مهملة، وإن جرت محاولات لمعالجتها فإنه تقع عادة في فخ السطحية والترقيع والتقصير.

 

النخب والأبراج العاجية:

 

وعند البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انفصام النخب عن واقع الأمة، فإننا نصطدم بحقائق مرعبة، يدرك المتأمل فيها الخطورة التي تعيشها أمتنا في ظلّ فقدانها لطاقتها التوجيهية، حيث يأنف الكثير ممن يحسبون على نخبة المجتمع عن النزول للواقع، الذي يعد محل التفاعلات الاجتماعية المختلفة  أفقيا وعموديا، باسم التعالي على العامة تارة، وباسم الانشغال بالتراث تارة، وباسم الأكاديمية والعلمية  تارة وباسم الأستاذية والمشيخة تارة أخرى، وقد صدق فيهم قول نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-: "ما ذئبان جائعان ضاريان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب الشرف والمال لدين المؤمن".

 

النخب بين الأفكار الميتة والأفكار القاتلة:

 

ويؤكد ما سبق أن نخبنا قد وقعت ضحية لنوعين من الأفكار:

 

النوع الأول: وهي الأفكار الميتة حيث ترى أن الكثير من القضايا والمسائل لا تستحق المشاركة أو الاهتمام أصلا؛ لأنها قضايا مصنفة -حسب هذا النوع من النخب- ضمن المسائل التافهة أو ضمن القشور العلمية السطحية حسب ظنهم، وبالتالي فإنهم يرون أن الاهتمام بهذا المجال من الواقع غير مقبول، باعتباره يستوعب الأفكار الميتة، والتي لن تلد إلا ميتا حسبهم دائما.

 

والنوع الثاني: هو الأفكار القاتلة والتي تعني العجز أمام المسائل العظيمة التي تحتاج همما تناطح الجبال، حيث تستسلم النخب أمام القضايا المصيرية و المسائل الكبرى بحجج واهية، أهمها أن الخوض فيها مستحيل، أو أن الصعوبة المحيطة بها أكبر من قدراتهم على ممارسة النحت والتفتيت الفكري من أجل توجيهها واستغلالها وترشيدها.

 

وبالتالي تضيع نخبنا بين ما تراه سهلا سطحيا لا يستحق الالتفات إليه، وبين ما تراه صعبا عظيما مهيبا لا تود الاقتراب منه، ويتحدث القرآن الكريم عن هذه النظرة السطحية التي يتبناها هذا الصنف، يقول الله تعالى: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا".

 

ويرجع القرآن الكريم سبب قعود وانحراف هؤلاء عن المنهج الرباني في التعاطي مع شؤون الحياة- وتركهم واجباتهم، إلى اغترارهم بأنفسهم، و اعتمادهم غالبا على عقولهم وذكائهم، وظنهم بأنفسهم خيرا، والاستناد إلى الهوى في بناء تصوراتهم عن الواجبات، أو إصدار أحكامهم وفق منهج التشهي، ما جعل بصائرهم تعمى عن

 

النخبة ومصدر الهداية:

 

لا يمكن للمسلم أن يكون موفقا النظر والتفكير في شؤون الحياة الصغرى والكبرى إلا إذا اعتقد أن مصدر التوفيق والسداد هو خالق الكون ومدبر شؤون، وهذه حقيقة ربانية خالدة، يحث القرآن الكريم النخبة على استحضارها، والتمسك بها، وتعليمها للناس، يقول الله تعالى: "قل إن هدى الله هو الهدى"، فكل من يتصور إمكانية الاهتداء دون توفيق الله، ودون الامتثال إلى أوامره، يوكل إلى نفسه، فيضل في معرفة الحق في مسائل الحياة، وتضل مواقفه وتنحرف، وقد تضرّ به وبأمته؛ ولذلك وجب التذكير دائما بأن اعتماد المسلم على ما يعتقد أنه كاف للتصدي لقضايا الحياة هو مصدر غفلته الحضارية وبعده عن الرسالية، فالقصور والمحدودية سمة البشر، ولا يمكن أن يقفز الإنسان على هذه الحقيقة، وإن من يدعي أن عقله وفكره كاف لفهم كل أمور الحياة، واستشراف المستقبل، يكون كمن يريد وضع البحر العظيم في دلو من الدلاء.

 

نخبهم ونخبنا إلى متى؟

 

لو أجرينا مقارنة بسيطة بين النخب الغربية وبين نخب العالم الإسلامي لأذهلتنا النتائج التي نتوصل إليها، فنخبهم تدور حيث يدور الواقع المتجدد، بل إن النخبة الغربية تعتبر الإنسان القضية المركزية التي تدور حولها المشاريع الغربية، فالإنسان الغربي مركز الاهتمام، وعليه تبنى المشاريع والأطروحات؛ لذلك نجد المدخل الحقوقي والفكري والسياسي كله في خدمة الإنسان الغربي، بينما نجد العكس في عالمنا العربي والإسلامي، حيث يعد عالم الأشياء المركز الذي تدور عليه اهتمامات مثقفينا ونخبنا، ونعني بذلك انشغالهم بتحصيل المكاسب الدنيوية، وجعلها محور الشغف الأول والأخير، وتغييب قيم الآخرة، حتى يحق قول الله تعالى فيهم: "نسوا الله فنسيهم"، فيوكلون إلى أنفسهم حتى ينقلب الواحد فيهم على قيم الحق والصلاح، ويتلبسون خصال الشر والحرص والأنانية، حتى يحق فيهم قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة  إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش".

 

نخبة أم آغاوات وباشاوات؟

 

إن الواقع يظهر اليوم أن نخبة –الغالبية- العالم العربي والإسلامي تهرول في كل الاتجاهات المؤدية للغنى والثروة والجاه والسيادة، وتنكص على أعقابها كل ما برزت إليها مشاهد التحديات الداخلية والخارجية للأمة، يجتهدون في جعل فكرهم الوسيلة التي بها ينالون الحظوة والجاه، والنفوذ والسلطة، والمال والسيادة بين الناس، ويسخرون كل ما يجدونه في طريقهم لمصالحهم الضيقة، وحاديهم في ذلك فقه المصلحة وفقه التنازلات والمذلات، الذي يجتهدون في تبريره وصبغه بصبغة ظاهرها الخير وباطنها المصلحة الشخصية الضيقة، حتى يصير الواحد فيهم منكرا للمعروف ومنظرا للباطل، والله المستعان.

 

ماذا خسرنا بانحراف نخبتنا؟

 

إن الأمة دفعت وتدفع أثمان باهظة بترك النخبة لمراكزها الحقيقية، وانشغالها بترهات الأمور، والسعي لمكاسب كانت ابتداءً تبعية ثم صارت مع الوقت هي المقصودة أصالة، وأقل ضريبة تدفعها الأمة اليوم -جراء هذا الانقلاب الخطير في قيم المثقف والنخبة- أن دعاة الانحراف قد تمكنوا فعلا من إشاعة بضاعة الفساد والإفساد، والترويج لقيم مناهضة للقيم الإسلامية الراقية، مما خلق واقعا مصادما لما يجب أن يكون عليه المجتمع الإسلامي، حيث صارت المادية السّمة الأبرز في حياة المجتمع الإسلامي رغم وجود نصوص الوحيين بين يديه، وصار امتهان الإنسان هو الأصل بدل تكريمه، وتقديس الأشياء جعلها الغاية التي دونها ضرب الرقاب، بدل أن تكون وسيلة حياتية يستعان بها على مآرب العيش، وصارت الأمة تتخبط أمام كل تحد وعاجزة عن مقارعة التهديدات الحضارية المسمومة، حتى غدت كاليتيم الذي لا يعرف سبيلا إلى أخذ حقه من المفسدين.

 

النخبة القادمة:

 

لقد أثبتت الأيام أن الأمة تمرض ولا تموت، وأنها أمة ولادة لم تعرف العقم قط، أمة تتعثر ولا تسقط؛ لذلك فإن الأمل في الله كبير بعوننا على إحياء تلك القيم الأصيلة، التي تربت عليها النخب المسلمة التي صنعت أمجادا خالدة، وسطرت بسيرتها أروع الأمثلة، وأنبل النماذج، إن أملنا كبير في رجال القدر الذين يسخرهم الله تعالى لإحياء موات الأمة، وتجديد دينها، فرسان بعث الأمة من سباتها ورقادها، الذين يعيشون في عالم القيم والأفكار، ولا يبيعون مبادئهم مقابل أشياء لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

 

إن سنة الاستبدال ماضية، وليستبدلن الله هؤلاء برجال تسعد بهم أمتنا وتهنأ، والسعيد من أدرك اعوجاجه، وقوَّم مسيره في الدنيا، وجعل خدمة الأمة والسعي في حاجاتها هدفه الأسمى، وغايته الأنبل.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات