مختصر خطبتي الحرمين 6 شوال 1438هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات:

اقتباس

لقد أثَّر الفِكرُ الذي يدعُو إلى فصلِ الدين عن الحياةِ على كثيرٍ من الناس؛ فأخرَجُوا العبادةَ عن جوانِبِ الحياةِ المُختلفة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفِكريَّة وغيرِها، وصارُوا يرَون أن العبادةَ تُمارَسُ في المسجِد، أما إذا كان في الأعمال الدنيويَّة فلا علاقةَ للدين بذلك. حتى إن بعضَ الناس ينظُرُ إلى الشعائِرِ التعبُّديَّة على أنها هي كلُّ العبادة المطلُوبة مِن المُسلم، وأنه إذا أدَّاها فقد أدَّى كل ما عليه مِن العبادة، ولم يعُد لأحدٍ أن يُطالِبَه بالمزيدِ..

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ فيصل بن جميل غزاوي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "مفهوم العبادة في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن معنى العبادة في دين الله تعالى، وأنها ليسَت مُجرَّد الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ فقط؛ بل هي أشمَلُ مِن ذلك، حتى إنها لتصِلُ إلى المُباحات إن نوَى العبدُ فيها ابتِغاءَ مرضاةِ الله وتحصيلَ الأجرِ.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى-.

 

وأضاف الشيخ: مِن البديهات: أن يعرِفَ كلٌّ منَّا الحِكمةَ التي مِن أجلِها خلقَه الله، لكن ما هي العبادةُ التي أرادَها الله منا؟ وما مفهومُها في الإسلام؟ وهل هو ما يعتقِدُه بعضُ الناس مِن مُجرَّد أداء الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ فقط، وليس لها علاقةٌ بالأخلاق والسلوكيَّات والمُعاملات المُجتمعيَّة؟ قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضَاه مِن الأقوال والأعمال الباطِنة والظاهِرة".

 

وقال حفظه الله: إن غايةَ الوُجود الإنسانيِّ كلِّه محصُورةٌ في العبادة لا تتعدَّاها إلى شيءٍ غيرِها على الإطلاق، بمعنى: أنها تستغرِقُ حياةَ المُسلم جميعَها، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162، 163]. فالإسلامُ هو الحياةُ، فلا بُدَّ أن يشملَ كلَّ مناحِي الحياة، ولا يقتَصِرُ على جانِبٍ دون جانِبٍ.

 

وبِناءً على ذلك؛ يجِبُ أن نُصحِّحَ المفهومَ الخاطِئَ للعبادة الذي يقصُرُها على بعضِ الطاعات والأفعال والفرائِض، وأن يعتَقِدَ المرءُ اعتِقادًا جازِمًا أنه إن عمِلَ أيَّ عملٍ يرضَى الله عنه، ويُخلِصُ فيه النيَّةَ لله - عزَّ وجل -، أنه مأجُورٌ عليه؛ بل إنه عبادةٌ مِن العبادات التي يُتقرَّبُ بها إلى الله، فلا يستَهِينُ بشيءٍ مِن الأعمال صغُرَ أو كَبُر؛ فتبسُّمُك في وجهِ أخيك صَدقةٌ، وإماطةُ الأذَى عن الطريقِ صَدقةٌ.

 

ويندرِجُ في العبادات أبوابٌ مِن الخير كثيرةٌ؛ كالحياء، وحُسن الخُلُق، وحُسن العِشرة، والأُخُوَّة في الله، والصِّدقِ في الحديثِ، والمغفِرَة للآخرين والصَّفح عنهم، والإصلاح بين المُتشاحِنين، إلى غير ذلك مِن التعامُلات والسلُوكيَّات، والعلاقات الاجتماعيَّة.

 

قال وفقه الله: وإذا أرَدنا أن نُجلِّيَ خطأَ مَن يعتَقِدُ تضييقَ نطاقِ العِبادة، فلنَنظُر كم تستغرِقُ هذه الشعائِرُ التعبُّديَّة مِن اليوم والليلة ومِن عُمر الإنسان؛ فالصلاة تأخُذُ جُزءًا مِن اليوم والليلة، والصيامُ شهرٌ واحدٌ مِن السنة، والزكاةُ تكونُ في حقِّ مَن تجِبُ عليه بشُرُوطها مرَّةً في كل عامٍ، والحجُّ لمَن استطاعَ إليه سبِيلًا مرَّةً واحدةً في العُمر يُؤدَّى في أيامٍ قليلةٍ.

 

إذًا فما النِّسبةُ بين الوقتِ الذي تأخُذُه هذه الشعائِرُ وبين عُمر الإنسان؟ إنها نِسبةٌ يسيرةٌ لا تُذكَر؛ فهل يستطيعُ المُسلم أن يقضِيَ واجِبَ العبادة المفرُوضة بالشعائِر التعبُّديَّة، وقد تقرَّرَ أن العِبادة تستغرِقُ حياةَ المُسلم جميعَها؟!

 

وأوضح الشيخ أنه: عندما يتَّسِعُ مفهومُ العبادة في حِسِّ المُسلم يعلَمُ أن الأعمالَ الصالِحةَ عمومًا، والتي لم تُصبَغ بصِبغةٍ تعبُّديَّةٍ بَحتَة يُمكنُ أن تتحوَّل إلى عِبادة، وذلك بإصلاح النيَّة لله تعالى، وابتِغاء مرضاتِه بذلك الفعلِ. بل إن طلَبَ الرِّزقِ والكَسبِ، والسعيَ على النفسِ والرَّعِيَّة مِن العبادات العظيمة التي يُؤجَرُ عليها صاحِبُها، إذا كان مُتَّبِعًا فيه الشرعَ، ناوِيًا مِن ورائِه مقصِدًا شريفًا.

 

وحذر الشيخ من مسلك خطير فقال: لقد أثَّر الفِكرُ الذي يدعُو إلى فصلِ الدين عن الحياةِ على كثيرٍ من الناس؛ فأخرَجُوا العبادةَ عن جوانِبِ الحياةِ المُختلفة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفِكريَّة وغيرِها، وصارُوا يرَون أن العبادةَ تُمارَسُ في المسجِد، أما إذا كان في الأعمال الدنيويَّة فلا علاقةَ للدين بذلك.

 

حتى إن بعضَ الناس ينظُرُ إلى الشعائِرِ التعبُّديَّة على أنها هي كلُّ العبادة المطلُوبة مِن المُسلم، وأنه إذا أدَّاها فقد أدَّى كل ما عليه مِن العبادة، ولم يعُد لأحدٍ أن يُطالِبَه بالمزيدِ، فإذا قامَ أحدٌ بنُصحِه وذكَّرَه بما يجِبُ عليه قال: يا أخي! ماذا تُريدُ منَّا؟! فقد صلَّينا وزكَّينا، وصُمنا وحجَجنا! وهذا مِن أعظم الانحِرافات في تصوُّر مفهُوم العبادة.

 

 

وختم الشيخ خطبته بالحث على الاستقامة على الطاعات بعد رحيل شهر رمضان فقال: فعلينا - عباد الله - أن نبقَى على عبادةِ ربِّنا حتى نلقَاه، وأن نستَقِيمَ على شرعِ الله، مُمتَثِلين أمرَ الله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) [هود: 112]. وقال سُفيانُ الثقَفِيُّ: يا رسولَ الله! قُل لِي في الإسلام قَولًا لا أسأَلُ عنه أحدًا بعدَك، قال: «قُل: آمنتُ بالله فاستَقِم» (رواه مسلم).

 

فعلى المرءِ أن يُواصِلَ سَيرَه إلى ربِّه، ويَصدُقَ في عملِه مع الله، وأن يلتَزِمَ بشرعِه دائمًا، ولا يربِطَ عبادتَه لله بزمنٍ أو مكانٍ أو أشخاصٍ؛ بل يبقَى صادِقًا ثابِتًا على دين الله على كل حالٍ.

 

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستَعِيذُ بالله مِن الحَورِ بعد الكَورِ؛ أي: الرُّجوع مِن الإيمان إلى الكفر، أو مِن الطاعة إلى المعصِية. فحافِظُوا - عباد الله - على أعمالِكم، ولا تُعرِّضُوها للإحباطِ أو الفسادِ، واحرِصُوا على مُداومةِ الطاعاتِ، والاستِمرار في تزكِية النفسِ وتطهيرِها، وأتبِعُوا الحسنةَ بحسنةٍ، والعملَ الصالِحَ بآخر.

 

 

المدينة المنورة:

 

ألقى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الثبات على العبادة بعد رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن الثباتِ والاستِقامةِ على طاعة الله تعالى بعد انقِضاء موسِمِ الخيراتِ شهرِ رمضان، مُوضِّحًا أن أثرَ العبادة لا بُدَّ وأن يظهرَ على حالِ العبدِ بعد رحيلِ رمضان، وأن مِن علاماتِ قَبُول الأعمال الحسنة بعد الحسنة.

 

واستهل فضيلته خطبته بنصح المصلين بتقوى الله تعالى.

 

وأضاف الشيخ: لقد ودَّعنا قبل أيامٍ قليلةٍ شهرًا كريمًا، وموسِمًا عظيمًا مِن مواسِمِ الخير والبركة، كان عامِرًا بالأرباحِ والعطايا والهِبات، والمغفِرةِ والرَّحمات، المشاعِرُ جيَّاشَة، والعيُون فيَّاضة، والقلوبُ مُخبِتةٌ وجِلَة، والجوارِحُ نشِطةٌ مُقبِلة، حِلَقُ الذِّكر ورِياضُ الجِنان، عامِرةٌ بالذِّكر والقرآن.. انقضَى شهرُ رمضان، وطُوِيَت صحائِفُه، وفازَ فيه مَن فازَ، وحُرِمَ فيه مَن حُرِمَ، فيا ليتَ شِعرِي مَن المقبُولُ فنُهنِّئُه، ومَن المردُودُ فنُعزِّيه.

 

وقال حفظه الله: للعبادة أثرٌ في سُلُوك صاحبِها، ومِن علاماتِ قبُولِ الأعمال: تغيُّر الأحوال إلى أحسَنِ حالٍ، وفي المُقابِل فإن مِن علاماتِ الحِرمان وعدمِ القبُولِ: الانتِكاسُ بعد رمضان، وتغيُّرُ الأحوال إلى الأسوَأ، فالمعاصِي يجُرُّ بعضُها بعضًا. فما أحسنَ الحسنةَ بعد السيئةِ تمحُها، وأحسنَ مِنها الحسنةُ بعد الحسنةِ تتلُها، وما أقبَحَ السيئةِ بعد الحسنةِ تمحَقُها وتعفُها، ذنبٌ واحِدٌ بعد التوبةِ أقبَحُ مِن أضعافِه قبلَها. النَّكسةُ أصعَبُ مِن المرضِ وربما أهلَكَت، سَلُوا اللهَ الثباتَ على الطاعاتِ إلى الممات، وتعوَّذُوا به مِن تقلُّب القلوبِ، ومِن الحَورِ بعد الكَورِ. ما أوحشَ ذُلِّ المعصِيَة بعد عزِّ الطاعة! وأفحَشَ فقرَ الطعمِ بعد غِنَى القناعة!

 

وتابع فضيلته: إن الصبرَ على المُداومةِ والاستِقامةِ والثباتِ مِن أعظم القُرُبات؛ فالثباتُ والاستِمرارُ دليلٌ على الإخلاص والقَبُول، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله أدوَمُها، وكان عملُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- دِيمَة. فالثباتَ الثباتَ على الطاعة، والاستِقامةَ الاستِقامةَ على البِرِّ، والمُداومَةَ المُداومَةَ على العمل.

 

أوصى الشيخ المصلين فقال: الحِرصَ الحِرصَ على قَبُول الأعمال، والحذَرَ الحذَرَ مِن الإفلاسِ والزوالِ، ألا وإن مِن الخسارةِ الكُبرَى أن تُسدِيَ لغيرِك أعظمَ ما تحصَّلتَ عليه مِن الحسنات، فذلك هو الإفلاسُ الحقيقيُّ. وإن الاستِهانةَ بمعصِيةِ الله، والتجرُّؤ على حُرُماتِه مِن أعظم أسباب الإفلاسِ والخُسران والضياع والخُذلان. ألا فاستَقيمُوا على طاعةِ ربِّكم، واستَجيبُوا لأمرِه في جميعِ أدوارِ حياتِكم؛ تفوزُوا وتغنَمُوا، وتسعَدُوا تُفلِحُوا.

 

وختم الشيخ خطبته بالحث على المداومة على الطاعة بعد شهر رمضان فقال: الشهورُ كلُّها مواسِمُ عبادةٍ، وإن تفاوَتَت واختلَفت في الفضلِ والوظائِفِ، والعُمرُ كلُّه فُرصةُ عملٍ وطاعةٍ، وكلٌّ يغدُو فبائِعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقها، وكلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلِقَ له. فيا مَن وفَى رمضانَ على أحسَنِ حالٍ، فزانَت مِنه الأقوالُ والأفعالُ! اثبُت ولا تتغيَّرنَّ بعدَه في شوال.

 

ويا مَن سبَقَك القومُ وتخلَّفتَ .. ومضَى أكثرُ العُمر وسوَّفتَ .. وضاعَت عليك فُرصةُ رمضان فما ربِحتَ! هلُمَّ فالأبوابُ لا زالَت مفتُوحة، والتوبةُ مقبُولة، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].

 

وإن مِن سُن الهُدى: صِيامَ ستٍّ مِن شوال؛ فعن أبي أيوب الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن صامَ رمضان ثم أتبَعَه سِتًّا مِن شوال كان كصِيام الدَّهر» (رواه مسلم).

 

فقد جعلَ الله الحسنةَ بعشرةِ أمثالِها؛ فشهرٌ بعشرة أشهُر، وستَّةُ أيامٍ بعد الفِطر بعشرة أضعافِها ستِّين، فتلك تمامُ السنة، ولا بأسَ بصِيامِها مُتتابِعةً أو مُتفرِّقة. فلا يبخَلَنَّ أحدُكم على نفسِه بستَّةِ أيامٍ، لعلَّه أن يُكتَبَ مِمَّن صامَ الدهرَ، وتلك غنِيمةٌ عظيمةٌ تستوجِبُ الحِرصَ والسعيَ والجِدَّ.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات