وقت أذنك يا غلام ما سمعت

عبدالله محمد الطوالة

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/قصة الغلام الصحابي عمير بن الحمام 2/الولاء والبراء أصل من أصول الإسلام

اقتباس

حديثا اليوم عن قصة عجيبة، بطلها غلام صغير من غلمان الأنصار -رضوان الله عليهم أجمعين-. جرَّع هذا الغلام البطل كأس اليتم والفاقة منذُ نعومَةِ أظفاره، فقد مَات عنه أبوه وهو صغير، ودونَ أن يترُكَ له مالاً أوْ مُعيلاً، لكنَّ أمَّه ما لَبِثَتْ أنْ تَزَوَّجتْ من أحد أثَرِياء قبيلة "الأوس"، يُدْعَى: الجُلاسَ بنَ سُويَدٍ، فَكَفَلَ ابنَها الصغير، وضَمَّه إليه، وما لبث الفتى أن...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ العزيزِ الغفارِ، الواحدِ القهارِ، الجليلِ الجبارِ، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ)[القصص: 68]، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)[الزمر: 5]، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرهُ، وأتوبُ إليه وأستغفرهُ، (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)[الرعد: 8]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، ولا ربَّ سواهُ (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 32-34]، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، المصطفى المختارِ، صلَّى عليكَ اللهُ يا خيرَ الورَى، وزكاةُ ربي والسلامُ مُعطرا، يا ربِّ صلِّ على النبيِّ المصطفى، أزكى الأنامِ وخيرُ من وَطِئَ الثَرى، يا ربِّ صلِّ على النبيِّ وآلهِ، تِعدادَ حباتِ الرِمالِ وأَكثَرا، والصحبِ والأتباعِ ومن لهم اقتفى، وسلَّم تسليماً كثيرا أنورا.

 

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

 

واعلموا أن الصدقَ مركبٌ لا يهلَكُ صاحبُهُ وإن عثرَ به قليلاً، وأن الكذبَ مركبٌ لا ينجو صاحبُه وإن طارَ به بعيداً، الصدقُ عِزٌّ وإن كان فيه ما تكره، والكذبُ ذُلٌّ وإن كان فيه ما تحب: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ* وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين)[الزمر: 32-35].

 

وبعد: فحديثا اليوم عن قصة عجيبة، بطلها غلام صغير من غلمان الأنصار -رضوان الله عليهم أجمعين-.

 

جرَّع هذا الغلام البطل كأس اليتم والفاقة منذُ نعومَةِ أظفاره، فقد مَات عنه أبوه وهو صغير، ودونَ أن يترُكَ له مالاً أوْ مُعيلاً، لكنَّ أمَّه ما لَبِثَتْ أنْ تَزَوَّجتْ من أحد أثَرِياء قبيلة "الأوس"، يُدْعَى: الجُلاسَ بنَ سُويَدٍ، فَكَفَلَ ابنَها الصغير، وضَمَّه إليه، وما لبث الفتى أن وجد من عمه الجديد كل برٍّ وحُسْن رِعاية وجميلَ عَطْفٍ، ما جَعَله يَنْسَى كلَّ ما مر به من يتيم وفقر وفاقة، ولذلك فقد أحـبَّ الغلام زوج أمه "الجُلاس" حُبَّ الابنِ لأبيه، كما أولع "الجُلاسُ" بالفتى وَلَعَ الوالد بولده، وكان الغلام الصغير كلما نما وشبَّ، يَزْدَادُ الجُلاسُ له حبّاً وبه إعجاباً لما كان يَرَى فيه من أمارات الفِطْنَةِ والنَّجابَةِ وخصال الأمانَةِ والصِّدْقِ التي تَظْهَرُ في كلِّ تَصَرُّفاته.

 

إنه عمير بن سعد الأنصاري -رضي الله عنه وأرضاه-، وقد أسلم الفتى عميرُ بنُ سعدٍ وهو لم يُجَاوِزِ العاشِرَةَ من عُمُرِه إلا قليلاً، فَوَجَدَ الإيمانُ في قَلْبِهِ الغَضِّ مكاناً رحباً، ووجد الإسلامُ في نفسِه الصَّافِيَةِ الشَّفَّافَةِ تربة خصبة فأخصب فيها زرعه المبارك، وسـارَت حياةُ الغلام عمير بنِ سعدٍ هانئةً وادعةً لا يعكِّرُ صَفْوَها مُعَكِّر، ولا يُكدِّرُ هنَاءَتَها مكَدِّر، حتى شاء اللّه أنْ يعرِّضَ الغُلام اليافِعَ لتَجْرِبَةٍ من أشدِّ التجاربِ عُنْفاً وأكثرها قَسْوَة.

 

ففي السنةِ التاسعةِ للهِجْرَةِ أعلن الرسولُ -صلى اللّهِ وسلامُه عليه- عَزْمَه على غَزْوِ الرّومَ في تَبُوك، وأمَرَ المسلمين بأنْ يَسْتَعِدُّوا ويَتَجَهُّزوا لذلك، وكان عليه الصلاةُ والسلامُ إذا أراد أنْ يغزوَ غَزْوَةً لم يصرِّح بها مباشرة، وإنما يوْهِم أنه يُريدُ جِهَةً غَيْرَ الجهةِ التي يَقْصِدها، إلا في غزوةِ تَبُوك، فإنَّه بَينَّهَا للناس، لِبُعْدِ الشُقَّة، ولعِظَم المَشَقَّةِ، وليكونَ الناس على بَينةٍ من أمرِهم، فيأخذوا للأمر أهْبَتَه ويُعِدُّوا له عُدَّته، وعلى الرغم من أنَّ الوقت كان صيفَاً شديداً، وكانت الثمارَ قد أْينَعَتْ، والظلالَ قد طابت، والنفوسَ قد مالتْ إلى التَّراخي والراحة؛ إلا أن الكل قد لبَّى دَعوَةَ نبيِّهم -عليه الصلاة والسلام-، وأخذوا يَتَجَهَّزون ويَستَعِدُّون، عدا طائفةً من المنافقين أخذوا يُثَبطونَ العَزَائِمَ، ويُوهِنون الِهمَمَ، ويُثيرون الشُّكوكَ والبلابل، خصوصاً في مَجالِسِهمِ الخاصةِ التي لا يطلع عليها إلا من يثقون فيه، وفي يومٍ من هذه الأيَّام التي سَبَقَت رحيل الجَيْشِ، رجع الغلامُ عُمَيْرُ بنُ سَعدٍ إلى بَيْتِه من المَسجِدِ، وقد امتلأت نَفْسُه ومخيلته بطائفة مُشْرِقَةٍ من صُوَر البَذْلِ والتضحية التي قدمها المسلمون، فقد رأَى نسـاءَ المُهاجِرِين والأنْصارِ يُقْبِلْنَ على رسولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَيَنْزَعْنَ حُلِيَّهنَّ ويُلْقِينَه بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُجَهِّزَ بِثَمَنِه الجَيشَ الغازِيَ في سبيل اللّه، ورَأى عثمانَ بنَ عَفَّان -رضي الله عنه- يأتي بِجِراب فيه ألْفُ دينارٍ ذَهَباً، ويقدِّمُه للنبيِّ -عليه الصلاةُ والسلامُ-، وشَاهدَ عبدَ الرحمن بنَ عَوف -رضي الله عنه- وهو يُلْقِي بين يَدَي النبيِّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- مائتي أوقِيَّةٍ من الذَّهَبِ، بل ورأى رجلاً يَعْرِضُ فِراشَه للبَيْع لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِه سَيفاً يُقاتلُ به في سبيلِ اللّه، أخَذَ عُمَيْرٌ يَسْتَعيدُ هذه الصُّوَرَ الرائِعَةَ، وفي نفس الوقت يَعْجَبُ من تباطُؤ عمه الجُلاس، وتأخّرِه عن البَذْل والإنفاق، على الرغم من قدرته وغناه، وكأنَّما أرادَ عُمَيْرٌ أنْ يَسْتَثيرَ هِمَّةَ الجُلاسِ ويَبْعَثَ الحَمِيَّةَ في نَفْسِه، فاخَذَ يَقُصُّ عليه أخبارَ ما سَمِعَ وما رأى، خاصَّةً خَبَرَ أولئك النَّفَرِ من المؤمنين الذين قَدِموا على رسولِ اللّه -صلى الله عليه وسلم-، وسألوه في لَوْعَةٍ أنْ يَضُمَّهُمْ إلى الجيش الغازي في سبيل اللّهِ فَرَدَّهم النبيُّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه لم يَجِدْ ركائبا يَحْمِلُهم عليها، فَتوَلَّوا وأعيُنُهُمْ تفيضُ من الدَّمْع حَزَناً ألاَّ يَجِدوا ما يُبلِّغُهُمْ الجهاد في سبيل الله، لكنَّ الجُلاسَ ما كادَ يَسْمَعُ من عُمَيْرٍ ما سَمِعَ حَتَّى قال كلمة أطارتْ صوَابَ الفَتَى المؤمِن، فقد قال الجلاس: "إنْ كان محمدٌ صادقاً فيما يَدَّعيه من النُبوَّةِ فَنَحْن شَر من الحَميِرِ"، ذهل عُمَيرٌ مِن هول ما سَمِعَ، فما كان يَظُنُّ أنَّ رجلاً له عقلُ الجُلاسِ تخرج من فَمِهِ مثلُ هذه الكلمات الخطيرة، التي تُخْرِجُ صاحبها من الإيمان وتُدْخِلُه في الكفرِ من أوْسَع أبوابه، وانطلق عَقْلُ الفَتَى عُمَيْرِ بنِ سعدٍ يُفَكِّر فيما يجب عليه أن يصنع، وكان عليه أنْ يَخْتَارَ بَيْنَ أمْرَيْنِ أحْلاهُما مُرٌّ، وسرعان ما اختارَ... التفتَ الفتى إلى الجُلاسِ وقال: واللّه يا جُلاسُ ما كانَ على ظَهْرِ الأرضِ أحدٌ بعْدَ محمد -صلى الله عليه وسلم- أحَبَّ إليَّ مِنْكَ، فأنت آثرُ الناس عندي، وأجلُّهم يداً علَّي، ولقد قُلْتَ مَقَالةً إن ذَكَرْتُها فَضَحْتُكَ، وإنْ أخْفَيتُها خُنْتُ أمانتي وأهْلكْتُ نفسي وديني، وقد عزمتُ على أنْ أمْضِيَ إلى رسولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وأخْبِرَه بما قلت، فحقَّ الدين أولى بالوفاء، فكن على بَيَنّةَ من أمرك، فقال الجلاس له: اكتمها عليَّ يا بني، فقال الغلام: لا والله، لأبلِّغنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل الوحي يُشْرِكني في إثمك.

 

ومضى الفتى عميرُ بنُ سعدٍ من فوره إلى المسجدِ، وأخبرَ النبيَّ -عليه الصلاةُ والسلامُ- بما سَمِعَ من الجُلاسِ بن سُوَيْدٍ، فاسْتَبْقاه الرسولُ -صلواتُ اللّه عليه- عنْدَه، وأرسلَ من يَدْعُوَ له الجُلاسَ، فلما جاءَ قال له النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "ما مَقالة سَمِعَها مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ؟!"، وذَكَرَ لَهُ ما قَالَهُ، فقال الجلاس: كَذَبَ علَّي يا رسولَ اللّه وافْتَرَى، ما تَفَوَّهْتُ بِشيءٍ من ذلك، وإني أحْلِفُ باللّه أني ما قلتُ شَيئاً من ذلك، وأخَذَت العيون تتنقل بين الجُلاسِ وفَتَاه عُمَيْرِ بن سَعْدٍ، والتَفَتَ الرَّسولُ -صلواتُ اللّهِ عليه- إلى عمَيْرٍ فَرَأى وَجْهَهُ قد احتَقَنَ بالدَّمِ، والدُّموعُ تَتَحَدَّرُ مِنْ عَيْنًيه، وهو يقول: اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به، اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به … وبينما الناس في حالة من التعجب والترقب، إذ تغيرت حالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وغشيته السكينة، فعرَفَ الصحابةُ أنهُ الوَحيُ، فَلَزِموا أماكِنَهم وسَكَنَتْ جوارحُهم ولاذوا بالصَّمتِ، وتَعَلَّقَتْ أبصارُهم وأسماعهم بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وظَلَّ الجميعْ كذلك حَتَّى سُرِّي عن رسولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَتَلا قولَه جَلَّ وعَزَّ: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)[التوبة: 74].

 

ارتَعَدَ الجُلاسُ من هَوْلِ ما سَمِعَ، وكادَ يَنْعَقِدُ لِسَانُه من الجزع، ثُمَّ التَفَتَ إلى رسولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- وقال: "بل أتوبُ يا رسولَ الله، بل أتوب. صدق عميرٌ يا رسول اللّه وكنتُ أنا من الكاذبين، اسْألِ اللّهَ أن يَقْبَلَ تَوْبَتِي، جُعِلْتُ فِدَاكَ يا رسولَ اللّهِ".

 

وهنا تَوجَّه الرسولُ -صلواتُ اللّهِ عليه- إلى الفتى عمير بنِ سعدٍ، فإذا دُمُوعُ الفَرَح تُبَلِّلُ وَجْهَهُ المشرِقَ بنورِ الإيمانَ، فمدَّ الرسولُ يَدَه الشريفةَ إلى أذنه وأمسكَها بِرِفْق، وقال: "وَفَّت أذُنُكَ يا غلامً ما سَمِعَتْ، وصَدَّقَكَ رَبُّك".

 

وعاد الجُلاسُ إلى حَظِيرَةِ الإسلامِ، وحَسُنَ إسلامُه، وكان يقولُ كُلَّما ذُكِرَ عمير: جزاه اللّه عَنِّى خيراً، فقد أنقذقني من الكُفْرِ، وأعتَقَ رَقَبَتي من النار.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 17].

 

 

بارك الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كما...

 

وبعد: فالولاء والبراء أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وركن ركين من أركان الدين، وجزء أساس من عقيدة المسلم التي لا يقبل الله من أحدٍ غيرها، روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله" أي أن تحب من يحبه الله، وتكره من يكرهه الله، وأن تحب ما يحبه الله، وتكره ما يكرهه الله، فالله لا يحب الكافرين، ومن أحب الكافرين أو ناصرهم أو قلدهم أو تشبه بهم، أو أحب شيئاً من عاداتهم وتقاليدهم، أو مما هو من خصائصهم فقد أحب ما لا يحبه الله، ومن أحب ما لا يحبه الله فهو كاذب في دعوى محبته لله، قال تعالى: (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم)[آل عمران: 31]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحبَّ لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".

 

وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة في التحذير من موالاة الكفار ومودتهم، قال الله تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)[آل عمران: 28]؛ ومعنى: (فليس من الله في شيء) يعني: "فقد برئ من الله وبرئ الله منه، فأي وعيد فوق هذا الوعيد، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة: 51]، قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهـو لا يشـعر، فإن الله يقـول: (وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وقال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون)[المائدة: 81]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذه جملة شرطية إذا وُجد الشرط وُجد المشروط فلا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء، وقال تعالى عن اليهود: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)[المائدة: 80] أي: تَرَى أيها الرسول كثيرًا من هؤلاء اليهود يتخذون المشركين أولياء لهم، فساء ما عملوا فقد كان ذلك سببًا في غضب الله عليهم، وخلودهم في العذاب.

 

ثم إن البراءة -يا  عباد الله- تقتضي كره الكفار وأعداء الدين وبغضهم ومعاداتهم، قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[الممتحنة: 4].

 

إلا أنه ليس كُل الكفار تجب معاداتهم وبغضهم ومحاربتهم، فقد أمرنا الله -سبحانه- بالعدل والقسط والبر، لمن كان مسالماً من الكفار، فقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8]، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع غير المسلمين، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، وينهى عن أذيتهم.

 

أَلا فَلْيَخشَ اللهَ ويتقه مَن يُحِبُّ أَعدَاءَ الله أَو يَمدَحُهُم وَهُوَ يسمع قُولُ الله -تعالى- في كتابه الكريم: (فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)[البقرة: 98]، ويسمع قوله تعالى: (فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 32]، ويسمع قول الله -تعالى-: (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا)[فاطر: 39].

 

ويا ابن آدم: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان...

 

اللهم صلِّ...

المرفقات

وقت أذنك يا غلام ما سمعت

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات