مختصر خطبتي الحرمين 8 من ربيع الآخر 1438هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

اقتباس

الكيِّسُ يقطعُ من المسافة بصحَّة العزيمة، وعلُوِّ الهِمَّة، وتجريد القَصد وصحَّة النيَّة، مع العمل القليلِ أضعافَ أضعافِ ما يقطعُه الفارِغُ من ذلك مع التعبِ الكثير، والسفَر الشاقِّ؛ فإن العزيمةَ والمحبَّة تُذهِبُ المشقَّة، وتُطيِّبُ السَّيرَ والتقدُّم. والسَّبقُ إلى الله - سبحانه وتعالى - إنما هو بالهِمَم، وصِدق الرَّغبَة والعزيمة، فيتقدَّمُ صاحبُ الهِمَّة مع سُكُونه صاحبَ العمل الكثير بمراحِل؛ فالسَّيرُ سَيرُ القلوب، والسَّبْقُ سَبْقُ الهِمَم.

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ فيصل بن جميل غزاوي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الهمم العالية ومنزلة السابقين"، والتي تحدَّث فيها عن علو الهمَّة وأنه ينبغي للعبد أن تعلُو همَّتُه، ويرتفع طموحُه في سَيره إلى الله تعالى بتحصيل أعلى الغايات وأرفعها قَدرًا، مُبيِّنًا عظمةَ السابِقين وثناء الله تعالى عليهم في كتابِه في غير موضعٍ، كما حثَّ المُسلمين على الاتِّصاف بصِفاتهم لينالُوا درجاتهم عند الله.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

وأضاف الشيخ: إن من الخِصال الجَميلَة، والصفات الحَميدة، والأخلاق الرَّفيعَة: الهِمَّةَ العالِية. والناسُ إنما تعلُو أقدارُهم، وترتفعُ منازِلُهم بحسَب علُوِّ هِمَمهم، وشريف مقاصِدِهم. والمُؤمنُ العاقلُ الرَّشيد يحرِصُ على ما ينفَعُه، وما فيه خيرُه وصلاحُه، ويسعَى في طلبِ الرُّتَب العُليَا في الخير، والسَّبْقِ إلى مرضَاةِ الله تعالى، ومن لم يطلُبِ الكمالَ بقِيَ في النقص، ومن لم تكُن له غايةٌ سامِيَة قصَّر في السَّعيِ، وتوانَى في العمل.

 

وقد أخبَرَ الله - سبحانه - في كتابِه المُبين عن فِئةٍ مُؤمنةٍ مُبارَكة علَت نفوسُ أصحابها، وسمَت هِمَمهم، وقوِيَت عزائِمُهم، ذكَرَهم الله مُشِيدًا بهم، مُثنِيًا عليهم بقولِه: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة: 10، 11]. والآيةُ أعمُّ من ذلك وأشمَلُ؛ فالسابِقُون هم الذين سبَقَت لهم السعادة، وكانت أعمالُهم في الدنيا سَبقًا إلى التوبةِ، وأعمالِ البرِّ، وتركِ المعاصِي، وهم المُبادِرُون إلى فعلِ الخيرات، كما قال - سبحانه -: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].

 

وقال وفقه الله: فمن سابَقَ في هذه الدنيا، وسبَقَ إلى فعلِ الخير كان في الآخرة من السابِقِين إلى الكرامَة، قال تعالى: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]. والسابِقُون في الآخرة إلى الرِّضوان والجناتِ هم السابِقُون في الدنيا إلى الخيرات والطاعات، وعلى قَدر السَّبقِ هنا يكون السَّبقُ هناك؛ فإن الجزاءَ من جِنسِ العمل.

 

وتابع الشيخ: والسابِقُون هم الذين صدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عليه، وصبَرُوا على ما أصابَهم، وثبَتُوا على الدين، وكانوا دُعاةً للحقِّ والخير. والسابِقُون هم أصحابُ مرتبةِ الإحسان، والسابِقُون هم الذين وحَّدُوا اللهَ، ولم يقَع في عملِهم شِركٌ، ثم أدَّوا الفرائِضَ والواجِبات، وزادَ نشاطُهم فأدَّوا النوافِلَ والمُستحبَّات زيادةً على الواجِبات، وسارَعُوا إلى مرضَاة الله بأداء النوافِلِ، وترَكُوا المُحرَّمات واجتنَبُوها، وزادُوا على ذلك فترَكُوا المكرُوهات كراهةَ التنزيه، وترَكُوا أيضًا فُضُولَ المُباحات فلم يتوسَّعُوا فيها؛ خشيةَ الوقوعِ في المكرُوهات والمُحرَّمات.

 

وأشار الشيخ إلى أنه مما يُلحَظُ في هذه الآيات: أن الله - جلَّ ثناؤُه - لم يذكُر الشيءَ الذي سبَقَ إليه هؤلاء السابِقُون؛ فلم يقُل: سبَقُوا إلى كذا، ولا إلى كذا، وهذا - كما ذكَرَ بعضُ العُلماء - لقَصد جعل وصفِ (السابِقُون) بمنزلَةِ اللَّقَبِ لهم، وليُفيدَ العُموم؛ أي: أنهم سابِقُون فيكل ميدانٍ تتسابَقُ إليه النفوسُ الزكيَّة، كقولِه تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].

 

وبيَّن فضيلته أن السابِقين من هذه الأمة في الصَّدر الأول أكثرُ من مُتأخِّريها، قال الله - عز وجل -: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة: 13، 14]، وهذا يدلُّ على فضلِ صَدر هذه الأمة في الجُملة؛ لكَون المُقرَّبين من الأولين أكثرَ من المُتأخِّرين.

 

أضاف الشيخ: وأما إن سألَ أحدُنا عن إمكان الوصولِ إلى منازِلِ أولئك المُقرَّبين، والسَّبيل إلى اللِّحاق برَكبِهم، فإن ذلك يكونُ لمن وفَّقَه الله تعالى للعمل بعملِهم، والسَّير على نهجِهم في الاعتِقادات والأقوال والأعمال، والاتِّصاف بصِفاتهم الحميدة. وقد بيَّن الله تعالى فضلَ السابِقين والذين اتَّبَعوهم بالإيمانِ والطاعةِ بقولِه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]. فصرَّح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتَّبَعُوا السابِقِين الأولين من المُهاجِرين والأنصار بإحسانٍ، أنهم داخِلُون معهم في رِضوانِ الله تعالى، والوَعد بالخُلُود في الجناتِ والفوز العظيم.

 

وأضاف الشيخ: ما أعظمَ أن يعملَ المرءُ بعملِ أولئك الأخيار الذين وصَفَهم الله تعالى بقولِه: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]؛ أي: يُسارِعون في الطاعات والعبادات كي ينالُوا بذلك أعلَى الدرجات والغُرُفات. فسابِقْ - عبدَ الله - إلى ما ينفَعُك، ونافِسْ في طلَبِ العُلا. قال وُهيبُ بن الوَرد: "إن استطعتَ ألا يسبِقَك إلى الله أحدٌ فافعَل". وقال الحَسَن: "من نافسَكَ في دينِك فنافِسْه، ومن نافسَكَ في دُنياه فألقِها في نَحرِه".

 

وقال حفظه الله: ومن البشائِر التي يُبشَّرُ بها العامِلُون: ما ثبَتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «في كل قَرنٍ من أمَّتي سابِقُون» (رواه أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -، وهو حديثٌ حسنٌ). وفي هذا حثٌّ للمرءِ وهو في سَيره إلى مولاه أن يشحَذَ هِمَّتَه، ويطلُبَ العوالِي، وينشُدَ المعالِي، ويسعَى لها سعيَها، وفي المُقابِلِ لا يرضَى بالدُّون ويستسلِمُ للضَّعف والهُون. قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -: "اعلَم أن العبدَ إنما يقطعُ منازِلَ السَّير إلى الله بقلبِه وهِمَّته لا ببدنِه". والتقوَى في الحقيقةِ تقوَى القلوب لا تقوَى الجوارِح، قال الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].

 

وقال حفظه الله: فالكيِّسُ يقطعُ من المسافة بصحَّة العزيمة، وعلُوِّ الهِمَّة، وتجريد القَصد وصحَّة النيَّة، مع العمل القليلِ أضعافَ أضعافِ ما يقطعُه الفارِغُ من ذلك مع التعبِ الكثير، والسفَر الشاقِّ؛ فإن العزيمةَ والمحبَّة تُذهِبُ المشقَّة، وتُطيِّبُ السَّيرَ والتقدُّم. والسَّبقُ إلى الله - سبحانه وتعالى - إنما هو بالهِمَم، وصِدق الرَّغبَة والعزيمة، فيتقدَّمُ صاحبُ الهِمَّة مع سُكُونه صاحبَ العمل الكثير بمراحِل؛ فالسَّيرُ سَيرُ القلوب، والسَّبْقُ سَبْقُ الهِمَم.

 

وختم الشيخ خطبته ببيان سمات وصفات المسارعين في الخيرات فقال: أصحابُ الهِمَّة العالِية يجُودُون بالنفسِ والنَّفيسِ في سبيلِ تحصيل غايتِهم، وتحقيق بُغيَتهم؛ لأنهم يعلَمون أن المكارِمَ منُوطةٌ بالمكارِه، وأن المصالِحَ والخيرات واللذَّات والكمالات كلَّها لا تُنالُ إلا بحظٍّ من المشقَّة، ولا يُعبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التَّعب.

 

والمُؤمنون طُلاَّبُ المراتِبِ العُلَى يطمَحُون إلى أعلى ما في الجنَّة، وهو الفردوسُ الأعلى، وهذا هو الذي أرشدَنا إليه رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - إذا سألنا اللهَ الجنةَ أن نسألَه الفردوسَ. وهذا يدُلُّ على أن الفردوس فوق جميع الجِنان. ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - تعليمًا للأمة، وتعظيمًا للهِمَّة: «فإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفردوسَ».

 

إن السائِرَ على طريق السابِقِين عبدٌ أبِيٌّ فريدٌ، يعلَمُ أن الخيرية لا تنقطِعُ في هذه الأمة، وهو مُتَّبِعٌ لمنهج الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، ومُتمسِّكٌ بدينِه، وقلبُه مُعلَّقٌ بالآخرة، لا يعيشُ من أجلِ نفسِه، ولا من أجلِ شهوتِه ولا من أجل رغَبَاته، بل يعيشُ من أجل دينِه ومن أجلِ أمَّته، يحمِلُ همَّ الدين، ويعملُ ما بوُسعِه من أجل ُصرتِه، ولا ييأَسُ لِما يحِلُّ بالأمة من المصائِبِ والنَّكَبَات؛ بل هو صامِدٌ ثابتٌ مُتفائِل، مُتيقِّنٌ أن النصرَ والتمكينَ لهذا الدين، وأن الغلَبَة والعاقبةَ لأولياء الله المُتقين.

 

 

المدينة المنورة:

 

ألقى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان- حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الإيمان وفتنة الابتلاء"، والتي تحدَّث فيها عن الابتِلاء وأنه سُنَّةٌ من سُنن الله تعالى في خلقِه، وأنه مُقتضًى من مُقتضيَات حكمته - سبحانه - في الصراع بين الحقِّ والباطِلِ، كما ذكرَ بعضَ النماذج من بثِّ الطمأنينة وبعث روح الأمل في النفوس من قِبَل الأنبياء في ظروفٍ حرِجة، كما عرَّج على غزوتَي بدر والأحزاب وما وقعَ للمُسلمين فيهما من شدَّةٍ وبلاءٍ، ومع ذلك لم يجِدُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلا مُطمئنًا لهم، ومُبشِّرًا لهم بالنصر والتمكين والفتح المُبين.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقُوا الله - عباد الله - وأطيعُوه، وإياكم واليأسَ من روحِه - سبحانه -، أو القنُوطَ من رحمته؛ فإنه لا ييأَسُ من روح الله إلا القومُ الكافِرون.

 

وأضاف الشيخ: إن الامتِحان والابتِلاء سُنَّةٌ من سُننِ الله - سبحانه - في هذا الكون، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ) [الملك: 1]. ومُقتضَى من مُقتضَياتِ حكمتِه - عزَّ وجل - في الصِّراعِ بين الحق والباطِل؛ للتمييز بين الصادقين والكاذبين، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2، 3].

 

وهو تمحيصٌ واختبارٌ لقياس مدَى قوةِ ورسُوخِ الإيمان واليقين، وتصفِيةٌ للمُندسِّين في صفوف المؤمنين، (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179]. ومنهجٌ تربويٌّ يُنقِذُ الله به من كُتِبَ له حظٌّ من الهداية، فيستيقِظَ من غفلَتِه، ويُقبِلَ على ربِّه، ويعودَ إلى دينه.

 

وقال حفظه الله: وفي خِضَمِّ الامتحانات والابتلاءات، قد يعظُم الخَطبُ، ويشتدُّ الكَربُ، ويتأخرُ الفَرَج؛ حتى تُخيِّمَ ظنونُ اليأس والقنُوط، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) [البقرة: 214]. وهنا يتحتَّمُ اللَّجَأُ إلى اللهِ وحسنُ الظن به، فعنده من كل ضِيقٍ مخرَجًا، ومن كل هَمٍّ فرَجًا، وهو عند حُسنِ ظنِّ عبادِه المؤمنين، فلا يُخيِّبُ من أحسَنَ الظنَّ به.

 

وأكد فضيلته أن بثَّ الطُّمأنينة والبُشرَى وبعثَ الأملِ في القلوب ساعةَ القلق منهجٌ قرآنيٌّ، وهَديٌ نبويٌّ. قال تعالى لمُوسى وهارُون - عليهما السلام - أمامَ طُغيان فرعون: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46]. وقال يوسفُ - عليه السلام - لأخيه بعدما حلَّ بهم من البلاء: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ) [يوسف: 69]. وقال شُعيبٌ لمُوسى - عليه السلام - وقد اؤتُمِرَ على قتله، وخرَجَ خائِفًا يترقَّبُ: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص: 25]. وقال نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لصاحِبِه أبي بكرٍ الصديق - رضي الله تعالى عنه - وهما في الغار: «يا أبا بكرٍ! ما ظنُّك باثنَين الله ثالِثُهما؟! لا تحزَن إن الله معنا».

 

وقال وفقه الله: في غزوةِ بدرٍ، كان عددُ المسلمين ثلاثمائة وبضعةَ عشر، وعددُ المشركين ثلاثةُ أضعافٍ، وكان القَلَقُ يتوجَّسُ جيشًا غير مُستعدٍّ للحرب، ولا كامِلِ العددِ والعُدة، وهو يترقَّبُ قوىً شرِسَة مُتضاعَفَة، قد أخذَت كاملَ عُدَّتها وعَتادها. وفي هذا الجوِّ وهذه الظروف، تتنزَّلُ الآيات القرآنية؛ لتبُثَّ الطُّمأنينةَ، وتُحيِي الأملَ في نفوس المسلمين، وتُحفِّزَهم وترفع معنوياتِهم، وتحدُوهم إلى المواجهة.

 

وتابع الشيخ: ونجِدُ القرآن يُرسِّخُ هذا المنهجَ كذلك بأسلوب آخر في نفس الغزوة، فيبعَث روحَ الأمل في نفوس المسلمين، ويُؤكِّدَ لهم النصرَ ويعِدَهم التمكين، ولقد كانت تربيةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على وِفق هذا المنهج القرآني، فكان إذا همَّ بالمسلمين همٌّ أو غمٌّ، أو توجَّسَ الخوفُ والقلَقُ واليأسُ في نفوسِهم، أخذ يُذْكِي روحَ الأمل، ويبُثُّ الطُّمأنينةَ والثقةَ بالله في نفوسِهم.

 

لما تحزَّبَ الأحزابُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتألَّبَ عشرةُ آلاف مُقاتِل، وكانت ظروفُ المسلمين في حالةٍ حرِجَة، فقد هيمَنَ الخوفُ على نفوسِهم، حتى إن أحدَهم لا يستطيعُ أن يخرُجَ لقضاء حاجَته، واشتَدَّ عليهم الجوعُ حتى ربَطُوا الحجَرَ على بطونهم، وكانت تمُرُّ بهم الأيام لا يجِدُون طعامًا، ولا يذوقُون مذاقًا، وأقبَلَ عليهم بردُ الشتاء في هيَجَانه وشدَّته، واهتَبَلَ الغدرُ والخيانةُ والنفاقُ الفرصةَ كعادتهم، للفَتِّ في عضُد المسلمين.

 

وقال حفظه الله:  وقد وصَفَ القرآن حالَهم فقال: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب: 10، 11]. وهنا بدأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يبعَثُ الأملَ في نفوس أصحابِه، ويُحيِي الثقةَ والطمأنينةَ في قلوبهم، ويعِدُهم النصر والتمكين، ويُبشِّرُهم النصرَ المُبين، فيعِدُهم مفاتيحَ كنوزِ الرومَ وفارسَ وصنعَاء. فبشَّرَهم - صلى الله عليه وسلم - بما سيكونُ من فتوحٍ لهذه البُلدان وهم محصُورُون في خندق، يقرُصُهم البردُ والجوع.

 

وقال وفقه الله: فأما المنافقون فقد كان حالُهم يتَّسِمُ بالجُبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، فسَخِرُوا من هذه البِشارَة، وقالوا: يعِدُنا قصورَ كِسرَى وقيصر، وأحدُنا لا يستطيعُ أن يخرُج للغائِطِ، ما وعَدَنا الله ورسوله إلا غرورًا. وأما المؤمنون فاطمأنُّوا وقالوا: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22].

 

وختم الشيخ خطبته بالتأكيد على نصر الله لهذه الأمة وعلو الدين وانتصار الإسلام والمسلمين، فقال: اعلَمُوا أن اللهَ كتب الغلَبَة لهذا الدين وأهله، ووعَدَ بنصره للمسلمين فقال: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، وقال: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].

 

ولو تخلَّى المسلمون عن نُصرةِ دينهم، فإن الله سينصُرُ دينَه، ويأتي بمن يقوم به، (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد: 38]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) [المائدة: 54].

ومهما تطلَّبَت الأسباب، وتغيَّرَت الأحوال وتبدَّلَت، فإن المسلمين في خيرٍ دائِم، والعاقبةُ للمتقين.

 

فاتقوا اللهَ - عبادَ الله - في نفوسِكم، واحذَرُوا اليأسَ والإرجاف بأمَّتكم؛ فإنه سلاحُ حربٍ ومَكيدةُ عدوٍّ يدُسُّها في صفوفكم. فأبشِرُوا وأملِّوا، وثِقُوا بالله فأنتم الأعلَون، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171- 173]. ولا تغرَّنَّكم هيمَنَة قوى الباطل؛ فإن الله غالبٌ على أمرِه ولو كرِهَ الكافرون.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات