الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد وعلى آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن الأعوام و الشهور تمضي و الأيام و الساعات تنقضي وهي رأس مال الإنسان في هذه الحياة الفانية، فالسعيد من اغتنمها في الطاعات وأشغلها في إرضاء رب البريات،و الشقي من ضيَّعها في المنكرات وأهدرها في المعاصي والمحرمات.
يقول ابن القيم-رحمه الله–:"السَنةُ شجرة،والشهور فروعها، والأيام أغصانها،والساعات أوراقها،والأنفاس ثمرها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة،ومن كانت في معصية فثمرته حنظل،وإنما يكون الجداد- أوان قطع ثمر النخل- يوم المعاد فعند الجداد يتبين حلو الثمار من مرها،والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة،وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك". الفوائد (ص164)
إن من نعم الله جلَّ جلاله على عبده وتوفيقه أيها الأحبة له أن يُطيل عمره ويُحسن عمله،فيُكثر من التزود مما ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،ومن خذلان العبد وخسارته أن يمدَّ الله في عمره،ويرزقه العافية في جسده ومع هذا يمضي حياته في المعصية و الجري وراء اللذات الفانية،بلا مبالاة ولا اتعاظ بما يحصل حوله،نسأل الله العافية.
فعن أبي بكرة-رضي الله عنه- أن رجلا قال:يا رسول الله أي الناس خير؟،قال :" مَنْ طَالَ عُمُرُهُ،وَحَسُنَ عَمَلُهُ"،قال: فأي الناس شر؟ قال:"مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ".رواه الترمذي(2330)وصححه الشيخ الألباني–رحمه الله-.
قال الطيبي –رحمه الله-:"إن الأوقات و الساعات كرأس المال للتاجر،فينبغي أن يتَّجِرَ فيما يربح فيه،وكلما كان رأس ماله كثيرا كان الربح أكثر،فمن انتفع بعمره بأن حَسُن عملُهُ فقد فاز وأفلح،ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسرانا مبينا". تحفة الأحوذي(6/512)
يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- :"فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسن عمله؛ فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره وحسن عمله، من أجل أن يكون من خير الناس".
وفي هذا دليل على أن مجرد طول العمر ليس خيراً للإنسان إلا إذا أحسن عمله؛ لأنه أحياناً يكون طول العمر شراً للإنسان وضرراً عليه، كما قال الله تبارك وتعالى:(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[آل عمران:178]،فهؤلاء الكفار يملى الله لهم ـ أي يمدهم بالرزق والعافية وطول العمر والبنين والزوجات،لا لخير لهم ولكنه شر لهم ـوالعياذ بالله لأنهم سوف يزدادون بذلك إثماً".شرح رياض الصالحين(2/107)
إن المؤمن ليفرح أشد الفرح عندما يرى كبار السن من المسلمين تَلهج ألسنتهم بقراءة القرآن وذكر الله، و أوقفوا أنفسهم على طاعة الله والزيادة من العبادات والخيرات وأعرضوا عن ملذات الدنيا الفانيات.
وإنه ليحزن أشدَّ الحزن عندما يرى من بلغ الستين أو السبعين أو الثمانين من المسلمين غارقا في المعاصي متلهفًا وراء الدنيا متأثرا بمن هو أصغر منه مقلدا له في منكراته! لا يفكر في الموت وما ذا أعدَّ له و لا في الآخرة وماذا قدم لها، أمدَّ الله في عمره وأمهله،لعله يرجع ويتوب فيغتنم ما بقي من عمره بعد أن ضيع شبابه وأهدر أوقاته،قبل أن لا تكون له حجة
ولا ينفعه الندم، يوم تُنشر الصحف وتُعرض عليه أعماله وأقواله فلا يرى إلا ما قدم،نسأل الله السلامة والعافية.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-:"أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ، حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً".رواه البخاري(6419)
قال الحافظ المناوي -رحمه الله-:"(أعذر الله إلى امرئ) أي سلب عذر ذلك الإنسان فلم يبق له عذرا يعتذر به كأن يقول: لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به،فالهمزة للسلب أو بالغ في العذر إليه عن تعذيبه حيث (أخر أجله) يعني أطاله(حتى بلغ ستين سنة) لأنها قريبة من المعترك وهو سن الإنابة والرجوع وترقب المنية، ومظنة انقضاء الأجل،فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار ولزوم الطاعات، والإقبال على الآخرة بكليته، ثم هذا مجاز من القول،فإن العذر لا يتوجه على الله وإنما يتوجه له على العبد وحقيقة المعنى فيه: أن الله لم يترك له شيئا في الاعتذار يتمسك به: وهذا أصل الإعذار من الحاكم إلى المحكوم عليه وقيل لحكيم: أي شيء أشد؟قال: دنو أجل وسوء عمل".فيض القدير(1/557)
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:"والمعنى أن الله - عز وجل- إذا عمر الإنسان حتى بلغ ستين سنة فقد أقام عليه الحجة، ونفى عنه العذر؛ لأن ستين سنة يبقى الله الإنسان إليها؛ يعرف من آيات الله ما يعرف، ولاسيما إذا كان ناشئاً في بلد إسلامي،لا شك أن هذا يؤدي إلى قطع حجته إذا لاقى الله-عز وجل- لأنه لا عذر له، فلو أنه مثلاً قصر في عمره إلى خمس عشرة سنة،أو عشرين سنة،لكان قد يكون له عذر في أنه لم يتمهل ولم يتدبر الآيات،ولكنه إذا أبقاه إلى ستين سنة، فإنه لا عذر له،قد قامت عليه الحجة،مع أن الحجة تقوم على الإنسان من حين أن يبلغ".شرح رياض الصالحين(2/141)
فيا من أطال الله عمرك وأمدّ بقائك فجاوزت الشهور و السنين ولا تدري متى الرحيل،إن كنت ممن وُّفقت للخيرات فاشكر الله على الفضل الكبير و احمده على الخير الكثير و سله سبحانه الإخلاص والثبات حتى الممات,وإن كنت من أهل التقصير والتفريط،وضاع وقتك فيما لا ينفع!فبادر بالتوبة قبل فوات الأوان فأبوابها ولله الحمد مفتوحة للتائبين،واغتنم ما بقي من حياتك في طاعة ربك وإرضاء خالقك،وسل الله جلَّ وعلا حسن الختام فهو سبحانه لطيف كريم علَّام.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا وإياكم ممن طال عمره وحسُن عمله، وحسُنَت عاقبته وخاتمته، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم