اقتباس
هو السَّيِّدُ لا شريكَ له والجميعُ عبيدُه، له المُلكُ التامُّ الدائِمُ، مالِكُ الدنيا ويوم الدين، انفردَ - سبحانه - بتدبير شُؤون خلقِه ومُلكِه، فالأمرُ كلُّه بيدِه وحدَه، يأمرُ وينهَى، ويخلُقُ ويرزُقُ، ويُعطِي ويمنَعُ، ويخفِضُ ويرفَعُ، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويُحيِي ويُميت، جميعُ الخلق تحت قهره ومشيئته، وقلوبُ العباد ونواصِيهم بيدِه، وأزِمَّةُ الأمور معقُودةٌ بقضائِه وقدَره، قائِمٌ على كل نفسٍ بما كسبَت، والسماءُ والأرضُ قائمةٌ بأمره، ويُمسِكُ السماءَ أن تقعَ على الأرض إلا بإذنِه، ويُمسِكُ السماوات والأرضَ أن تزُولا...
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التعايش والوِفاق في المجتمع المسلم"، والتي تحدَّث فيها عن التعايُش الذي يجبُ أن يكون سائِدًا في مُجتمع المُسلمين، مُتحدِّثًا عما كان في دولة الإسلام الأولى من وجود المُسلمين في مُجتمعٍ فيه المنافقون، واليهود، والمشركون، ومُبيِّنًا حِرصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على التوفيق بين المهاجرين والأنصار لا التفريق، كما حذَّر من الاختلاف المُؤدِّي إلى التكفير والتدمير، وأوردَ بعضَ المنقُولات عن السلف - رحمهم الله - في صلاة الصحابة - رضي الله عنهم - خلف كلِّ أحدٍ حتى من اتُّهِم بالكفر، وفي ختام خطبته وجَّه نصائِحَه إلى المسئولين بالالتِزام بما يجمعُ المُسلمين ويُوحِّدُهم، وتنحِية الخلافات الجانبيَّة.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فجادَّةُ النجاة قليلٌ سُلاَّكُها، والقلوبُ الغافلةُ مخوفٌ هلاكُها.
وأضاف الشيخ: إن من سُنَّة الله في البشر: اختلافُ أذواقهم وفُهومهم وإدراكاتهم وحدَّة طِباعهم وهدوئِهم وذكائِهم وقناعاتهم، فلكل إنسانٍ قناعاتُه ورُؤيتُه وفهمُه وإدراكُه، فلا يُحجَرُ عليه، ولا يُجبَرُ على تغيُّر مفاهيمه، وما يصلُحُ لهذا قد لا يصلُحُ لذاك. وإن من عباد الله من لا يُصلِحُه إلا الغِنى، ولو أفقرَه الله لكفَر، وإن من عباد الله من لا يُصلِحُه إلا الفقر، ولو أغناه الله لبطَر.
وقال حفظه الله: ومن هنا - عباد الله - فإن اختلافَ الناسِ ليس اختلاف تفاضُلٍ وتمايُزٍ بين أعراقها وقبائلِها وطبقاتها، ولكنَّه اختلافٌ من أجل المنافِع والإبداع، وتعدُّد طُرق المعرفة والثقافة، والتسابُق في الخيرات، والمُسارَعة إلى المكرُمات، ومن أجل أن يتعارَفُوا وليتَّخِذَ بعضُهم بعضًا سُخرِيًّا. أما ميزانُ التفاضُل فهو التقوى والعملُ الصالح ليس إلا.
وأكد الشيخ أن المسلَك الحكيم هو في التعامُل مع ما قضَته سُنَّةُ الله من حقائِق التنوُّع الاجتماعيِّ، والتفكيرُ بطريقةٍ مُنفتِحةٍ غير ضيِّقة؛ لأن الأُطُر الضيِّقة لا تُنتِجُ إلا خياراتٍ ضيِّقة، وفهمُ الآخر لا يلزمُ منه القناعة بما يقول، ولو لم تكُن أنت مُختلفًا لما كان الآخرُ مُختلفًا، وإذا اتَّفقَ اثنان في كل شيءٍ فلا حاجةَ لأحدهما.
وبيَّن فضيلته أن الانسِجام والتعايُش شعورٌ داخليٌّ جميلٌ في النفس الإنسانيَّة، يُبرِزُ العلاقةَ الإيجابيَّة والانتِماء بين أفراد المُجتمع، فيكونُ كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا، وكالجسَد الواحِد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى. الانسِجام والتعايُش ينطلِقُ من الأُخُوَّة، وصلاح النفس، وسلامة الصدر، والمُساواة، والمحبَّة، والتواصِي بالحق والتواصِي بالصبر وبالمرحمة.
وقال وفقه الله: والمُساواةُ بين الناس ليست مُساواةَ تماثُل؛ بل مُساواةُ تكامُل. مُساواةٌ تنفِي العصبيَّة والحِزبيَّة، وحمِيَّة الجاهليَّة، ودعوَى الجاهليَّة، وتُؤكِّدُ السمعَ والطاعةَ، ولُزوم الجماعة وعدم الشُّذوذ عنها أو الخروج عليها. الانسِجامُ والتعايُش هو الاعترافُ بحقِّ العيش في مُجتمعٍ واحدٍ، وبلدٍ واحد. والناسُ يتعايَشُون بالدين وبالمروءة وبالحياء وبالرغبة وبالرهبة.
وأشار الشيخ إلى أن التعايُش هو الوجودُ المُشتركُ بين الناس، على اختلاف طبائِعِهم ومقاصِدهم، وهو لا يعني الإلغاء، وإنما يعني الاعترافَ بالآخر. التعايُش هو تنظيمُ وسائل العيش بين الناس. الانسِجامُ والتعايُش ينشرُ الأُلفة والتعاوُن والترابُط، ويُنمِّي روحَ العمل والإبداع، ويحمِي البلادَ من الانحِراف، والأفكار المُنحرِفة، والاتجاهات العُدوانيَّة، ويُقلِّلُ من أثر الشائِعات المُوهِنة للعزائِم، والمُفرِّقة للجماعة. وكسبُ القلوب مُقدَّمٌ على كسب المواقِف، ووحدةُ القلوب مُقدَّمةٌ على وحدة الآراء.
وأضاف الشيخ: في دينِنا لم تُشرع شرائِع الدين، ولم تُفرض فرائِضُ الإسلام، ولم تتنزَّل الأحكام إلا بعد أن استقرَّ المُسلمون المُهاجِرون والأنصار في مُجتمع المدينة بمُكوِّناته وتنوُّعه. ولقد ذكرَ بعضُ أهل العلم أن من غايات الهِجرة: تكوينَ الوحدة الإسلاميَّة في ظلِّ الدولة الإسلاميَّة. لقد كان مُجتمعُ المدينة مُجتمعًا مُتعايِشًا، وهم يضُمُّ: المُؤمنين، والمنافقين، واليهود، والمُشركين، وغيرَهم. وكان الصحابةُ - رِضوانُ الله عليهم - يرَون الاجتماع من أعظم الخيرات، وأكبر الصالِحات، لذا تراهم قد ائتَمُّوا بكل من حقَّت له الإمامة.
وقال حفظه الله: والمُسلِمون يرَون أن من صلَّى صلاتَهم، واستقبلَ قبلتَهم، وأكلَ ذبيحتَهم، فهو منهم، والسرائرُ إلى الله، والحسابُ على الله، فلا شقَّ عن القلوب، ولا غلَّ على سابقٍ بالإيمان، ولا تفريقَ بين المُسلمين بالأسماء والألقاب ولو كانت أشرفَ الألقاب والأسماء، مثل: المُهاجرين والأنصار، وإنما تُقالُ على سبيلِ الثناء والتأليف والتعريف. والمُسلمون يحرِصون على هداية الخلق، ويستُرون العيوب، ولا يتتبَّعون العورات، ولا يذكُرون أخطاءَ أهل العلم إلا لبيانِ الحقِّ، وعلى سبيل الترجيح لا على سبيل التجريح، ويلتمِسُون العُذرَ ما أمكَن.
وأكَّد الشيخ أن الإسلام يسَعُ أهلَه كلَّهم، لسعَتِه وسماحته، عاشُوا في كنَفِه وتعايَشُوا على أرضِه القرونَ تلوَ القُرون، وعونُ الله لا يتنزَّلُ على المُتعصِّبين والمُتحزِّبين، ولا ينصُر الله أقوامًا مُتفرِّقين. إن الجفاءَ والتباعُد النفسيَّ والاجتماعيَّ هو الذي يقضِي على الوِحدة، وينبُذ التعايُش، والعاقلُ المُنصِفُ من اغتفرَ قليلَ خطأ أخيه في كثيرِ صوابِه، فلا يبخَسُ الناسَ حقوقَهم، ولا أشياءَهم؛ بل يُعاملُ الناسَ بما يحبُّ أن يُعامِلوه به، فلا يقِفُ عند الألفاظ والكلمات؛ بل يقبلُ ما يقولُه صاحبُه في تفسير مُرادِه.
وقال وفقه الله: القولُ الحسنُ والتعامُلُ الحسنُ لا يتوقَّفُ على دينٍ أو مذهَب؛ بل هو حقٌّ لكل الناس، والوسيلةُ في ذلك: الرِّفقُ والإنصافُ، والحبُّ والابتسامةُ، وحُسنُ الظنِّ، وطِيبُ القلب، وسلامةُ الصدر، والاحترامُ والتقديرُ. ولا تستطيعُ حمايةَ نفسِك ما لم تحمِ إخوانَك، فالمرءُ قليلٌ بنفسِه كثيرٌ بإخوانه، والحياةُ قائمةٌ على الزوجيَّة والثُّنائيَّة، وليس على الأُحاديَّة والفرديَّة، وتسويةُ الناس بفِكرٍ واحدٍ خلافُ سُنَّة الله، والحوارُ هو للتعارُف والتعايُش والتفاهُم ومزيدٍ من الثقافة، وليس للإلزام والإقناع.
وأشار الشيخ إلى أنه ينبغي التفريقُ بين التعايُش والردِّ على المُخالف؛ فالردُّ على المُخالِف بابٌ واسِعٌ مفتُوح، يُسلَكُ فيه مسالِكُ المصلحة والحكمة والموعِظة الحسنَة، والجِدال بالتي هي أحسن في بيان الحق، وتزييف ما عداه. كما ينبغي التفريقُ بين المُسالِم والباغِي والخائِن؛ فالذي يبغي ويُهدِّدُ السِّلم العام، ويُريدُ تفريقَ المُسلمين، ويُعمِلُ السَّيفَ على رِقابهم، فلا بُدَّ من إيقافه عند حدِّه، والضربِ على يدِه كائنًا من كان. والذي يخُونُ وطنَه، ويخذُلُ أهلَه، ويتواطَأُ مع الأعداء ويُمالِئُهم يجبُ الحزمُ معه، وفضحُ أمره، واتخاذُ الموقِف الرَّادِع الصارِم له ولأمثالِه.
وختم الشيخ خطبته بالحث على وحدة الصف وجمع الكلمة، فقال: ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن وحدةَ الصفِّ واجتماع الكلمة غاياتٌ مطلُوبةٌ في كل حين، وهي عُنوانُ قوَّة الأمة، وسرُّ حفظِ البلاد، ولكنَّها في هذه الظروف التي يتربَّصُ بها الأعداءُ، ويتطاوَلُ فيها المُغرِضون، ويجتَرِئُ فيها الخوَنةُ، تكونُ أشدَّ إلحاحًا وأعظمَ حاجةٍ.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "معرفة الله - جل وعلا -"، والتي تحدَّث فيها عن الله تعالى ووجوب معرفة المسلم بالله تعالى، مُتحدِّثًا عن كمال الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، وذكرَ بعضًا مما وصفَ به الله - جل وعلا - نفسَه أو وصفَه به رسولُه - صلى الله عليه وسلم - من قُدرته وعزَّته ورحمته وسَعَة علمِه وعظمته وغير ذلك مما يجبُ على كل عبدٍ أن يعرفَه عن ربِّه - جلَّ جلالُه -.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
وأضاف الشيخ: شرفُ العلم بشرف المعلُوم، وأشرفُ العلوم وأزكاها العلمُ بالله، والحاجةُ إلى معرفته - سبحانه - وتعظيمه فوق كل الحاجات؛ بل هي أصلُ الضرورات، والله فطرَ عبادَه على محبَّته ومعرفته.
وقال حفظه الله: والله أقامَ آياته دليلاً على ربوبيَّته وإلوهيَّته، والرُّسُل بُعِثوا لتقرير الفِطرة وتكميلِها، وتوحيدُ الربوبيَّة بإفراد الله بأفعاله أعظمُ ما جاؤُوا به، فهو أصلٌ من أصول الإيمان، وأحدُ أنواع التوحيد الذي لأجله خلقَ الله العبادَ، وهو دليلٌ على وحدانيَّته في الإلوهية، وبه احتجَّ الله على إفراده. والشِّركُ فيه أعظمُ وأقبحُ أنواع الشِّرك، ولا يغلَطُ في الإلهيَّة إلا من لم يُعطِه حقَّه.
وأكَّد الشيخ أن الله - سبحانه - كاملٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، ومن صفاته - جلَّ شأنُه - الربوبيَّةُ لا شريكَ له فيها، كما لا شريكَ له في إلوهيته، وهو - سبحانه - المُتفرِّدُ بالخلق والمُلك والرِّزق والتدبير، خالقٌ ولا خالقَ معه، بديعُ السماوات والأرض، خلقَ فسوَّى وأحسنَ كلَّ شيءٍ خلقَه وهو الخلاَّقُ العليم، وكما بدأَ الخلقَ سيُعيدُه يوم القيامة وهو أهونُ عليه. وكلُّ من سِوى الله لا يستحقُّ العبادة، والله المُستحقُّ لها وحدَه.
وقال وفقه الله: هو السَّيِّدُ لا شريكَ له والجميعُ عبيدُه، له المُلكُ التامُّ الدائِمُ، مالِكُ الدنيا ويوم الدين، انفردَ - سبحانه - بتدبير شُؤون خلقِه ومُلكِه، فالأمرُ كلُّه بيدِه وحدَه، يأمرُ وينهَى، ويخلُقُ ويرزُقُ، ويُعطِي ويمنَعُ، ويخفِضُ ويرفَعُ، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويُحيِي ويُميت، جميعُ الخلق تحت قهره ومشيئته، وقلوبُ العباد ونواصِيهم بيدِه، وأزِمَّةُ الأمور معقُودةٌ بقضائِه وقدَره، قائِمٌ على كل نفسٍ بما كسبَت، والسماءُ والأرضُ قائمةٌ بأمره، ويُمسِكُ السماءَ أن تقعَ على الأرض إلا بإذنِه، ويُمسِكُ السماوات والأرضَ أن تزُولا.
وأضاف فضيلته: وكلُّ من في السماوات والأرض يسألونَه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29]، ومن جُملة شُؤونه: يغفرُ ذنبًا، ويهدِي ضالاًّ، ويُفرِّجُ همًّا، ويجبُرُ كسرًا، ويُغنِي فقيرًا، ويُجيبُ دعوة، أوامرُه مُتعاقبة، ومشيئتُه نافِذة، لا تتحرَّك ذرَّة في الكون إلا بإذنه، فما شاءَ كانَ، وما لم يشَأ لم يكُن، يخلقُ ما يشاءُ، ويفعلُ ما يُريد، وكان أمرُه قدرًا مقدُورًا. لا مانِع لما أعطَى، ولا مُعطِيَ لما منَع، ولا مُعقِّبَ لحُكمه، ولا رادَّ لقضائِه، ولا دافعَ لمُراده، ولا مُبدِّل لكلماته.
وأضاف: قدَّر مقاديرَ الخلق قبل خلقِ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولو اجتمعَ الخلقُ على شيءٍ لم يكتُبه الله ليجعَلوه كائنًا لم يقدِروا عليه، ولو اجتمَعوا على ما هو كائنٌ ليمنَعوه لم يقدِروا عليه، ولو اجتمعَت الأمةُ على ضُرِّ عبدٍ واللهُ لم يُرِد ضُرَّه لم يضُرُّوه، ولو اجتمعَت على نفعِه واللهُ لم يأذَن بنفعِه لن ينفَعوه، يهدِي من يشاءُ فضلاً، ويُضلُّ من يشاءُ عدلاً، إذا أرادَ شيئًا فإنما يقولُ له: كُن، فيكون.
وقال وفقه الله: كلامُه أحسنُ الكلام، لا بدايةَ لكلماته ولا نهايةَ لها، وعلمُه تعالى وسِعَ كلَّ شيءٍ، فيعلمُ ما كان وما لم يكُن وما لا يكُون، ويعلمُ ما فعلَه الخلقُ وما سيفعَلونه، ويعلمُ ما في البرِّ والبحر وما تسقطُ من ورقةٍ إلا يعلمُها، ولا يعزُبُ عنه - أي: لا يغيبُ عنه - مِثقالُ ذرَّة في الأرض ولا في السماء، يعلمُ ما هو غائبٌ عنَّا وما هو شاهِد، ويعلمُ ما تُوسوِسُ به النفوسُ، وما تنطوِي عليه خبايا الصُّدور، ويعلمُ ما تحمِلُه الأُنثَى في البُطون، ومفاتِحُ الغيب لا يعلمُها إلا هو، وعلومُ الخلق كلِّهم كقطرةٍ من بحرِ علمِه، وما علمُهم إلا بمشيئتِه.
وقال حفظه الله: سمعُه وسِع الأصوات، فلا تختلفُ عليه ولا تشتبِه، وبصرُه أحاطَ بجميع المرئيَّات، فأفعالُ العباد في ظُلمة الليل لا تخفَى عليه، وكلُّ أعمالهم هو لها بالمِرصاد. ولأن الخلقَ خلقُه فالحُكمُ له وحدَه، وأحكامُه وحدودُه وتشريعاتُه خيرُ الأحكام، ولا أحسنَ منه حُكمًا وهو خيرُ الحاكِمين، يحكمُ ولا مُعقِّبَ لحُكمه، ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا. لا أرحمَ منه، فهو أرحمُ الراحمين وخيرُهم، أرحمُ من الوالِدة بولدِها، رحمتُه وسِعَت كلَّ شيءٍ.
وأضاف: كريمٌ لا أكرمَ منه، يُحبُّ الإحسانَ والعطاءَ لخلقه، يرزقُهم من فوقهم ومن تحتهم، فضلُه عظيمٌ، وخزائنُه لا تنفَد، ويدُه ملأى لا تغيضُها نفقة، سحَّاءُ الليل والنهار. لا يرُدُّ دعوةً للعباد، ولا تتعاظمُه حاجةٌ أن يُعطِيَها، وتكفَّل - سبحانه - برِزقِ كلِّ مخلُوقٍ من الإنسِ والجنِّ، مُسلِمهم وكافِرهم، وعطاؤُه بلا منٍّ، وهو خيرُ الرازقين. فتحَ أبوابَ الخير لعباده، فسخَّر بحارًا، وأجرَى أنهارًا، وأدرَّ أرزاقًا، وأعطَى عبادَه نعمًا كثيرةً وهم لم يسألُوه إياها، ومن كل ما سألُوه آتاهم، وأوصلَ لكل مخلوقٍ رزقَه، فرزقَ الجنينَ في بطن أمِّه، والنملَ في جُحره، والطيرَ في جوِّ السماء، والحيتانَ في لُجَج الماء.
وقال حفظه الله: قريبٌ مُجيبٌ لا يرضَى أن تُرفعَ الحاجاتُ إلى غيره، ومن لم يسأَله يغضَب عليه، والمحرُومُ من طمِعَ بغير ربِّه، ولا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعُه من الله، يُشرِكون به ويدَّعون له الولدَ، ثم هو يُعافِيهم ويرزُقهم. وفَّق فضلاً منه وكرمًا أهلَ طاعته، وأثابَهم بعد توفيقه. شكورٌ يجزِي على القليل ويُجزِلُ على الكثير، الحسنةُ عنده بعشر أضعافها إلى أضعافٍ كثيرة، وأعدَّ لعباده في الجنة ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمِعَت، ولا خطرَ على قلبِ بشر.
وأضاف: غنيٌّ بذاتِه، صمدٌ تصمدُ إليه الخلائِقُ في حاجاتها، وسيِّدٌ كاملٌ لا جوفَ له، وما اتَّخذَ صاحبةً ولا ولدًا، ولم يكُن له شريكٌ في المُلك ولم يكُن له وليٌّ من الذُّلِّ، وما كان معه من إلهٍ. لن يُطاعَ إلا بفضلِه، ولا يُعصَى إلا بعلمِه، غنيٌّ عن خلقِه، قائمٌ بنفسِه، وكلُّ شيءٍ قائمٌ به مُفتقِرٌ إليه. لا تنفعُه طاعةُ الطائِعين، ولا تضُرُّه معصيةُ العاصِين، لو كان الإنسُ والجنُّ على أتقَى قلبِ رجُلٍ واحدٍ ما زادَ ذلك في مُلكه شيئًا، ولو كانوا على أفجَر قلبِ رجُلٍ ما نقصَ ذلك في مُلكِه شيئًا، لن يبلُغ العبادُ نفعَه فينفعُوه، ولن يبلُغوا ضُرَّه فيضُرُّوه.
وقال حفظه الله: حيٌّ قيُّومٌ لا تأخذُه سِنةٌ ولا نوم، يخفِضُ القسطَ ويرفعُه، يُرفعُ إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل. حجابُه نورٌ لو كشفَه لأحرقَت سُبُحات وجهه ما انتهَى إليه بصرُه، كبيرٌ عظيمٌ جبَّار متينٌ، العزَّةُ إزارُه، والكبرياءُ رِداؤُه، قويٌّ لا ظهيرَ له، وعليٌّ لا مثيلَ له، كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلا وجهَه، مُحيطٌ بكل شيءٍ ولا يُحيطُ به شيءٌ، والأرضُ جميعًا قبضتُه يوم القيامة والسماواتُ مطويَّاتٌ بيمينه، لا يسُتشفَعُ به على أحدٍ من خلقه، ولا يشفعُ عنده أحدٌ إلا بإذنه.
وقال وفقه الله: وكرسيُّه موضِعُ قدمَيه، وسِع السماوات والأرض، وما الكرسيُّ في العرشِ إلا كحلقةٍ من حديدٍ أُلقِيَت في فلاة، والعرشُ أعظمُ المخلُوقات يحملُه ملائكةٌ ما بين شحمةِ أُذُنِ أحدهم إلى عاتقِه مسيرةُ سبعمائة عام. والله مُستوٍ على عرشِه كما يليقُ بجلاله، والله مُستغنٍ عن العرش وما دُونَه. سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ تنزَّه عن كل عيبٍ ونقصٍ، له من الكمالِ أعلاه، ومن التمام والجمال أسناه، لا نِدَّ له ولا مثيلَ ولا سمِيَّ له ولا نظيرَ.
وختم الشيخ خطبته بالحث على إجلال الله تعالى وعدم الشرك به، فقال: أفلا يجبُ علينا أن نُحبَّ ربَّنا الذي هذه صفاتُه وأفعالُه، وأن نحمده ونُثنِي عليه ونُخلِصَ له العبادة، ومن عرفَ اللهَ اقتربَ منه وخضعَ له وذلَّ وأنِسَ به واطمأنَّ، ورجَا ثوابَه وخافَ عقابَه وأنزلَ به حاجاته، وتوكَّل عليه. من أشركَ بالله غيرَه من المخلُوقين والأموات فقد تنقَّص ربَّ العالمين، وأساءَ به الظنَّ وسوَّى غيرَه به، والشركُ يُحبِطُ جميعَ الأعمال، ولا يغفِرُ الله لصاحبِه ولا يُدخِلُه الجنةَ، وفي النار من الخالدِين. وهو أشدُّ تغيُّرٍ أصابَ الفطرة، وأكبرُ فسادٍ في الأرض، وأصلُ كل بلاءٍ، ومجمعُ كل داءٍ، ضررُه عظيمٌ، وخطرُه وخيمٌ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم