اقتباس
ومن عجائبِ البيان لهذه السُّنَّة الإلهيَّة: أن من نسِيَ الله نسِيَه الله، فلا يُبالِي به، ومن سمَّع بعمله سمَّع الله به مسامِعَ خلقِه وصغَّره وحقَّره، ومن راءَى يُرائِي الله به، ومن تتبَّع عورات المُسلمين تتبَّع الله عورتَه وفضحَه، ومن زاغَ عن الهُدى أزاغَه الله ومدَّ له من العذابِ مدًّا، ومن أعرضَ عن ذِكرِ الله عاشَ ضنكًا ونكَدًا. ومن عرَّض المُؤمنين والمُؤمنات للفتنةِ والعذابِ والقتل والتحريقِ؛ صرعَه الله شقيًّا ذليلاً مبغُوضًا، وله في الآخرةِ عذابُ الحريق...
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ خالد الغامدي -حفظه الله- خطبة الجمعة بعنوان: "الجزاء من جنسِ العمل"، والتي تحدَّث فيها عن السنن الإلهية التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وذكرَ منها: الجزاءَ من جنسِ العمل، مُبيِّنًا في ضوء الكتاب والسنة أن من فعلَ الخيرَ جُوزِي بالخير، ومن أساءَ جُوزِي بالإساءة، ولا يظلمُ ربُّك أحدًا.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتقوا الله - عباد الله - وراقِبُوه.
وأضاف الشيخ: إن الله -سبحانه وتعالى- قد أودعَ في هذه الحياة سُننًا ثابتةً لا تتغيَّرُ ولا تتبدَّلُ، والعاقلُ السعيدُ هو الذي يتعرَّفُ على هذه السُّنن الإلهية ليعملَ بمُقتضاها، ولا يُصادِمُها ولا يُخالِفُها، فيعيشُ في هذه الحياة عيشةَ الكرام المُوفَّقين السُّعداء، وله في الآخرة الأجورُ والنَّعماء. ومن تلكُم السُّنن العظيمة: سُنَّةٌ طالما كان لها الأثرُ الكبيرُ في حياة الناس، وعاقِبة أمورهم ومآلهم، ألا وهي: سُنَّةُ أن "الجزاء من جِنسِ العمل"، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
وقال حفظه الله: إنها سُنَّةٌ إلهيَّةٌ كُبرى، وقبسٌ من قبَسات عدل الله وحكمته وقُدرته التي لا حدودَ لها، وقاعدةُ الجزاء الربَّاني في هذا الكون القائِم على العدل والميزان الذي لا يعولُ ولا يميلُ ولا يُحابِي أحدًا. ولو تفكَّر الناسُ جميعًا في ظاهر أمرهم وباطنِه، وما هم عليه؛ لوجدُوا هذه السُّنةَ تتجلَّى لهم في كل شُؤون حياتهم، ولفقُهُوا طرفًا من حكمة الله البالِغة في أقداره وأحكامِه، فالبرُّ لا يبلَى، والإثمُ لا يُنسَى، والديَّانُ لا يموتُ، وكما تدينُ تُدان، وكما تُجازِي تُجازَى.
وأكد الشيخ أن هذه السُّنة الربَّانيَّة هي محورُ الجزاء بالعدل وبالفضل المُماثِل لعمل العبد ومن جِنسِه، وهي مُطَّردةٌ شرعًا وقدرًا وزمانًا ومكانًا، دلَّت عليها أكثرُ من مائة آيةٍ في كتاب الله، وتكاثَرَت النصوصُ النبويةُ في تقريرها وترسيخِها في النفوس. ولقد توالَت الآياتُ تلوَ الآيات في بيان أن الله يُجازِي أهلَ الإيمان والتقوى بالحياة الطيبة، فيفتحُ لهم بابَ الأُنسِ به ومعرفته والفرح به - سبحانه -، ويُيسِّر لهم أمورَهم، ويكشِفُ كُروبَهم ويُنجِّيهم، ويحفظُهم في أنفُسهم وذُرِّيَّاتهم ويكفِيهم، وينصُرُهم ويُكرِمُهم جزاءً بما كانوا يعمَلون.
وأكد الشيخ أن حُسنَ العاقبةِ، وطِيب المآل من الجزاء الحسن؛ فقد ترى الرجلَ في شيبَته يعيشُ حياةً طيبةً هنيئةً رضيَّة، وما ذاك إلا لأنه كان لله في شبابه، مُحافِظًا على طاعاتِ ربِّه ورِضاه، فحفِظَه الله في الكِبَر، وقد يُبتلَى المرءُ بمُصيبةٍ فيرضَى ويُسلِّم، فيهدِي الله قلبَه، ويرضَى عنه، وتكونُ له العاقبةُ الحسنةُ، ويُؤتيهِ الله خيرًا مما أُخِذَ منه، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمُؤمن، والعاقبةُ للتقوى.
وبيَّن الشيخ أن من غضَّ بصرَه، وحفِظَ سمعَه ولسانَه عن الحرام؛ جازاه الله وعوَّضَه بأن يُطلِقَ له نورَ بصيرته وقلبِه، ويفتحَ له من الفهم والعلم وسَدادَ القول ما هو أعظمُ لذَّةً وفرحًا من هذه اللذَّات المُحرَّمة. والكلمةُ الطيبةُ من رِضوان الله، يتكلَّمُ بها العبدُ؛ يكتبُ الله له بها رِضوانَه إلى يوم القيامة. ومن برَّ والدَيه، ووصلَ رحِمَه؛ وصلَه الله برحمته وكرمِه. ومن استغفرَ للمُؤمنين والمُؤمنات؛ كتبَ الله له بكل مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ حسنة. ومن سترَ مُسلمًا سترَه الله، ومن يُنفِق يُنفِقُ الله عليه، ومن كان في عَون أخيهِ كان الله في عَونه، وإنما يرحمُ الله من عبادِه الرُّحماء.
وأضاف الشيخ: ومن عجائبِ البيان لهذه السُّنَّة الإلهيَّة: أن من نسِيَ الله نسِيَه الله، فلا يُبالِي به، ومن سمَّع بعمله سمَّع الله به مسامِعَ خلقِه وصغَّره وحقَّره، ومن راءَى يُرائِي الله به، ومن تتبَّع عورات المُسلمين تتبَّع الله عورتَه وفضحَه، ومن زاغَ عن الهُدى أزاغَه الله ومدَّ له من العذابِ مدًّا، ومن أعرضَ عن ذِكرِ الله عاشَ ضنكًا ونكَدًا. ومن عرَّض المُؤمنين والمُؤمنات للفتنةِ والعذابِ والقتل والتحريقِ؛ صرعَه الله شقيًّا ذليلاً مبغُوضًا.
وقال وفقه الله: وحين نتأمَّلُ -يا عباد الله-، حين نتأمَّلُ العقوبات التي أنزلَها الله بمن عاندَ أمرَه وخالَفَ رُسُلَه، نجِدُ أنها مُناسِبةٌ أيَّما مُناسبَةٍ لذنوبِهم وأعمالهم، (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
وأكد الشيخ أن استِشعار سُنَّة أن الجزاء من جنسِ العمل، واستِحضارها في كل المواقِف والأحداث، يمنَحُ العبدَ اليقينَ بعدل الله وحكمته، وأنه القادرُ على كل شيءٍ، الذي لا تخفَى عليه خافِية، ويجعلُ العبدَ يتوقَّعُ الخيرَ من الله، فيُحسِنُ الظنَّ بربِّه، ويرجُو رحمتَه وكرمَه وحُسن ثوابِه، ويشعُر بالطُّمأنينة والرِّضا؛ لأنه يعلمُ علمَ اليقين أنه سوفَ يُجازَى الجزاءَ الأوفَى، فلا يبأَس ولا ييأَس، والله لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً. ومن جازاه الله الجزاءَ الحسنَ، فلا يغترَّ بذلك ولا يفخَر؛ بل عليه أن يشكُر الله ويسألَه المزيدَ، لكي يستديمَ هذه النعمة، ومن جازاه الله جزاءَ السُّوء، فلا يقنَط من رحمةِ الله وعفوِه، وعليه بالتوبةِ والاستِغفار والبُعد عن مساخِطِ الله وغضبِه.
وبيَّن الشيخ أن سُنَّة الجزاء من جنسِ العمل سُنَّةٌ عامَّةٌ على البشريَّة كلِّها، لا تُحابِي أحدًا، ولا تستثنِي أحدًا، وهي تحُلُّ وتنزِلُ بمن يستحقُّها في الوقت المُناسِب في علمِ الله وحِكمته. وإن هذه السنَّة الربَّانيَّة تُربِّي المُسلمَ على التسليم المُطلَق لله الذي بهرَت حكمتُه العقولَ، وهي تُؤكِّدُ على أن بنِي آدم كلَّهم لا يُحيطُون به - سبحانه - علمًا، ولا يُدرِكون أسرارَ قضائِه وقدَره وتدبيرِه العجيبِ لأحداثِ الكون. فقد يعترِضُ بعضُ بني آدم ويسخَطون، وقد يشُكُّون حينما يرَون بعضَ أقدار الله وكيف يرفعُ الله أقوامًا ويضعُ آخرين، ويفتحُ أبوابًا ويُغلِقُ أخرى، ويُعطِي ويمنَع، ويبتلِي ويُعافِي، ويُغنِي ويُفقِر، ويُكرِمُ ويُهين، ويُعزُّ ويُذلُّ، وأنَّى لابنِ آدم أن يُدرِك حكمةَ الله وعلمَه؟!
وختم الشيخ خطبته بعدة نداءات جليلة لابن آدم فقال: فيا ابنَ آدم! إنك إن أسلمتَ قلبَك لله، وسلَّمتَ لأمر، ورضيتَ بما قسمَ الله لك، واشتغلتَ بما فرضَ الله عليك، وتركتَ ما لا يعنِيك؛ أرحتَ قلبَك وسعِدتَ في حياتِك، وكنتَ عند ربِّك محمُودًا. وإن لم ترضَ بما قسمَ الله لك، وضيَّعتَ ما فرضَ الله عليك، واشتغلتَ بما لا يعنِيك؛ أحاطَت بك الهُمومُ والغُمومُ، وأعرضَ الله عنك، ثم لا يكونُ لك من الدنيا إلا ما قسمَه الله لك، وكنت عند ربِّك مذمُومًا، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
إن بينَك وبين الله خطايا وذنوبًا، وبينَك وبين الناسِ هفَواتٍ وهَنَاتٍ، فإن أحببتَ أن يغفرَ الله لك ويتجاوَز عنك، فأقبِل على الله وتُب إليه، وتجاوَز عن عبادِه وسامِحهم، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
يا ابنَ آدم! إنك مهما ظلمتَ واستكبرتَ وعلَوتَ، واعتديتَ وآذيتَ، فلن تُفلِتَ من العدالة الإلهيَّة، وإن ربَّك لبالمرصاد، إذا أخذَ الظالمَ لم يُفلِتْه، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
يا ابنَ آدم! إن أنت بررتَ والدَيك، ووصلتَ رحِمَك، ورحمتَ أهلَكَ وعيالَك، وأحسنتَ للناس كافَّة؛ وجدتَّ حلاوةَ ذلك وثوابَه، ورأيتَ بعينيك جزاءَ صنيعِك وإحسانِك، وإن أبيتَ إلا العقوقَ والبغيَ والقطيعَة، وأذَى الناس بالحسَد والحقد والخُصومة، فاعلَم أن الجزاءَ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
يا ابنَ آدم! من أطابَ مطعمَه استجابَ الله دعوتَه، ومن عزمَ على ترك الذنوبِ ذاقَ حلاوةَ الإيمان وأتَتْه الفتوحُ، ومن أصلحَ سريرتَه أصلحَ الله علانيتَه، ومن أصلحَ ما بينَه وبين الله، أصلحَ الله ما بينَه وبين الناس، ومن تركَ شيئًا لله عوَّضَه الله خيرًا منه، ولم يجِد حسرةَ فقدِه، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "مخالفة أفعال الجاهلية"، والتي تحدَّث فيها عن أجل النِّعم على الخلق، وهي: الإسلام، مُبيِّنًا وجوبَ معرفة الجاهلية لمعرفة حقيقة الإسلام وفضلِه، ثم تطرَّقَ لذِكر مُخالفة هذا الدين العظيم لعقائد المشركين وأهل الكتاب وعاداتهم، استِنادًا إلى ما جاء في كتابِ الله وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.
وأضاف الشيخ: الله هو المُنعِمُ وحده، ونعمُه - سبحانه - على عباده لا تُحصَى، وأجلُّ النِّعَم: الإسلام، دينٌ كاملٌ جمعَ المحاسِنَ كلَّها، ورضِيَه الله لخلقه، ودعا الناسَ إليه، فهدَى من شاءَ منهم إليه، وتفضَّل عليهم به، ومن لم يعرِف الجاهليَّةَ لم يعرِف حقيقةَ الإسلام وفضلَه، وقد كان الناسُ في جاهليةٍ دهماءَ اندثَرَت فيها معالمُ النبُوَّة، فبعثَ الله نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور.
وأكد الشيخ أن من أكبر مقاصِد الدين: مُخالفةُ أعدائِه، لئلا يعودَ الناسُ إلى جاهليَّتهم؛ فنهَى عن التشبُّه بما يختصُّ به أهلُ الكتاب والمُشرِكون في عباداتهم وعاداتهم، ونهَى عن اتباع أهوائِهم، وكل أمرٍ من الجاهليَّة فهو مُهان، وأعظمُ باطلٍ كانوا عليه: الشركُ بالله، وهذا أكبرُ ما خالفَ فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ الجاهليَّة، فأتاهم بالتوحيد وإخلاص الدين لله وحده، والإعراضُ عما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - سبيلُ الضلال.
وقال حفظه الله: وحُسن الظنِّ بالله عبادةٌ وسعادةٌ، ومن أساءَ الظنَّ بربِّه فقد سلكَ طريقَ الجاهلين، ومن ذلك: القدحُ في حكمته، والإلحادُ في أسمائِه وصفاتِه، ونسبةُ النقائِصِ إليه. والأمرُ لله وحدَه فهو الربُّ وبيدِه مقاليد كلِّ شيءٍ، وإتيانُ السحرة والكُهَّان قدحٌ في الدين، وضعفٌ في العقل، ومُتابعةٌ لأهل الجاهليَّة.
وقال حفظه الله: والأمواتُ أفضوَا إلى ما قدَّموا، والصالِحون يُدعَى لهم ولا يُدعَون مع الله، واتخاذُ القبور مساجِد ودعاءُ أهلها من سُنَّة أهل الكتاب، والحكمُ لله وحدَه، والتحاكُمُ إلى دينِه وشرعِه عدلٌ، والاعتِياضُ عن ذلك بغيرِه فسادٌ للمُجتمع، والتشاؤُم يُوهِنُ العزائِمَ، ويُضعِفُ اليقينَ بالله أو يُزيلُه، والمُسلمُ يُؤمنُ بقضاءِ الله وقدَرِه، ويُحبُّ الفألَ في جميعِ شُؤونِه، فلا عدوَى ولا طِيَرَة ولا هامةَ ولا صفَر. والبركةُ تُرجَى من الله وحدَه، وطلبُها من الأشجار والأحجار، أو الأحياء والأموات، أو اعتقادُها منهم طريقُ عبَدَة الأصنام. ومن نسَبَ النعمَ إلى غير الله، فما عرفَ فضلَه ولا شكَرَه، وهذا طريقُ الجاهلين.
وأشار الشيخ إلى أن من سُنن الجاهليَّة: الاستِسقاء بالنُّجوم والتعلُّق بحركات الفلَك، فجاء الإسلامُ بإبطالِها، وتعليق القلوب بالله وحده. والزمانُ مخلوقٌ مُسيَّرٌ، فمن سبَّه أو أضافَ له فعلاً ففيه من شُعب الجاهليَّة؛ والقدَرُ قُدرةُ الله، وعلى المُؤمن الإيمانُ به والتسليمُ لأمر الله وقدَره، والمُشرِكون يُنكِرون القدَرَ ويُعارِضُون به الشرعَ، والتكذيبُ بالبعث أو الشكُّ فيه كفرٌ من طُرق الجاهليَّة؛ ومن كذَّب بآيات الله فهو مُتابِعٌ للمُشرِكين.
وقال وفقه الله: والأمنُ من مكر الله أو اليأسُ من روح الله يُنافِي الإيمان، وعليه كان أهلُ الأوثان، والمُؤمنُ يسيرُ إلى الله بين الخوف والرجاء عامرًا قلبَه بحبِّ ربِّه. والله - سبحانه - هو الذي يُحلِّلُ ويُحرِّم، وليس للخلقِ من ذلك شيءٌ، خلافًا لما كان عليه أهلُ الكتاب؛ حيث اتخذوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا من دون الله. وحُجَّةُ المُؤمن ومصدرُ تلقِّيه لدينِه هو الكتابُ والسنَّة بفهم سلَف الأمة، والتقليدُ والاحتِجاجُ بالآباء من حُجَج الجاهلين.
وأكد الشيخ أن الإسلامَ دينٌ قيِّمٌ فلا غلُوَّ فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، صراطٌ مُستقيمٌ مُجانِبٌ لطريقِ أهل الكتاب، ومن سُبُلهم الغلُوُّ؛ فغالَى النصارى في نبيِّهم عيسى - عليه السلام - وجعلُوه ربًّا، ومن جفائِهم لم يُعطُوا الربَّ ما يستحقُّه من الوحدانيَّة وقتَلوا الرُّسُل. ولبسُ الحقِّ بالباطل وكتمانُه من طرائِقِهم؛ حيث اتخذُوا دينَهم لهوًا ولعبًا واتَّبعوا أهواءَهم. ويدَّعون محبَّة الله والنجاةَ من النار دون عمل، مُعتمِدين على الأمانيِّ الكاذِبة، ويجتهِدُون بإعمال الحِيَل الظاهرة والباطنة، وينسِبُون باطلَهم إلى الأنبياء والمُعظَّمين، يعبُدون اللهَ على حرفٍ، ويقطَعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويُفسِدون في الأرض ولا يُصلِحون، ويُحبُّون أن يُحمَدوا بما لم يفعَلوا.
وأكد الشيخ أن لعِظَم ضلالِهم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخالِفُهم في كل شيءٍ، حتى قال المُشرِكون: ما يُريدُ هذا الرجلُ أن يدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالَفَنا فيه. حتى خالفَهم في أماكِن ذبحِهم، وفي الصلاةِ والنداءِ إليها، أمرَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمُخالفتهم؛ فشرعَ الأذانَ، وكرِهَ بُوقَ اليهود وناقُوسَ النصارى، وأبدلَ الله القبلةَ من بيت المقدِس؛ لأن أهل الكتاب يتوجَّهُون إليه. ونهَى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة عند طلُوع الشمسِ وعند غُربِها؛ لأنها حينئذٍ يسجُدُ لها الكفار. وصلاتُهم عند البيتِ مُكاءٌ وتصدِيةٌ، ونُهِينا عن الاختِصار والاشتِمال في الصلاة لفعلِ اليهود له.
وقال وفقه الله: وأُمِرنا بالاعتِزاز بمُعاملاتنا في البُيوع وغيرِها؛ لما فيها من الصدقِ والعدلِ والأمانة، ونُهِينا عن بُيوعِ الجاهليَّة، وعن نقصِ المِكيالِ والميزان، واكتِسابِ المالِ بالميسِر والقِمار، وشدَّد في الرِّبا. وأحلَّ الله لنا أكلَ الطيبات وحرَّم علينا أكلَ الخبيث، وهم عكَسُوا ذلك. ولا أحسنَ من خلق الله، ومن عادة أهل الكتاب: تغييرُ خلق الله، اتباعًا للشيطان الآمِر بذلك؛ فنهَى - عليه الصلاة والسلام - عن مُتابعتِهم وقال: «خالِفُوا المُشرِكين؛ وفِّروا اللِّحَى، وأحفُوا الشوارِبَ» (متفق عليه). وأمرَ بصبغِ الشَّيب ومُجانبَته السواد، وتبرَّأَ ممن عقدَ لحيتَه أو تقلَّد وَترًا.
وبين الشيخ أن المرأة كانت مُمتهَنةً في الجاهليَّة، فلا حجابَ يستُرُها ولا رجُلَ يحمِيها، وإذا بُشِّر أحدُهم بالأُنثَى ظلَّ وجهُه مُسوَدًّا وهو كظيم، وكانوا يئِدُون البنات، ومن قضائِهم: توريثُ الرجالِ دون النساء واستِحلالُ المحارِم. واليهودُ يعتزِلُون المرأةَ أيامَ حيضَتها، فلا يُؤاكِلونَها، والنصارى يفعَلون معها كلَّ شيءٍ، فجاء المرأةُ بتكريمِ المرأة وسترِها وقال لهنَّ: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)، وجعلَ لهنَّ حقوقًا وعليهنَّ واجِبات، وفي الإرثِ كتبَ لهنَّ نصيبًا مفرُوضًا، ومن عالَ جاريتين فأكثرَ كُنَّ له سترًا من النار.
وأكد الشيخ أن ديننا دينُ كمالٍ وعزَّة، والتمسُّك به أصلُ كل خيرٍ وفلاح، واقتِفاء آثار الجاهليَّة أمارةُ ضعفِ المرء، ومن اتَّخذَ شيئًا منها أبغضَه الله، قال - عليه الصلاة والسلام -: «وأبغضُ الناسِ إلى الله: مُبتغٍ في الإسلام سُنَّةَ الجاهليَّة» (رواه البخاري). والمُتابعةُ تُورِثُ المحبَّة، والمُشاركةُ في الظاهر وسيلةٌ إلى مُوافقَة الباطِن، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، وما ابتدَعَت أمةٌ بدعةً إلا نُزِع عنها من السنَّة مثلُها، وما أحيَا قومٌ سُنَّةً جاهليَّةً إلا ترَكوا من الهُدى أضعافَها.
وختم الشيخ خطبته بالحث على الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: خيرُ من يُقتدَى به: نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كمَّله الله وكمَّل له شرعَه ودينَه، والشهادةُ له - عليه الصلاة والسلام - بالرسالةِ بلُزوم طاعته ومُتابعتِه، وكلَّما كان العبدُ أتبعَ لنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- كان أعظمَ توحيدًا. وأسعدُ الخلقِ وأعظمُهم نعيمًا وأعلاهم درجةً أعظمُهم اتباعًا ومُوافقةً له علمًا وعملاً. فيجبُ على العبدِ أن يعرِفَ من هديِه - عليه الصلاة والسلام - وسيرتِه وشَأنه ما يخرُجُ به عن عِداد الجاهلين، ويدخلُ في عِدادِ أتباعِه المُفلِحين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم