فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/وقفات مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام "من أصبح منكم آمنا في سربه...".

اقتباس

لِذَا لِأَهَمِّيَّةِ الْأَمْنِ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْعُقُوبَاتِ الصَّارِمَةِ، وَالْأَحْكَامِ الزَّاجِرَةِ لِكُلِّ عَابِثٍ بِأَمْنِ رَعَايَاهَا، وَمُخِلٍّ بِاسْتِقْرَارِهَا؛ فَلَا تَسْتَغْرِبْ إِنْ كَانَ أَوَّلُ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ أَنْ يُحَقِّقَ الْأَمْنَ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ؛ كَوْنَ الْأَمْنِ لَا يُقَامُ دِينٌ إِلَّا فِي ظِلِّهِ، وَلَا دُنْيَا إِلَّا تَحْتَ وَرَافِهِ...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمِهِ الْمُتَتَالِيَةِ، وَعَطَايَاهُ الْوَاسِعَةِ، وَآلَائِهِ الْمُتَوَالِيَةِ، الْمُتَوَعِّدِ مَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ بِالنِّقَمِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَأَصْبَحَتْ عُرُوشُهَا وَآثَارُهَا مِنْ بَعْدِ بَطْشِهِ خَاوِيَةً؛ ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا أَوْلَاكُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ، وَاحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ قَبْلَ حُلُولِ النِّقَمِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1].

 

عِبَادَ اللَّهِ: ثَبَتَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا".

 

هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ لَفَتَ عِنَايَةَ أُمَّتِهِ فِيهِ إِلَى أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ حَيَاةِ الْمَرْءِ، وَحَدَّدَهَا فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَسَاسِيَّةٍ:

أَوَّلُهَا قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "آمِنًا فِي سِرْبِهِ"؛ أَيْ: فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ لَا يَخَافُ عَدُوًّا وَلَا يَخْشَى مُتَرَبِّصًا؛ وَنِعْمَةُ الْأَمْنِ احْتَلَّتْ أُولَى هَذِهِ الْمُقَوِّمَاتِ وَأَهَمِّهَا؛ وَهِيَ نِعْمَةٌ لَا يَعْرِفُ قِيمَتَهَا إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا وَلَا يُدْرِكُ مَكَانَتَهَا إِلَّا مَنْ سُلِبَهَا وَعَاشَ بَدِيلَهَا الْخَوْفَ يَتَجَرَّعُ مَرَارَتَهَا وَيَكْتَوِي لَظَاهَا.

 

وَاسْأَلُوا إِنْ شِئْتُمْ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- دُوَلًا حِينَ فَقَدَتْ أَمْنَهَا كَيْفَ صَارَتْ أَحْوَالُهَا، وَبُلْدَانًا لَمَّا غَابَ اسْتِقْرَارُهَا كَيْفَ سَاءَتْ أَوْضَاعُهَا، سَلُوهُمْ كَيْفَ عَاشُوا بَعْدَهَا خَوْفًا لَا يَأْمَنُونَ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَرُعْبًا لَا يَطْمَئِنُّونَ فِيهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ.

 

نَعَمْ لَقَدْ تَغَيَّرَتْ عَلَيْهِمْ دُنْيَاهُمْ فَلَمْ تَعُدْ تِلْكَ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَ، وَأَرْضُهُمْ فَلَمْ تَعُدْ تِلْكَ الَّتِي يَأْلَفُونَ؛ لَقَدْ تَبَدَّلَ أَمْنُهُمْ خَوْفًا وَغِنَاهُمْ فَقْرًا وَصِحَّتُهُمْ سَقَمًا، وَعِزُّهُمْ ذُلًّا، وَاجْتِمَاعُهُمْ تَفَرُّقًا وَفَرَحُهُمْ تَرَحًا.

 

آهٍ لَوْ رَأَيْتَهُمْ وَقَدْ لَبِسَتْهُمُ الْأَحْزَانُ، وَرَافَقَتْهُمُ الْأَمْرَاضُ، وَرَكِبَتْهُمُ الْهُمُومُ، وَنَزَلَتْ بِهِمُ الْمَجَاعَاتُ، وَخَالَطَتْهُمُ الْمُدْلَهِمَّاتُ، وَتَعَرَّضُوا لِلْوَيْلَاتِ.. فَصَارَتْ حَيَاتُهُمْ شَقَاءً، وَتَحَوَّلَتْ عِيشَتَهُمْ عَنَاءً؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَغْرَبٍ؛ إِذْ كَيْفَ يَخْشَعُ بِطَاعَةٍ، وَيَهْنَأُ بِنَوْمٍ وَيَتَلَذَّذُ بِطَعَامٍ وَيَسْتَسِيغُ شَرَابًا، وَيَسْتَمْتِعُ بِدُنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ مَسَاكِنَ وَزَوْجَاتٍ وَأَوْلَادٍ مَنْ فَارَقَ الْأَمْنُ وَطَنَهُ، وَغَادَرَ الِاسْتِقْرَارُ دِيَارَهُ.

 

فِي ظِلِّ الْخَوْفِ -يَا مُسْلِمُونَ- كَيْفَ لِمُسَافِرٍ أَنْ يَرْحَلَ لِحَاجَتِهِ لِيَقْضِيَهَا أَوْ صَاحِبِ رَحِمٍ لِيَصِلَهَا، وَلِتِجَارَةٍ أَنْ يَجْلِبَهَا، أَوْ لِمَسْأَلَةٍ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا، أَوْ قَاصِدِ مَكَّةَ بُغْيَةَ حَجِّ الْبَيْتِ، أَوِ الْعُمْرَةِ لِيُؤَدِّيَهَا.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِذَا انْعَدَمَ الْأَمْنُ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ أَعْرَاضٍ إِذَا دُنِّسَتْ، وَلَا مُدُنٍ إِذَا هِيَ دُمِّرَتْ، وَأَوْطَانٍ إِذَا هُجِرَتْ، وَلَا أَمْوَالٍ إِذَا هِيَ سُلِبَتْ، وَتِجَارَةٍ إِذَا كَسَدَتْ، وَلَا شَرِيعَةٍ إِذَا أَحْكَامُهَا عُطِّلَتْ، وَمَسَاجِدَ إِذَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالذِّكْرِ خَلَتْ، وَلَا الذُّرِّيَّةِ إِذَا هِيَ يُتِّمَتْ، وَالنِّسَاءُ إِذَا رُمِّلَتْ، وَلَا الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ إِذَا هِيَ نُقِضَتْ.

 

إِذَا غَابَ الْأَمْنُ فَلَا دَوْلَةَ تَحْكُمُ، وَلَا شَرِيعَةَ تُطَبَّقُ، وَلَا كَرَامَةَ تُحْفَظُ، وَلَا تَعْلِيمَ يُكْتَسَبُ، وَلَا حَضَارَةَ تُبْنَى، وَلَا اقْتِصَادَ يَنْهَضُ.

 

إِذَا انْعَدَمَ الْأَمْنُ فَلَا صِنَاعَاتٌ وَلَا ابْتِكَارَاتٌ، وَلَنْ تَعْمُرَ دُنْيَا، وَلَنْ يُسْتَعَدَّ لِآخِرَةٍ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ -تَعَالَى-.

 

إِذَا رَحَلَ الْأَمْنُ أَصْبَحَ الْمُجْتَمَعُ كَلَأً مُبَاحًا لِكُلِّ النَّاهِبِينَ وَالْمُتَسَلِّطِينَ، وَمَرْتَعًا خِصْبًا لِكُلِّ الطَّامِعِينَ وَالْعَابِثِينَ.

 

إِذَا غَابَ الْأَمْنُ صَارَتِ الْحَيَاةُ بِلَا مَعْنًى، وَالْعَيْشُ بِلَا جَدْوَى؛ وَلَمْ يَجِدْ فَرْدٌ فِي حَيَاتِهِ سَلْوَى، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ هَمَّهِ مَفَرٌّ وَلَا مَأْوَى.

 

لِذَا لِأَهَمِّيَّةِ الْأَمْنِ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْعُقُوبَاتِ الصَّارِمَةِ، وَالْأَحْكَامِ الزَّاجِرَةِ، لِكُلِّ عَابِثٍ بِأَمْنِ رَعَايَاهَا، وَمُخِلٍّ بِاسْتِقْرَارِهَا؛ فَلَا تَسْتَغْرِبْ إِنْ كَانَ أَوَّلُ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ أَنْ يُحَقِّقَ الْأَمْنَ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ؛ قَالَ اللَّهُ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إِبْرَاهِيمَ: 35]؛كَوْنَ الْأَمْنِ لَا يُقَامُ دِينٌ إِلَّا فِي ظِلِّهِ، وَلَا دُنْيَا إِلَّا تَحْتَ وَرَافِهِ.

 

وَلَا تَسْتَغْرِبْ إِنْ كَانَ الْأَمْنُ النِّعْمَةَ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ يُذَكِّرَهُمْ بِهَا لِيَسُوقَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ؛ فَقَالَ: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قُرَيْشٍ: 3-4].

 

وَمَتَى ضَيَّعَتِ أُمَّةُ الْإِسْلَامِ شَرِيعَةَ رَبِّهَا وَجَحَدَتْ نِعَمَهُ وَتَغَافَلَتْ عَنْ شُكْرِهِ أَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ؛ قَالَ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النَّحْلِ: 112]؛ يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: "سَمَّى اللَّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ لِبَاسًا؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهُزَالِ وَشُحُوبَةِ اللَّوْنِ وَسُوءِ الْحَالِ مَا هُوَ كَاللِّبَاسِ"، وَيَقُولُ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِيَّاكُمْ وَالْفِتْنَةَ فَلَا تَهُمُّوا بِهَا فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْمَعِيشَةَ وَتُكَدِّرُ النِّعْمَةَ وَتُورِثُ الِاسْتِئْصَالَ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مُعَافًى فِي جَسَدِهِ"؛ أَيْ: لَا يَشْتَكِي أَلَمًا وَلَا يُقَاوِمُ مَرَضًا، يَسْتَخْدِمُ جَوَارِحَهُ، قَادِرًا عَلَى التَّكَسُّبِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْحَرَكَةِ وَالنَّوْمِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمُقَوِّمُ الثَّانِي مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْحَيَاةِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ.

 

وَالْعَافِيَةُ -أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ- مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي تَنْشُدُهَا كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ؛ الْإِنْسَانُ فِي دَارِهِ، وَالطَّيْرُ فِي عُشِّهِ، وَالْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا، وَالْوُحُوشُ فِي غَابَاتِهَا... وَكُلُّ مَخْلُوقٍ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَيْفَ لِمَخْلُوقٍ أَيًّا كَانَ نَوْعُهُ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، أَوْ رِجْلَيْنِ، أَوْ عَلَى أَرْبَعٍ، يَسَعُهُ عَيْشُهُ، وَيَطِيبُ لَهُ مَأْكَلُهُ وَمَشْرَبُهُ، وَيَهْنَأُ بِمَسْكَنِهِ وَمَنْكَحِهِ، وَهُوَ يَشْتَكِي أَلَمًا، أَوْ يُكَابِدُ وَجَعًا؟!

 

وَمَاذَا تُغْنِي ثَرَوَاتٌ وَأَرْصِدَةٌ وَأَوْلَادٌ وَعَشِيرَةٌ وَقُصُورٌ وَمَرَاكِبُ رَجُلًا فَقَدَ صِحَّتَهُ وَسُلِبَ عَافِيَتَهُ وَشُلَّتْ حَرَكَتُهُ؟!

 

مَاذَا يُغْنِي رَجُلًا أَنْ يَكُونَ أَبًا لِأَوْلَادٍ كُثُرٍ بَيْنَ عَشِيرَةٍ وَاسِعَةٍ، وَمَرَاكِبَ فَارِهَةٍ، وَمَسَاكِنَ وَاسِعَةٍ رَاقِيَةٍ، وَأَرْصِدَةٍ وَثَرْوَةٍ طَائِلَةٍ، لَكِنَّهُ مَحْرُومٌ مِنَ التَّلَذُّذِ بِهَا، فَاقِدٌ صَلَاحِيَّةَ الِاسْتِمْتَاعِ بِأَيٍّ مِنْ طَيِّبَاتِهَا، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ أَيٍّ مِنْ لَذَّاتِهَا.

 

لَكَمْ شَاهَدْنَا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- أَقْوَامًا كَانَ طَعَامُهُمُ الْمُغَذِّيَاتِ الْوَرِيدِيَّةَ، وَعَايَشْنَا أُنَاسًا مَرَاكِبُهُمُ الْأَسِرَّةُ الْمُتَحَرِّكَةُ لَا يَبْرَحُونَهَا، حَتَّى إِلَى دَوْرَةِ الْمِيَاهِ لِيَقْضُوا حَاجَتَهُمْ، أَوْ يَغْسِلُوا أَدْرَانَهُمْ؛ بَلْ يَقْضُونَ لَيَالِيَهُمْ سَهَرًا وَأَنِينًا، وَيُمْضُونَ نَهَارَهُمْ بُكَاءً وَزَفِيرًا، فَصَارَتْ غُرَفُهُمْ لَهُمْ قُبُورًا.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَمْ مَرْضَى ضَاقَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ رَغْمَ مَا يَمْلِكُونَ! وَتَضَوَّرَتْ بُطُونُهُمْ جُوعًا رَغْمَ مَا يَحُوزُونَ! كَمْ مَرْضَى نَفَرَ مِنْهُمُ الْأَهْلُونَ وَالْأَقْرَبُونَ وَتَذَمَّرَ مِنْهُمُ الْأَصْدِقَاءُ وَالْمُمَرِّضُونَ وَهُمْ عَنْ نَفْعِهِ عَاجِزُونَ!.

 

عِبَادَ اللَّهِ: فِي هَذَا الْأَثَرِ إِدْرَاكٌ لِنِعْمَةِ الصِّحَّةِ وَقِيمَةِ الْعَافِيَةِ؛ قِيلَ: إِنَّ عَابِدًا عَبَدَ اللَّهَ -تَعَالَى- خَمْسِينَ سَنَةً فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ ذَلِكَ النَّبِيُّ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَأَيَّ ذَنْبٍ تَغْفِرُ لِي؟ فَأَمَرَ عِرْقًا فِي عُنُقِهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَنَمْ وَلَمْ يَهْدَأْ وَلَمْ يُصَلِّ لَيْلَتَهُ، ثُمَّ سَكَنَ الْعِرْقُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ: مَا لَاقَيْتُ مِنْ عِرْقٍ ضَرَبَ عَلَيَّ فِي عُنُقِي ثُمَّ سَكَنَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ عِبَادَتَكَ خَمْسِينَ سَنَةً مَا تَعْدِلُ سُكُونَ هَذَا الْعِرْقِ"(الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ).

إِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْقُوتُ لِلْفَتَى *** وَأَضْحَى صَحِيحًا جِسْمُهُ وَهْوَ فِي أَمْنِ

فَقَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيعًا وَحَازَهَا *** وَحَقَّ عَلَيْهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ

 

قُلْتُ هَذَا الْقَوْلَ، وَلِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ"، أَيْ: مِنَ الْحَلَالِ، وَهَذَا الْمُقَوِّمُ الثَّالِثُ وَالْأَخِيرُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقُوتَ عَلَى الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ رَغْمَ أَهَمِّيَّتِهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ مَقَاصِدَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا تَتَحَقَّقُ وَلَا يَجِدُ الْعَبْدُ قِيمَتَهَا الْوَظِيفِيَّةَ إِلَّا بِوُجُودِ نِعْمَتَيِ الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ، وَمَنْ حُرِمَهُمَا فَلَا قِيمَةَ لِغَيْرِهِمَا بِدُونِهِمَا.

 

وَكَوْنُ الْعَبْدِ يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُهِمُّ؛ لِأَنَّ غَدًا مَجْلِسٌ لَا تَضْمَنُ حُضُورَهُ، وَشِيكًا رُبَّمَا لَنْ يُصْرَفَ بِاسْمِكَ، وَيَوْمًا لَعَلَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: "اعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا، وَاعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا".

 

إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ حِينَ يَكُونُ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقًا بِالدُّنْيَا فَلَا حَاجَةَ لِلْعَجَلَةِ فِيهَا وَكَثْرَةِ الْهَمِّ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا وَالْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا؛ فَلَعَلَّ مَا فَاتَكَ الْيَوْمَ تُدْرِكُ عِوَضًا عَنْهُ غَدًا، بِخِلَافِ الْآخِرَةِ؛ فَمَا فَاتَكَ مِنْهَا الْيَوْمَ فَلَعَلَّكَ لَا تُعَوِّضُهُ غَدًا؛ فَاعْمَلْ مُجْتَهِدًا وَمُسْتَعْجِلًا وَمُسْتَكْثِرًا، وَلَا يَسَعُكَ التَّأْخِيرُ وَلَا التَّعْوِيضُ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "مَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ عَافِيَةِ بَدَنِهِ، وَأَمْنِ قَلْبِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَكَفَافِ عَيْشِهِ بِقُوتِ يَوْمِهِ، وَسَلَامَةِ أَهْلِهِ، فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ جَمِيعَ النِّعَمِ الَّتِي مَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا لَمْ يَحْصُلْ عَلَى غَيْرِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ يَوْمَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِشُكْرِهَا؛ بِأَنْ يَصْرِفَهَا فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، لَا فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا يَفْتُرُ عَنْ ذِكْرِهِ". قَالَ نِفْطَوَيْهِ:

إِذَا مَا كَسَاكَ الدَّهْرُ ثَوْبَ مَصَحَّةٍ *** وَلَمْ يَخْلُ مِنْ قُوتٍ يُحْلَى وَيَعْذُبُ

فَلَا تَغْبِطَنَّ الْمُتْرَفِينَ فَإِنَّهُ *** عَلَى حَسْبِ مَا يُعْطِيهِمُ الدَّهْرُ يَسْلُبُ

 

وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- أَنَّ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ الْأَمَانِ وَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ فَلَيْسَ فِي غَيْرِهَا ضَرُورَةٌ؛ وَهُوَ حِينَهَا كَمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَحَازَهَا؛ فَلْيَطْمَئِنَّ قَلْبًا، وَلْيَتَوَجَّهْ إِلَى رَبِّهِ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ، وَيَلْهَجْ بِذِكْرِهِ وَيُسَبِّحْ بِحَمْدِهِ، وَيَزْدَدْ مِنْ شُكْرِ هَذِهِ النِّعَمَ.. وَأَلَّا يَشْغَلَ بَالَهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَيُكَدِّرَ صَفْوَ حَاضِرِهِ بِهِ؛ فَيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي وَاجِبَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.

وَلْيَعْلَمْ مَنْ هَذَا حَالُهُ أَنَّهُ اخْتِيَارٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَاصْطِفَاءٌ لَهُ؛ فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُحَمَّدٍ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنِعَ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).

وَالْقَصْدُ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- مِنْ ذَلِكَ صَرْفُ الْعِبَادِ إِلَى عَدَمِ التَّكَلُّفِ فِي الدُّنْيَا وَالْكَدِّ فِيهَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى حِسَابِ آخِرَتِهِ، وَكَذَا عَلَى حِسَابِ نَفْسِهِ وَمَنْ يَعُولُ.. قَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:

إِنِّي وَإِنْ كَانَ جَمْعُ الْمَالِ يُعْجِبُنِي *** فَلَيْسَ يَعْدِلُ عِنْدِي صِحَّةَ الْجَسَدِ

فِي الْمَالِ زَيْنٌ وَفِي الْأَوْلَادِ مَكْرُمَةٌ *** وَالسُّقْمُ يُنْسِيكَ ذِكْرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ

 

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: "قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ مُتَفَرِّغًا؛ لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ، وَتَمَامُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَفِيهَا التِّجَارَةُ الَّتِي يَظْهَرُ رِبْحُهَا فِي الْآخِرَةِ، فَمَنِ اسْتَعْمَلَ فَرَاغَهُ وَصِحَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَغْبُونُ"(ابْنُ حَجَرٍ؛ فَتْحُ الْبَارِي).

 

نَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ حُسْنَ الْأُنْسِ بِكَ، وَالْحَيَاءَ مِنْكَ، وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِكَ.

 

اللَّهُمَّ يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَظُلْمِ الْعِبَادِ، وَسُوءِ الْخُلُقِ، وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَاقْضِ عَنَّا تَبَعَاتِنَا، وَاكْشِفْ عَنَّا السُّوءَ وَنَجِّنَا مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَاجْعَلْ لَنَا مِنْهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 

المرفقات

فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات