التنشئة الاجتماعية وصناعة المشاعر

محمد الأمين مقراوي الوغليسي - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

 

في زمن تاهت فيه البشرية، وانحرفت عن بوصلتها، وفقد الإنسان الكثير من مبررات الحياة، راحت المشاعر الإنسانية تدفع ثمنا فادحا لهذا الطيش البشري، فقد عم الجفاء الأجواء، وضرب القحط النفوس، وتصحّرت القلوب من المعاني، وصارت البشرية عطشى لمشاعر كانت تجسد المعاني الجميلة للحياة، حيث فقد الناس احترامهم لعالم المشاعر، وبات الإنسان لا يفكر إلا في إرضاء نفسه والانتصار لها، مهما كان الثمن.

 

وعندما يتوقف الناس عن احترام مشاعر بعضهم البعض؛ فإن ذلك يعني أن الروابط الاجتماعية تتحول من مصدر للسلام النفسي، والاستقرار الاجتماعي إلى بؤرة للشر والضرر.

 

القابلية لإيذاء الآخر:

 

ولا يمكن أن يتوقف الأمر هنا؛ لأن انحراف المشاعر لا يقف عند مستوى واحد من الشرّ، بل إنّ أخطر نهايات هذا الانحراف هو: انتشار القابلية للإيذاء، حيث تصبح بواعث الشر والكراهية والحقد في الإنسان أقوى ما يحركه، وأشد ما يشغل باله، فالتخوين والهجر والشتم والطعن والتجريح والقذف ظواهر صارت تسيطر على المشهد العام للإنسانية؛ بسبب تمكن الشر من النفوس، ويمكن للشخص -اليوم- التأكد من ذلك من خلال التموقع في شبكات التواصل الاجتماعي؛ ليرى ويدرك حجم البراءة والمثالية التي يُغلف الناس بها ذواتهم وتواجدهم، ثم ليرى بعد ذلك حجم خطاب الكراهية المتسع في صفحاتهم، وحجم البؤس الذي يميز مواقفهم في الواقع.

 

المشاعر في عصر الأنانية:

 

إن هيمنة نفسية الإضرار والإيذاء على أفراد المجتمع جعلت العلاقات الاجتماعية تتحول إلى ما يشبه ساحة حرب حقيقية بين مختلف شرائحه، وداخل مختلف المؤسسات والقطاعات، وأصبح الانتصار الشخصي محصورا في معنى واحد، هو: إلحاق أكبر ضرر معنوي أو جسدي أو مادي بالآخر، ما يجعل سُحُب الانتقام والثأر تمطر حقدا وكراهية، ليكون حصادها في الأخير تمزق النسيج الاجتماعي، وشيوع الطلاق، وتفشي ظاهرة الغدر في المعاملات، وانتشار الخيانة، وغلبة المادية والأنانية على مختلف التعاملات اليومية بين البشر.

 

علاقات بشرية معلبة:

 

أصبحت هشاشة العلاقات الاجتماعية محل استغراب العقلاء والخبراء، الذين لم يتوقعوا أن تصير إلى ما صارت إليه من ضعف وهوان؛ خاصة أن الذين بشروا بعصر التقنية وسرعة التواصل اعتقدوا أن الإنسان سيتوجه نحو تمتين علاقاته بالبشر، أكثر من أي وقت مضى، لكن الحقيقة المرة هي أن هذا التقنية التي سيطرت على العصر الحالي، جعلت المشاعر الإنسانية تشبه الأغذية المعلبة في ردائتها، فهشاشتها وتلاشي حقيقتها هو ما يفسر سرعة انتهاء العلاقات البشرية، بعضها ينتهي بعد يوم، وبعضها ينتهي بعد عشرة دامت سنوات أو عقودا، ولا يكتفي كل طرف بإنهاء علاقاته مع الآخر بأخف الأضرار، بل يسعى إلى تحطميه بالشكل الذي يجعله يعاني طيلة حياته، بسبب إفشاء أسراره، أو فبركة تهم تضر به أو بسمعته أو أسرته، أو الوشاية به لصده عن مشواره، أو لإيقاف إنجازاته، وقد صار ذلك أمرا أسهل من شرب الماء؛ لأن هيمنة نفسية الإيذاء على أفراد المجتمع تجعله كل واحد منهم يجري وراء الفضائح، ويستلذ تعاطيها، في صورة بشعة، تقشعر منها الأرواح البريئة.

 

زمن المشاعر الباردة:

 

مع انتشار ظاهر الإيذاء المتبادل، ظهرت إلى السطح ظاهرة أخرى هي برودة المشاعر الإنسانية وتكلسها، حتى أصبح قلب الإنسان في بعض المواقف أقسى من الحجر، ولعل أبرز أسباب قسوة المشاعر البشرية اليوم -بالإضافة إلى احتلال ظاهرة القابلية لإيذاء الآخر مساحات واسعة في المجتمعات البشرية- اعتياد هذه الإنسان على مشاهد القتل والظلم والفساد والغدر وأخبار الجرائم، فالإنسان يألف الجو العام للمجتمع الذي يعيش فيه، ومع مرور الوقت وتوارد أخبار السوء على قلبه، تموت مشاعره رويدا رويدا، وأول خطوة في هذا المسار المميت هي اتصاف مشاعره بالبرودة القاتلة.

 

المشاعر صناعة:

 

وحتى لا يقف الحديث عند التوصيف، فإن التحليل العلمي لهذه الظواهر الاجتماعية والنفسية أمر مطلوب، فما سبب هذا الطاعون الذي أصاب العواطف البشرية؟

 

في رأيي فإن الإجابة لا تحتاج إلى مستوى كبير من الذكاء، فأسباب انحراف الإنسان ترجع عادة إلى سوء التربية، وغياب التنشئة، وفساد البيئة الحاضنة.

 

فأي فرد لا يملك مشاعر طيبة يكون في النتيجة -غالبا- ضحية لغياب التربية، أو لهشاشة التربية التي تلقاها في الأسرة والمدرسة.

 

فالتربية أمر حساس جدا، ولنوضح ذلك بطريقة مبسطة، يمكننا الإشارة إلى خطورة الأخطاء التي تحدث أثناء ممارسة عملية التربية على الطفل، حيث تشكل هذه الأخطاء مصدرا للانحرافات والتشوهات النفسية، ويؤكد علم النفس الحديث هذه النظرة؛ ويصرح علماؤه أن كل خطأ لم يتم تقويمه من الصغر فإن آثاره السلبية والخطيرة على الإنسان ومحيطه ستستمر في حياته إلى أن يرحل، ولن يرحل إلا بعد أن يكون قد تسبب في دمار هائل داخل محيطه الاجتماعي الصغير والكبير.

 

وأكبر ما يؤثر في المشاعر الإنسانية بصورة إيجابية هي التنشئة السليمة المتزنة؛ التي تؤتي أحاسيس سليمة في حال تمت وفق منهج رباني، ووفق أسلوب مناسب لكل المراحل التي تهدف إلى تنفيذ هذا المنهج.

 

بين تربية النخل وتربية الإنسان:

 

وحتى نكون عمليين نضرب مثالا لعملية إنتاج التربية مشاعر طيبة وأصيلة وإنسانية بالنخلة، التي لا يمكن أن تنشأ وهي فسيلة إلا وفق شروط يمكن وصفها بالحساسة.

 

فالنخلة لا تثمر إلا في ظروف وشروط يعرفها المختصون من أهل الغراسة، وما يهمنا هنا هو شبهها العجيب بالإنسان في أمور كثيرة، وكذلك التربية لا تعطي فردا صاحب مشاعر فاضلة وصادقة إلا وفق شروط معينة، واعتماد مثال النخلة سبب الاشتراك العجيب بينها وبين الإنسان في عدة أمور، جاء في كتاب النبات والحيوان في أن بينهما سبعة قواسم مشتركة ".. فهي ذات جذع منتصب، ومنها الذكر والأنثى، ولا تثمر إلا إذا لقحت، وإذا قطع رأسها ماتت، وإذا تعرض قلبها إلى صدمة قوية هلكت، وكما لا يستطيع الإنسان تعويض سعفه فإن النخلة لا تستطيع تعويض سعفها إن تلف، وكما زين الإنسان بشعره، فإنها مزينة ومغطاة بالليف"، وهذا التشابه يحيلنا إلى معرفة كيف تنمو الفسيلة والعلاقة بين ذلك وبين المشاعر.

 

إن غرس فسائل النخل يحتاج عناية دقيقة، وأي خطأ يعني موتها، وأول شرط في الفسيلة أن تكون مأخوذة من نخلة قوية سليمة، وكذلك المشاعر لا يمكن -إطلاقا- أن تنمو وسط بيئة غير صحية، فإصابة أحد الوالدين بأمراض عصبية ونفسية تؤثر بشكل كبير على استقرار مشاعر الإنسان، وتجعلها مضطربة عادة، وهذا ما يفسر اضطراب مشاعر الكثير من البشر الذين يتواجدون حولنا، لأن نشأتهم كانت وتمت داخل أسرة مضطربة وغير صحيحة.

 

أن تكون الفسيلة ناضجة وجيدة التكوين عمرا ووزنا وطولا، وأن يكون مكان فصلها من أمها نظيفا، ليس به أية جروح، وأن يتم فصلها من طرف مختصين مؤهلين، ونفس الشيء بالنسبة للمشاعر، فإن الأم عادة هي التي تمنحها وتغرسها في الطفل، فإن كانت الأم تعاني من اضطرابات في المشاعر في طفولتها أو شبابها فإنها ستنقلها إلى أولادها غالبا، لأن جروح الشخصية لا يمكن أن تلتئم إلا في حالات نادرة، كما أن فقدان المربي المعرفة والثقافة التربوية، والمهارات يجعله غير مخول لممارستها أصلا، وإن مارسها يؤدي ذلك إلى ظهور أطفال يحملون داخلهم عاهات نفسية كثيرة، ستؤدي إلى تحويل حياة الآخرين إلى جحيم.

 

هل يمكن إنقاذ المشاعر؟

 

علم النفس الحديث يرى عدم إمكانية تقويمها، لأنها جروح غائرة في شخصية الإنسان، ويصبح التغلب عليها نهائيا أمرا شبه مستحيل، غير أن قراءة سير الصحابة الذين عاشوا في الجاهلية يثبت أن الإيمان الصحيح المرتبط بالعلم والفهم السليم، قد يغير الإنسان إلى الأحسن. ومن رأى حياة عمر -رضي الله عنه-قبل الإنسان ومعاملته للمرأة ثم يتفقد سيرته ومشاعره مع زوجته بعد الإسلام سيدرك سر تلك المشاعر الصادقة والحنونة.

 

في الأخير نخلص إلى النتيجة الآتية: عالم المشاعر حساس، يتأثر بالتنشئة سلبا وإيجابا، والبيئة الحالية قاتلة للمشاعر؛ لأنها ضد فطرة الإنسان، خاصة أن التنشئة اليوم هي تتويج لتربية الأسرة والشارع والمدرسة والإعلام، والحل في أسلمة وأخلقة الحياة في كل مجالاتها وحقولها.

 

وعليه فإن الأب والأم مطالبان بالنهل من المعرفة، وممارسة المطالعة المستمرة، ودراسة الإنسان وطباعه، فتربية الذكر تختلف عادة عن تربية الأنثى لاختلافهما في التكوين النفسي والجسدي والطباع، وهذا لا يمكن الإلمام به إلا من خلال المعرفة وتثقيف الذات، كما أن الوالدين مطالبان بقراءة تجارب الأخرين في التربية، واستشارة أطباء علم النفس، خاصة في ما يخص كيفية معالجة المشاكل التي تظهر على الطفل وهو صغير. فلا تربية بلا علم ولا مشاعر صحية دون تربية صحيحة، والطفل أغلى ما يملكه الأبوان لذلك وجب عليهما الاعتناء به الاعتناء التام، حتى لا يكون ضحية لجهلهما وأمراضهما. وليتذكر كل والد أن التربية الحسنة من أعظم أبواب الجنة، والجنة أعظم غاية في حياة المسلم، فدوننا هذا الباب.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات