اقتباس
المساجِد بيوتُ الله أضافها لنفسه تشريفًا وتكريمًا، وأكثَرَ من ذكرِها، عُمَّارُها هم صفوةُ الخلق من الأنبياء وأتباعهم، بناؤها قُربةٌ وعبادةٌ، وعَدَ الله مَن بنَاها بالجنة، وقاصِدُها أجرُه عظيم، بل ورجُوعُه منها إلى بيته يُكتَبُ له مثل ذلك، ومن الرِّباطِ: كثرةُ الخُطا إليها وانتظار الصلوات فيها، ومن أسباب مغفِرة الذنوب: المشيُ إليها، ولزُومُها ومحبَّتُها من أسباب الهدايةِ والصلاحِ..
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ ماهر المعيقلي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "فقه الابتلاء"، والتي تحدَّث فيها عن الابتلاءِ وأنه من سُنن الله تعالى الإلهيَّة، مُبيِّنًا أن أعظمَ الناس ابتلاءً وأشدَّهم هم أنبياءُ الله تعالى، ثم الأمثَلُ فالأمثَلُ من الناس، وأن الابتِلاء يكون على حسبِ دينِ العبدِ، كما أرشدَ إلى السُّبُل التي من شأنها ألا يضيعَ أجرُ المسلم إذا حلَّ به ابتلاءٌ أو نزلَت به مُصيبَة، كل ذلك من خلالِ قصَّة غزوة الأحزابِ المذكُورة في كتابِ الله تعالى وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: معاشر المؤمنين: فاتَّقُوا الله حقَّ التقوَى، واستمسِكُوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.
وأضاف الشيخ: لم يجعَل الله تعالى مقرًّا دائمًا لعبادِه، ولا دارَ نعيمٍ لأوليائِه، ولكنه أرادَها بحكمتِه دارَ ابتِلاءٍ واختِبار، يُمحِّصُ عبادَه فيها بالبلايا، ويختبِرهم بالمِحَن والرَّزايَا، وما من مُؤمنٍ بالله واليومِ الآخر إلا كان له نصيبٌ من الابتِلاء.
وقال حفظه الله: الابتِلاءُ يكون على قَدر العطاء؛ فعن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: قُلتُ: يا رسولَ الله! أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياءُ، ثم الأمثَلُ فالأمثَلُ، فيُبتَلَى الرجلُ على حسبِ دينِه؛ فإن كان دينُه صُلبًا اشتدَّ بلاؤُه، وإن كان في دينِه رِقَّة ابتُلِيَ على حسبِ دينه، فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يترُكَه يمشِي على الأرض ما عليه خطيئة».
وبيَّن الشيخ أن الأنبياء - عليهم السلام - مع ما كانوا فيه من البلاء كانوا أشرَحَ الناس صدرًا، وأكثَرَهم تفاؤُلاً، ولقي نبيُّنا - صلواتُ ربي وسلامُه عليه - لقِيَ من البلاء ما لقِي؛ أذَاه قومُه وطرَدُوه من بلدِه، وتآمَرُوا على قتلِه، فكان - صلى الله عليه وسلم - أجملَ الناس صبرًا، وأحسنَهم بالله ظنًّا.
وفي معركةِ أُحُد كُسِرَت رَباعيتُه، وجُرِحَ وجهُه، وشُجَّ رأسُه، فلم تزَل دماؤُه الزكيَّةُ تسِيلُ على وجهِه الطاهِر، وأُصيبَ - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُدٍ في أصحابِه، وفي أعزِّ الناس عليه وأقرَبِهم إلى قلبِه، بَيْدَ أن التسليمَ لله لم يلبَث هذه الأحزانَ العارِضَة، وعادَ - صلى الله عليه وسلم - يتفقَّدُ أصحابَه ويُخفِّفُ مُصابَهم، ويُظهِرُ الرِّضا لقضاءِ الله وقدَرِه فيما أصابَهم.
وقال وفقه الله: وفي السنة الخامسة من الهجرة النبوية اجتمعَ الأحزابُ حول المدينة النبوية - وكان ذلك في ليالٍ بارِدة -، وهم أكثرُ من عشرة آلافِ مُقاتِلٍ، وأصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزيدُون عن ثلاثة آلاف؛ إذ نقَضَ يهودُ بني قُريظةَ عهدَهم مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فضاقَ الخَطبُ، واشتدَّ الكربُ، وظهرَ الخوفُ مع الجُوع والبردِ، وانقطَعَت الأسبابُ الظاهرةُ للنصر؛ فلا عددَ ولا عُدَّة، فكانت شدَّةٌ وأيُّ شِدَّة؟! ومع ذلك كلِّه كان - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّرُ أصحابَه بموعُودِ ربِّهم، وتفريجِ كربِهم، وهلاكِ عدوِّهم.
وأشار الشيخ إلى أنه ما انفرَجَت الكروبُ إلا بالتوحيدِ؛ وأما المُنافِقون والذين في قلوبِهم مرضٌ فحالُهم كما هو في كل زمانٍ ومكانٍ، يُرجِفُون ويُخذِّلُون؛ لينشُرُوا الخوفَ والضعفَ في صفُوفِ المُؤمنِين، وأما المُؤمنون الصادِقون فإنهم لا يفقِدُون صِلَتهم بربِّهم، وثِقَتَهم بخالِقِهم، مهما أُصِيبُوا في سبيلِ الله.
وختم الشيخ خطبته بالحث على حسن الظن بالله وتفهم عاقبة البلاء فقال: إن حُسنَ الظنِّ بالله عبادةٌ قلبيَّةٌ جليلةٌ لا يتمُّ إيمانُ العبدِ إلا بها، وهو ما تقتَضِيه أسماءُ الله الحُسنى وصفاتُه العُلَى، ومن أحسَنَ ظنَّه بالله آتاه الله إياه؛ ففي الحديثِ المُتَّفقِ على صحَّته: «يقولُ الله تعالى: إن عند ظنِّ عبدِي بي». ولئِن كانت الحاجةُ إلى حُسن الظنِّ بالله مطلَبًا في كل الأحوال، فإنها حالَ المصائِبِ والشدائِد تعظُمُ الحاجةُ وتتأكَّد.
وفي تاريخِ أمَّتِنا الطويلِ أحداثٌ جِسام، وواقِعاتٌ عِظام، كشَفَها الله تعالى بالتوبةِ إليه والرُّجوعِ إلى كتابِه وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، في القرآن الكريم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
والمُؤمنُ قد يشتَدُّ عليه الكربُ والخَطبُ، وتُحيطُ به الفتنُ والمِحَن، ويُخيِّمُ عليه الهمُّ والغمُّ، ولكنَّه مُؤمِّلٌ في ربِّه، واثِقٌ بنصرِه، مُستبشِرٌ بتأيِيدِه، مُترقِّبٌ لفرَجِه وكرَمِه، آخِذٌ بأسبابِ النصر والتمكينِ كما أمرَه.
وأكد الشيخ أن ما يحدُثُ في بلاد المُسلمين اليوم يُوجِبُ عليهم أن يقِفُوا بكل حزمٍ وعزمٍ أمام كل ما يُهدِّدُ استِقرارَهم، أو يعتَدِي على مُقدَّساتهم، أو يُسبِّبُ الفُرقةَ بينهم. وما أحوجَ المُسلمين اليوم إلى التعاضُدِ مع قادَتهم وولاةِ أمرِهم؛ لتجتمِعَ كلمتُهم، ويقِفُوا صفًّا واحدًا أمامَ عدوِّهم، وصدَقَ الله إذ يقولُ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "مكانةُ المساجد وتعظيمُها"، والتي تحدَّث فيها عن مكانة المساجد في الإسلام وأهميتها، وعِظَم شأنها، وفضل الصلاة فيها، مع تفضيلِ الثلاثة مساجد المذكُورة في سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما بيَّن أبرزَ الآدابِ التي ينبغي أن يُحافظَ عليها المُسلم تجاهَها، ثم عرَّجَ على مُصابِ المُسلمين والمِحَن التي حلَّت بهم، مُذكِّرًا بما نزلَ بالمُسلمين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستِلهام العِبَر والدروسِ من ذلك.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكُوا من الإسلام بالعُروَة الوُثقَى.
وأضاف الشيخ: فاضَلَ الله بين خلقهِ واختارَ ما شاء بفضلِه، وتعَبَّدَنا بمعرفة ما جاء النصُّ بتفضيلِه والامتِثالُ بالمشروعِ فيه، والأرض منازلها على قَدر ذلك، وأحبُّها إلى الله مواطِن عبوديته، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ البلاد إلى الله مساجِدُها»، وذلك لما خُصَّت به من العبادات والأذكار، واجتماع المؤمنين، وظُهور شعائِر الدين.
وقال حفظه الله: وأشرفُ المساجد وأعظمُها المسجد الحرام، أولُ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض، وهو منارةُ هدايةٍ للناس، أوجَبَ الله حجَّه والطوافَ به وجعَلَه قبلةً لعباده المؤمنين، والصلاةُ فيه بمائة ألفِ صلاةٍ فيما سِواه. وثاني المساجدِ فضلاً مسجِدُه - عليه الصلاة والسلام -، مسجِدٌ أسِّسَ على التقوَى من أول يوم، وصلاةُ فيه خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سِواه إلى المسجد الحرام، وهو آخرُ مسجِدٍ بنَاه نبيٌّ. والمسجِدُ الأقصى أُولى القبلَتَين ومسرَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وُضِعَ في الأرض بعد المسجِدِ الحرام.
وقال وفقه الله: المساجِد بيوتُ الله أضافها لنفسه تشريفًا وتكريمًا، وأكثَرَ من ذكرِها، عُمَّارُها هم صفوةُ الخلق من الأنبياء وأتباعهم، بناؤها قُربةٌ وعبادةٌ، وعَدَ الله مَن بنَاها بالجنة، وقاصِدُها أجرُه عظيم، بل ورجُوعُه منها إلى بيته يُكتَبُ له مثل ذلك، ومن الرِّباطِ: كثرةُ الخُطا إليها وانتظار الصلوات فيها، ومن أسباب مغفِرة الذنوب: المشيُ إليها، ولزُومُها ومحبَّتُها من أسباب الهدايةِ والصلاحِ.
وبيَّن فضيلته أن المساجد مُعظَّمةٌ في سالِفِ الأمم، والإسلامُ أعلَى مكانَتَها، وعظَّم من يقوم بخدمَتِها، ومن آداب المساجِدِ: أخذُ الزينَةِ لها، ومن تعظيمها: لزُوم السكينَةِ والوَقارِ في الهيئة والمِشيَةِ إليها، وتحيَّةً لها من دخَلَها لا يجلس حتى يُصلِّي ركعتين. والأذان فيها عِصمةٌ وأمان، كان - عليه الصلاة والسلام - يستمِعُ للأذان في الغَزو، فإن سمِعَ أذانًا أمسَكَ، وإلا أغارَ.
وأشار الشيخ إلى أن الصفوف المُقدَّمةُ فيها يتنافَسُ إليها السابِقُون، واحترامًا للفريضةِ فيها إذا أُقيمَت الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتُوبة. وإحياؤها يكون بالذكرِ والعلمِ، وأثنَى الله على من عَمَرَها بالطاعةِ، ووصفهم بأنهم رجالٌ عصَمَهم الله من فتنةِ الدنيا: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور: 36، 37]. بل وشهِدَ لهم بالإيمانِ والهدايةِ، فقال - سبحانه -: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) [التوبة: 18].
وأضاف الشيخ: والملائكةُ تشهَدُ المساجِدَ وتستمِعُ للخُطب وتحُفُّ مجالسَ العلمِ فيها، وتلقِّي العلمَ فيها خيرٌ من متاعِ الدنيا، وقد اتَّخذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مسجِدِه موطِنًا للتعليم، فأثمَرَ جيلاً لا كان ولا يكون مثله. وكان يحُثُّ على الإقبالِ على حِلَقِ الذكرِ والعلمِ فيه. المساجِدُ تهدأُ فيها الروحُ وتسكُنُ فلا يُرفع فيها صوتُ نزاعٍ أو خُصومةٍ أو لغَط.
وتابع فضيلته: وهي مكانُ الأمن والأمان والطمأنينة، وهي موطِنُ الراحة وتذكُّر الآخرة، وتقوِيَة الصِّلَة بالله، والبُعد عن الدنيا؛ فنُهِيَ عن البيع والشراء فيها وزُجِرَ عن ذلك، بل نهَى عن إشغالِ الناس بهمُوم الدنيا، وهي محلُّ انتِفاع الأحياء بها، وإدخالُ القبور فيها يُنافِي ذلك، ووسيلةٌ إلى عبادةِ غيرِ الله. والمعصيةُ قبيحةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، وتزدادُ قُبحًا في بيوتِ الله؛ كالغِيبةِ، والنظرِ إلى الحرام، وسماعِ أصواتِ المعازِفِ في وسائل الاتصال.
وأكد الشيخ أن المساجِد عزُّ المسلمين، وشرَفُهم وشعارُ دينهم، ومن عَمَرَها بالصلاةِ فيها والذكرِ، رفَعَه الله وأسعَدَه وشرَحَ صدرَه، وتعليمُ الكتابِ والسنةِ فيها امتِثالٌ لأمرِ الله ببنائها، وإحياءٌ لسنَّة المرسلين فيها، وبركةٌ في الوقتِ والعملِ، وصلاحٌ للنفسِ والولدِ، ومن حُرِم فيها من الخيرِ أو صدَّ عنه فقد فاتَهُ فضلٌ عظيم.
وختم الشيخ خطبته بالتذكير بأهمية صلاة الجماعة في المسجد وحسن اللجوء إلى الله عن الشدائد فقال: صلاةُ الجماعة في المساجِد من شعائِر الإسلام ومن الواجِبات، وقد همَّ - عليه الصلاة والسلام - بإحراقِ من تخلَّفَ عنها، وعُدَّ تركُها من صفاتِ المُنافقين، ولم يأذَن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لرجُلٍ أعمى لا قائِدَ له أن يتخلَّف عنها.
وما يتوالَى على المسلمين من فِتنٍ، وحروبٍ، ودمارٍ، وتشريدٍ، وتسليطِ الأعداء تذكيرُ بالرجوعِ إلى الله والمساجِد، والصلواتِ، والقرآن، وقد وعَدَ الله بنصرِ المؤمنين وإن ضعُفَت الأسبابُ أو تخَّلَفت؛ والله قادِرٌ على نصرِ عبادِه المؤمنين، ولحكمةِ الابتِلاء لهم قد يُدِيلُ عليهم الأعداءَ لينالَ المسلمون الشهادةَ، والصبرَ على المُصاب، والتعلَّق بالله، والدعاءُ سلاحُ المؤمنين في السرَّاء والضرَّاء، والطاعةُ تجلِبُ النصرَ وتُعجِّلُ به، وإذا اشتدَّ الكربُ وعظُمَ الخَطبُ أتَى الفرَجُ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم