مختصر خطبتي الحرمين 4 ربيع الأول 1436هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

اقتباس

الحَسيبُ من يعُدُّ عليك أنفاسَك، ويصرِفُ بفضلِه عنك بأسَك. الذي يُرجَى خيرُه، ويكفِي بفضلِه ويصرِفُ الآفات بطَولِه. هو الذي إذا رُفِعَت إليه الحوائِجُ قضاها، وإذا حكَمَ بقضيَّةٍ أبرَمَها وأمضاها. والوكيلُ هو الذي يتولَّى بإحسانِه شُؤونَ عبادِه، فلا يُضيِّعُهم ولا يترُكُهم ولا يكِلُهم إلى غيرِه، وهو حسبُ من توكَّل عليه، وكان مُلتجِئًا إليه. هو الذي يُؤمِّنُ خوفَ الخائِف، ويُجيرُ المُستَجير، نِعمَ المولَى ونِعمَ النصير. فمن تولاَّه واستنصَرَ به وتوكَّلَ عليه، وانقطَعَ بكلِّيَّته إليه تولاَّه وحفِظَه وحرَسَه وصانَه...

 

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أعمال تُدخل الجنة"، والتي تحدَّث فيها عن الجنة وما أعدَّ الله لعباده فيها من نعيمٍ مُقيم، وأجرٍِ جزيلٍ، وخيراتٍ كثيرة، مُبيِّنًا بعضَ أهم الأعمال وأبرَزها والتي تُدخِلُ أصحابَها الجنة من أيِّ أبوابِ الجنة شاؤُوا، ثم ذكرَ في خطبته الثانية الأدلة على فضلِ الإصلاح بين المُتنازِعين من المسلمين.

 

وأوصى الشيخ المصلين بتقوى الله –سبحانه وتعالى-، فقال: فاتقوا الله - عباد الله -، وتزوَّدوا ليوم المعاد بخير زادٍ؛ فالسعيدُ من تزوَّد من دُنياه لأُخراه، واتَّقَى اللهَ مولاه، وسلكَ إليه سبيلَ كل مُخبِتٍ أوَّاه.

 

وأضاف فضيلته: عباد الله: مطمَحُ آمال المتقين، وغايةُ مقصِد الأوَّابين، ومُنتهَى أمانِي المُخبِتين: النظرُ إلى وجه الربِّ الكريم في جناتِ الفردوس مُنعَّمين، مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، في نعيمٍ مُقيمٍ هو حُسنُ المآب الذي وعدَ الله به عبادَه في قولِه - عزَّ اسمُه -: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) [ص: 49- 54].

 

إنه النعيمُ المُقيمُ الذي أخبرَ عنه الصادقُ المصدوقُ - الذي لا ينطِقُ عن الهوى - بقولِه - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: «قال الله - عز وجل -: أعدَدتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمِعَت، ولا خطَرَ على قلبِ بشر، مِصداقُ ذلك في كتاب الله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]» (أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -).

 

وقال -وفَّقه الله-: وإذا كانت الجنةُ مُفتَّحةَ الأبواب للمتقين إكرامًا من الله -تعالى- ومزيدَ تفضُّلٍ منه وإنعامٍ، وإشارةٍ إلى تصرُّفهم وذهابِهم وإيابِهم، وتبوُّؤهم في الجنة حيث شاؤُوا، ودخول الملائِكة عليهم كل وقتٍ بالتُّحَف والألطافِ من ربِّهم، ودخول ما يسُرُّهم عليهم كل وقتٍ.

 

وأضاف: جاء هذا في بيانِ الجزاء الضافِي والأجر الكريم الذي جعلَه الله لأعمالٍ عمِلُوها، مُخلِصين لله فيها، مُتابِعين مُقتَدين فيها برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

وفي الطَّليعةِ من ذلك: أن يقدَمَ العبدُ على ربِّه يوم القيامة مُوحِّدًا إياه، عابدًا له وحدَه، بصرفِ أنواعِ العبادةِ كلِّها له - سبحانه -؛ من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ، وتوبةٍ وإنابةٍ وخضوعٍ وخشوعٍ، وخشيةٍ ورجاءٍِ ومحبَّةٍ وذبحٍ ونذرٍ، واجتنَبَ الشركَ وكل ما حرَّم الله عليه، وفي مُقدِّمة ذلك الدمُ الحرامُ فلم يُصِب منه شيئًا، وسمِعَ وأطاعَ لوليِّ الأمر المُسلم في منشَطِه ومكرَهِه، وعُسرِه ويُسرِه، وأَثَرَةٍ عليه.

 

فإنه يُثابُ على ذلك بأن يدخُل من أيِّ أبوابِ الجنَّة شاء، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الإمام أحمدُ في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه" بإسنادٍ صحيحٍ، عن عُقبة بن عامر الجُهنيِّ - رضي الله عنه -، أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس من عبدٍ يلقَى اللهَ - عز وجل - لا يُشرِكُ به شيئًا، ولم يتندَّ بدمٍ حرامٍ، إلا دخلَ من أيِّ أبوابِ الجنةِ شاء».

 

وفي "المسند" للإمام أحمد بسندٍ حسنٍ، عن عُبادة بن الصامِت - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عبَدَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا، فأقامَ الصلاة، وآتَى الزكاة، وسمِعَ وأطاع؛ فإن الله تعالى يُدخِلُه من أيِّ أبوابِ الجنة شاء، ولها ثمانيةُ أبواب ..» الحديث.

 

وأضاف الشيخ: ومن ذلك: ما جاء في "الصحيحين" من حديث عُبادة بن الصامِت - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأن مُحمدًا عبدُه ورسولُه، وأن عيسَى عبدُ الله وابنُ أمَتِه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حقٌّ، وأن النارَ حقٌّ؛ أدخلَه الله من أيِّ أبوابِ الجنة الثمانية شاء».

 

وفيه - كما قال أهلُ العلم بالحديث -: دلالةٌ على فضلِ هذه الشهادة العظيمة؛ وما ذلك إلا لأن هذه الشهادة تقتَضِي قِيامَ الشاهِد بما عليه من الحق، واستقامَتَه على ذلك؛ إذ الشهادةُ الصادقةُ تقتَضِي العملَ بما أوجبَه عليه الله ورسولُه.

 

فإن نكَصَ على عقِبَيه، وأصرَّ على المعصية، وتجافَى عن الطاعة؛ كان ذلك دليلاً بيِّنًا على خلَلٍ في شهادتِه، ونقصٍ في عهدِه والتِزامِه.

 

وقال -حفظه الله-: وما جعل الله عليه هذا الثوابَ العظيمَ أيضًا: أن يتوضَّأَ المُسلمُ، فيُحسِنُ وضوءَه باستِيفاءِ أركانِه وواجِباتِه وشُروطِه وسُنَنه وآدابه، ثم يُعقِبُ ذلك بالشهادتَين ويقول: «اللهم اجعَلني من التوابين، واجعَلني من المُتطهِّرين».

 

فقد أخرج الترمذي في "جامعه" بإسنادٍ صحيحٍ، عن أمير المؤمنين الفاروق عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، اللهم اجعَلني من التوابين، واجعَلني من المُتطهِّرين؛ فُتِحَت له ثمانيةُ أبوابِ الجنة يدخُلُ من أيِّها شاء».

 

وأضاف فضيلته: ووعدَ الله بهذا الجزاء أيضًا: من تجهَّمَت له الأيام، ونزَلَ به قضاءُ الله تعالى بقبضِ ثلاثةٍ من ولدِه، هم ثمراتُ فؤادِه، وفلَذَاتُ كبدِه، ورياحِينُ حياتِه، لم يبلُغ أحدٌ منهم سنَّ التكليفِ الشرعيِّ، فكان عند الله من المُكرَمين بهذا الإكرام؛ لقاءَ صبره على قدَرِ الله، واحتِسابِه الأجر على مُصابِه، رجاءَ حُسن العاقبة فيه، وجميل الموعودِ عليه الوارِد في الحديث الذي أخرجَه الإمام أحمد في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه" بإسنادٍ حسنٍ، عن شُرحبِيل بن شُفعة، أنه قال: لقِيَني عُتبةُ بن عبدٍ السُّلَميُّ، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من مُسلمٍ يموتُ له ثلاثةٌ من الولَد لم يبلُغُوا الحِنثَ؛ إلا تلقَّوه من أبوابِ الجنةِ الثمانية من أيِّها شاءَ دخل».

 

وفي "مسند الإمام أحمد" أيضًا، و"سنن النسائي" بإسنادٍ صحيحٍ، عن مُعاوية بن قُرَّة، عن أبيه - رضي الله عنه -، أنه قال: أن رجُلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابنٌ له، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «أتُحبُّه؟». فقال: أحبَّك الله كما أحبُّه، فمات - يعني الابن -. ففقَدَه النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقَدَ أباه -، فسألَ عنه، فجاء فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «أما يسُرُّك ألا تأتِيَ بابًا من أبوابِ الجنةِ إلا وجدتَه عنده يسعَى يفتَحُ لك؟».

 

وجعل الله للمرأة الصالِحة نصيبًا موفورًا من هذا الموعود؛ جزاء ما استَجابَت لله فأطاعَته، بالمُحافَظة على ما افترَضَه عليها من الصلوات الخمسِ فأحسَنَت أداءَها، وصامَت فريضةَ الله في شهر رمضان، وأدَّت ما لزوجِها من حقوقٍ عليها، فأطاعَته بالمعروف، وحفِظَته في نفسِها ومالِه، فلم تخُنْه فيما ائتَمَنَها عليه، مُبتغِيَةً بذلك وجهَ ربِّها، عامِلةً في كل شأنِها بما يُرضِيه، واستحقَّت عنده - سبحانه - هذا الجزاءَ الذي جاء في الحديث الذي أخرجَه ابن حبَّان في "صحيحه" بسندٍ صحيحٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَت فرْجَها، وأطاعَت زوجَها؛ قيل لها: ادخُلي الجنةَ من أيِّ أبوابِ الجنة شِئتِ». فلَهنيئًا لها ولهؤلاء العامِلين من قبلِها.

 

وقال -وفقه الله-: إن الإصلاحَ بين المُتنازِعين، والتقريبَ بين المُختصِمين من الإخوة في الدين بابٌ من أعظمِ أبوابِ الخير الذي يُحبُّه الله ورسولُه، ويدعُو إليه، ويحُثُّ عليه بأبلَغ عبارة، وألطَف إشارة، مع جميلِ الموعود عليها؛ حيث قال - سبحانه -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]، وقال - عزَّ من قائل -: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

 

ومعناه - كما قال ابنُ جريرٍ - رحمه الله -: "لا خيرَ في كثيرٍ من نجوَى الناس - يعني: كلامَهم جميعًا - إلا من أمَرَ بصدقةٍ، أو معروفٍ، والمعروفُ هو كلُّ ما أمَرَ الله به أو ندَبَ إليه من أعمال البرِّ والخير، أو إصلاحٍ بين الناس، وهو الإصلاحُ بين المُتبايِنين أو المُختَصِمين بما أباحَ الله الإصلاحَ بينهما؛ ليتراجَعَا إلى ما فيه الأُلفةُ واجتماعُ الكلِمة، على ما أذِنَ الله وأمَرَ به".

 

"ثم أخبرَ - جلَّ ثناؤُه - بما وعدَ من فعلَ ذلك فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) أي: فسوفَ نُعطِيه جزاءً لما فعلَ من ذلك أجرًا عظيمًا، ولا حدَّ لمبلَغ ما سمَّى الله عظيمًا يعلمُه سِواه". اهـ كلامُه.

 

وأضاف سماحته: وجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لإصلاحِ ذاتِ البَين منزلةً رفيعةً، ومقامًا كريمًا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «ألا أُخبِرُكم بأفضَلِ من درجَة الصيام والصلاة والصدقة؟». قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاحُ ذاتِ البَين»، قال: «وفسادُ ذاتِ البَين هي الحالِقة»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"،والترمذي في "جامعه" بإسنادٍ صحيحٍ. والحالِقَة هي: الخصلةُ التي من شأنِها أن تحلِقَ الدينَ وتستأصِلَه كما يستأصِلُ المُوسَى الشعَرَ.

 

وختم الشيخ خطبته مشيدًا بما وفَّق الله إليه وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - إلى الأخذِ بهذا النهجِ الإسلاميِّ السَّديد، في الإصلاحِ بين الإخوة، فتولَّى أمرَ الإصلاحِ بين البلدَين العربيَّين المُسلِمَين: مصرَ وقطرَ، ورعَى جهودَ الوساطَة الخيِّرة بينهما. فكان سعيُه مشكورًا، وعملُه - إن شاءَ الله - عملاً صالِحًا مبرورًا. نسألُ الرحمنَ الرحيم ربَّ العرش الكريم أن يتقبَّلَه منه، وأن يُعظِمَ له الأجر، ويُجزِلَ المثوبَةَ، ويُحسِنَ الجزاءَ بمنِّه وكرمِه، إنه أكرمُ مسؤول.

 

المدينة النبوية:

 

ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: ("حسبنا الله ونعم الوكيل" .. معناها وفضلها)، والتي تحدَّث فيها عن قولِ: "حسبنا الله ونعم الوكيل" مُعرِّجًا على أهم المعاني المُستنبَطة منها، كما ذكرَ المواقفَ العديدة التي ذُكِرَت فيها في كتاب الله تعالى وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، كما وضَّح اللبسَ الذي يحدث لبعض الناس من قولِها، وأنها ليست ذريعةً للذلِّ والاستِكانة.

 

واستهل فضيلته خطبته بنصح المصلين بتقوى الله قائلاً: أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

وأضاف الشيخ: "حسبُنا الله ونِعم الوكيل" كلمةٌ عظيمة تحوِي جليلَ المعاني، وروعةَ المضمون، وذاتُ تأثيرٍ قويٍّ.

 

الحَسيبُ من يعُدُّ عليك أنفاسَك، ويصرِفُ بفضلِه عنك بأسَك. الذي يُرجَى خيرُه، ويكفِي بفضلِه ويصرِفُ الآفات بطَولِه. هو الذي إذا رُفِعَت إليه الحوائِجُ قضاها، وإذا حكَمَ بقضيَّةٍ أبرَمَها وأمضاها.

 

وقال -وفَّقه الله-: وكفَى بالله حسيبًا، معناه: المُدرِكُ للأجزاء والمقادِير التي يعلمُ العبادُ أمثالَها بالحساب، والله يعلمُ من غير أن يحسِب، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3] ؛ أي: كافِيه أمورَ دينِه ودُنياه، الكافِي عبدَه هُمومَه وغُمومَه.

 

وكل كفايةٍ حصَلَت فإنما حصَلَت به أو بشيءٍ من مخلوقاته، وكل كفايةٍ حصَلَت بمخلوقاته فهي في الحقيقةِ إنما حصَلَت به.

 

"ونِعمَ الوكيل": نِعمَ المُتوكَّل عليه في جلبِ النَّعماء، ودفعِ الضُّرِّ والبلاء. الوكيلُ الذي توكَّل بالعالَمين خلقًا وتدبيرًا وهدايةً وتقديرًا.

 

وقال -حفظه الله-: الوكيلُ هو الذي يتولَّى بإحسانِه شُؤونَ عبادِه، فلا يُضيِّعُهم ولا يترُكُهم ولا يكِلُهم إلى غيرِه، ومنه: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم رحمتَك أرجُو، فلا تكِلني إلى نفسِي طرفَةَ عينٍ»؛ أي: فلا تكِلني إلى نفسِي وتصرِفُني إليه، ومن وُكِلَ إلى نفسِه هلَك.

 

وأضاف الشيخ: "حسبُنا الله ونِعم الوكيل" أي: هو حسبُ من توكَّل عليه، وكان مُلتجِئًا إليه. هو الذي يُؤمِّنُ خوفَ الخائِف، ويُجيرُ المُستَجير، نِعمَ المولَى ونِعمَ النصير. فمن تولاَّه واستنصَرَ به وتوكَّلَ عليه، وانقطَعَ بكلِّيَّته إليه تولاَّه وحفِظَه وحرَسَه وصانَه.

 

ومن خافَه واتَّقاه أمَّنَه مما يخافُ ويحذَر، وجلَبَ إليه كل ما يحتاجُ إليه من المنافِع، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2، 3].

 

فلا تستبطِئ نصرَه ورِزقَه وعافيتَه؛ فإن الله بالِغُ أمره، وقد جعلَ الله لكل شيءٍ قدْرًا. قدْرًا لا يتقدَّمُ عنه ولا يتأخَّر، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64]، أي: كافِيكَ وكافِي أتباعك، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر: 36].

 

وأضاف الشيخ: وسِرُّ الكفاية: تحقيقُ العبودية؛ فكلما ازدادَت عبوديَّةُ العبد لله كلما ازدادَت كفايةُ الله - عز وجل - له. فازدَد عبوديَّةً يزِدكَ الله - عز وجل - كِفايةً وحِفظًا.

 

"حسبي الله ونِعمَ الوكيل" ملاذُ العبد وملجَؤُه حالَ الأزمة الشديدة، والضائِقةِ العظيمة .. هي أمضَى من القوَى المادية، والأسباب الأرضيَّة .. هي مفزَعُ المُسلم إن سُلِبَ مالُه، وضعُفَ عن بلوغ حقِّه، وقلَّ أعوانُه.

 

هي سَلواهُ في المصائِب، وحِصنُه في الشدائِد، حين يقولُها بيقينٍ راسِخٍ؛ فإنه يعتقِدُ أن لا حولَ إلا حولُ الله، ولا قوةَ إلا قوةُ الله.

 

إذا نزلَت بالعبدِ نكبةٌ، وألَمَّت به مُصيبةٌ، وقال: "حسبيَ الله ونِعمَ الوكيل" تفرَّغَ قلبُه من كل شيءٍ إلا الله وحده، وهذا يجعلُ المكروبَ والمُبتلَى يُحسُّ في قَرارَةِ يقينِه وقلبِه أن الأمورَ بيدِ الله.

 

وأضاف فضيلته: "حسبُنا الله ونِعم الوكيل" دُعاءُ مسألة، وعِلاجٌ لكل ما يُهِمُّ المُسلِمَ من أمرِ الدنيا والآخرة، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال إذا أصبحَ وإذا أمسَى: حسبِيَ الله لا إله إلا هو عليه توكَّلتُ، وهو ربُّ العرش العظيم سبعَ مراتٍ؛ كفَاه الله ما أهمَّه».

 

وقال -حفظه الله-: "حسبِيَ الله ونِعمَ الوكيل" قالَها إبراهيمُ - عليه السلام - حين أُلقِيَ في النار، فغَدَت بردًا وسلامًا. وقالَها رسولُنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران: 173، 174].

 

إنها تعنِي: تفويضَ الأمر إليه - سبحانه - بعد الأخذ بالأسباب، فلا يطلُبُون الشفاءَ إلا منه، ولا يطلُبُون الغِنَى إلا منه، ولا يطلُبُون العِزَّ إلا منه. فكلُّ أمورهم مُتعلِّقةٌ بالله رجاءً وطمَعًا ورغبةً.

 

وأضاف سماحته: "حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل" دُعاءُ الأقوياء، من قوِيَت قلوبُهم فلا تُؤثِّرُ فيها الأوهام، ولا تُزعِجُهم الحوادِث، ولا يتسرَّبُ إليهم خوفٌ ولا خَوَر؛ لعلمِهم أن الله تكفَّل لمن توكَّل عليه بالكفايةِ التامَّة، فيثِقُ بالله، ويطمئنُّ وعدِه، فيزُولُ همُّه وقلَقُه، ويتبدَّلُ عُسرُه يُسرًا، وتَرَحُه فرَحًا، وخوفُه أمنًا.

 

وقال -وفقه الله-: "حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل" سِلاحُ الداعية إلى الله؛ فالمُؤمنُ الحقُّ لا يفُتُّ الإرجافُ في عضُدِه، فهو واثِقُ الخُطَى، خالِصُ التوكُّل، عظيمُ الثَّبات، قال الله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 129].

 

فالذين يُبلِّغُون دينَ الله عالِمون أن الله وليُّهم، فيخشَونَه ولا يُبالُون بالمُثبِّطين، هم على ثقةٍ بأنهم على حقٍّ، وأن دينَهم حقٌّ، وأن الله ناصِرُهم ولو بعدَ حين.

 

فلو سلَّم المُسلمُ لأمر الله، ورضِيَ لحُكمه لكان خيرًا له وأعظم. رِضا التسليم والاقتِناع لا رِضا القهر والغلَب. والاكتفاءُ بالله، والله كافٍ عبدَه.

 

وقال الشيخ: "حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل" وصيَّةُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته عند الشدائِد؛ حيث قال: «كيف أنعَمُ وصاحبُ القرن قد التَقَمَ القرنَ واستمَعَ الإذنَ متى يُؤمَرُ بالنفخِ فينفُخ»، فكأنَّ ذلك ثقُلَ على أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: «قُولوا: حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، على الله توكَّلنا».

 

وأضاف: ومن كان الله حسيبَه لا ينشغِلُ بالُه بما يَكيدُه الكائِدُون، ولا تُقلِقُه مُؤامراتُ المُتربِّصين، وما بيَّت له أهلُ الكفر أو الضلال، ولهذا طمأنَ الله - سبحانه وتعالى - نبيَّه وأنزلَ عليه: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) [الأنفال: 62].

 

وختم الشيخ خطبته بالحث على ضرورة فهم مقاصد الأذكار الشرعية فقال: ولا يُفهَمُ من هذا - عباد الله -: أن يُوارِيَ الرجلُ عجزَه بالحسبَلَة والحوقَلَة؛ فهذا مظهرٌ من مظاهر الضعفِ والذلِّ. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمُ أصحابَه: «اللهم إني أعوذُ بك من الهمّ والحَزَن، والعجزِ والكَسَل، والبُخل والجُبن، وضلَعِ الدَّين وغلَبَة الرِّجال».

 

فيُواجِهُ المُسلمُ الأحداثَ والمواقِف بـ "حسبِيَ الله ونِعمَ الوكيل" مُستشعِرًا جلالةَ معانِيها، وعظيمَ مدلُولِها، مع العملِ الجادِّ، واتخاذِ الأسبابِ بحكمةٍ وبصيرةٍ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعُك، واستعِن بالله ولا تعجَز».

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات