ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم

عبدالله محمد الطوالة

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/رقة القلب من نعم الله على عبده 2/الآية التي تاب بسماعها الفضيل بن عياض 3/تأملات في قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) 4/التحذير من الاغترار بالدنيا 5/دعوة للتوبة والرجوع إلى الله.

اقتباس

إنها دعوة من الله -تبارك وتعالى- لنا, أن ننظر إلى قلوبنا، وأن نفتش في أحوالنا، كيف هو خضوعنا وإخباتنا لخالقنا ومالِك أمرنا، ومَنْ إليه مَردُّنَا ومرجِعُنَا؟, فلقد حان الوقتُ وآن الأوان أن نخشعَ لذكر ربنا، وأن نخضعَ لأمرِ مولانا، وما جاءنا من زواجر القرآنِ ومواعظهِ، وأن يحاسِبَ كلُّ منا نفسهُ، وما اجترحتهُ يداه...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ تفرَّدَ عزًّا ومجداً وجلالاً، وتقدَّسَ بهاءً وسنَاءً وجمالاً، وتوحَّدَ عظمةً وكبرياءً وكمالاً، تباركَ ربُنَا -سبحانهُ وتعالى-.

 

سبحانَ من عنتِ الوجـوهُ لوجهـهِ *** ولـهُ سجـدنا أوجــهٌ وجِـبـاهُ

سبحانَ من أحيا قلوبَ عبادهِ *** بنفائحٍ من فيضِ نورِ هُداهُ

شمِلتْ لطائِفُهُ الخلائِقَ كُلَّها *** ما للخلائِقِ كافِلٌ إلَّا هو

 

وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، الجليلُ الجبَّارُ، (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[الرعد: 16]، سبحانَكَ ربنَا، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 34], وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ, ذاكَ البشيرُ النَّذيرُ الهادِي لأمتهِ.

 

يا من لهَ الكوْثرُ الفيَّاضُ مكرُمةً *** خيرُ البريةِ أقْصاهَا وأدْناهَا

وكلُّ وصْفٍ للنبيينَ فهو لهُ *** يا خاتمَ الرُّسُلِ يا أعْلاهمو جاهَا

ما نالَ فضْلَكَ ذو فضْلٍ سِواكَ ولا *** سَامَى فَخَاركَ ذو فَخْرٍ ولا ضَاهَى

 

اللهم فصلِّ وسلَّمَ وباركَ وأنْعِمْ عليهِ، وعلى آله وصحبهِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً لا يتناهَا.

 

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عزّ وجلَّ-، فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، فللهِ درُّ أقوامٍ امتثلوا ما أُمِروا، زُجِروا عن الزللِ فانزجروا، وتذكروا الذنوبَ والتقصيرَ فانكسروا، وطرقوا بابَ المحبوبِ واعتذروا، ثم صبروا هنالك واصطبروا، يرجون كريم ما وعِدوا, (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: 33].

 

معاشر المؤمنين الكرام: يقول الحق -جل وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2], فرِقَةُ القلبِ وخُشوعهُ، وانكسارهُ لخالقه وخضوعه، نعمةٌ يختصُ بها اللهُ من يشاءُ من عباده, ورقيقُ القلبِ سابقٌ إلى الخيراتِ, مشمرٌ في ميادينِ الطاعاتِ, وصاحبُ القلبِ الرقِيقِ تنفعهُ بإذنِ اللهِ الموعظةُ، وتردُهُ بفضلِ اللهِ النصيحة، قال -تعالى-: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55].

 

وفي كتاب الله -جلَّ وعلا- آيةٌ عظيمةٌ, جليلةٌ, مباركةٌ، لا يقرأُها مُقصرٌ بتأنٍ؛ إلا ويراجعُ حِساباته، ولا يسمعُها غافلٌ بإنصاتٍ وإخباتٍ؛ إلا ويستيقظُ بإذن الله من غفلاته، ولا يتدبرها مُذنبٌ بحقٍّ ويقين؛ إلا وبفضل الله يصدقُ في توبته، آيةٌ ذاتُ وقعٍ شديد، تلفت الانتباه بقوة، وإذا أذن الله فوصلت إلى القلب القاسي، وتغلغلت في النفس الغافلة؛ فإنها -بإذن الله- تُحركُ الإيمانَ الراكد، وتهزُ الوجدانَ هزاً؛ فيحيَا القلبُ من بعد مَواتِه، ويُشِعُ إيماناً من بعد ظُلماتِه، ويلينُ خُشوعاً من بعد قسوتِه، ويتغيرُ الإنسانُ من حالٍ إلى حال, إنها قولُ الحقَّ -جلَّ وعلا-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16].

 

والفضيل بن عياضٍ -رحمه الله- كان لصاً يقطع الطريق، وينهبُ قوافلَ المسافرين، وكان يعشق جاريةً، يحبها حباً شديداً، يتسلقُ الجدران في منتصف الليل ليصل إليها، وبينما هو فوقَ الجدار، إذ به يسمعُ تاليًا يتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ), فتسللت الآية إلى سُويداءِ قلبه، وملكت عليه نفْسَهُ ورُوحَهُ، فقال من فوره: "بلى يا ربِّ قد آن، بلى يا ربِّ قد آن", فنزل من جداره، وأخذ يمشى بدون وعي، يتفكرُ في الآية التي سمعها: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، فآواه الليل إلى منطقةٍ معزولة، وإذا فيها مجموعةٌ من المسافرين الخائفين من قطاع الطريق، فقال بعضهم لبعض: "نرتحل"، وقال الآخرون: "حتى نصبح؛ فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا"، فقال الفضيل لنفسه وقد رقَّ قلبه، وصفت نفسه: "ها أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقومٌ من المسلمين هاهنا يخافونني! وما أرى إلا أنَّ الله قد ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة لبيتك الحرام".

 

هذه -يا عباد الله- قصة توبة الفضيل بن عياض -رحمه الله-، الإمام القدوة، الذي جاور بيت الله الحرام, حتى لُقِبَ بعابد الحرم، وكان عالمًا جليلاً، وعابداً صادقًا، من رجال الحديث المعدودين، ومن أعلام الورع المشهورين, قال عنه ابن المبارك: "إن الفضيل بن عياض صدق اللهَ؛ فأجرى الحكمة على لسانه", وقال عنه أيضاً: "ما بقيَ على ظهر الأرض عندي أفضل من فُضيلَ بن عِياض".

 

ونعود للآية الكريمة التي كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا سمعها: بكى حتى يغلُبه البكاء, (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)؛ ألم يأنِ للقلوب القاسية أن تلين؟! ألم يأن لمن طال بُعدُهم عن الله أن يعودوا؟! ألم يأن لمن أعرضوا عن الهُدى أن يرجعوا؟! (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)[الذاريات: 50].

 

إنها -يا عباد الله- دعوة من الله -تبارك وتعالى- لنا, أن ننظر إلى قلوبنا، وأن نفتش في أحوالنا، كيف هو خضوعنا وإخباتنا لخالقنا ومالِك أمرنا، ومَنْ إليه مَردُّنَا ومرجِعُنَا؟, فلقد حان الوقتُ وآن الأوان أن نخشعَ لذكر ربنا، وأن نخضعَ لأمرِ مولانا، وما جاءنا من زواجر القرآنِ ومواعظهِ، وأن يحاسِبَ كلُّ منا نفسهُ، وما اجترحتهُ يداه، (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ)؛ الزمان، واستحكمت عليهم الغفلة؛ فاضمحل إيمانهم، وخبَا يقينُهم، (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).

 

فهو ليس عتابٌ فقط -يا عباد الله- بل هو تحذيرٌ ووعيد شديد، ألَّا يقع المؤمنُ في التقاعُسِ عن الاستجابةِ لله ورسوله، وفي الآية بيانٌ أنَّ ما يحصلُ من قسوةِ القلوب، وعدمِ استجابتها لعلَّام الغيوب هو فسوقٌ وتمردٌ عن طاعة الله -جل وعلا-, فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الإيمان ليَخْلَقُ في جوف أحدكم؛ كما يَخْلَقُ الثوب، فاسألوا الله أن يجدِّدَ الإيمان في قلوبكم"(صححه الألباني).

 

فهذا القلبُ البشري سريعُ التقلب، كثيرُ النسيان، وهو أيضاً قابلٌ لأن يَشِعَ بالنور، ويَفيضَ بالإيمان، ويُضيئُ كالشعاع, فإذا طالَ عليه الأمدُ بلا ذِكرٍ ولا تَذكير؛ تَبلَّد وقَسا، وانطمسَ نوره وخَبَا، وأظلمَ وأعتم وعمى, إذن فلا بُدَّ من تذكيرٍ دائمٍ لهذا القلب؛ حتى يلينَ ويخشع، ويفيضَ بالنور والإيمانِ ويونِع، ولا بدَّ من اليقظةِ الدائمةِ؛ كي لا يطولَ عليه العهد فيتبلدَ ويقسو, ألم يأن لك يا قلب أن تترك الجهلا, وأن تُعلنَ التَّوبَ من قبل المماتِ والنَّدمَا؟!.

 

وكما أن الله -تعالى- برحمته الواسعة يحيي الأرض بعد مواتها، فتنبضُ بالحياة، وتربو بالنبت والحَيَا، وتُخرِجُ الزروعَ والثمار، فكذلك القلوب حين يشاءُ الله, ومن ثمّ فلا يأسَ من رَوْحِ اللهِ ورحمته، ولا نفقد الأمل في قلبٍ خبَا إيمانهُ وخمدَ، وطال عليه الأمدُ حتى قسا وتبلد, فما أقربَ أن تدُبَّ فيه الحياةُ مرةً أخرى، وأن يُشرقَ فيه النور ويخشعَ لذكر اللهِ ويلين، وأن يَشِعَّ فيه نُورُ الإيمان من جديد, فالله -جلَّ جلاله- يقول في الآية التي تليها مباشرة: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الحديد: 17]؛ يقول الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) فهو -سبحانه- قادرٌ على أن يبعثَ الأجسام بعد تحلُّلِها، ويليِّنَ القلوبَ بعد قسْوتها، ويحيي الأرضَ بعد موتها", (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

 

فاتقوا الله -عباد الله- واتقوا الدنيا؛ فالدنيا دارُ غرور، دائمةُ التقلّبِ والشرور، من وثق بها خدعتهُ، ومن تبعها أضاعتهُ، ومن اشتراها باعتهُ، فالسعيد من تركها قبل أن تتركه، وتخفَّفَ منها قبل أن تُثقِلَهُ, والشقيُ من ركنَ إليها فأسرتهُ، وانشغلَ بها فشغلتهُ، وآثرها فأهلكته، (يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[غافر: 39، 40].

 

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ ولوالديَّ والوالديكم وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب.

 

معاشر المؤمنين الكرام: نالَ السعادةَ من باتَ مُعافًى في بدنِه، آمِنًا في سِربه، عنده قُوتُ يومِه، قد جُعِل غِناهُ في قلبه، فهو شاكرٌ لربِّه، راضٍ بكسبِه، مستغفرٌ لذنبه, فارضَ -يا عبد الله- بما قسمَ اللهُ لك تكنْ أغنى النَّاسِ، واجتنبْ محارمَ اللهِ تكنْ أورعَ النَّاسِ، وأَدِّ ما فَرضَ اللهُ عليك تكُنْ أعبدَ النَّاسِ, ومن عرفَ حُسنَ تدبير الله لعبده؛ هانت عليه المصائب، وسهُلَت عليه المصاعب, فثق -يا عبد الله- بربك، فما منعَك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا امتحنك إلا ليصطفيك.

 

احذروا -يا عباد الله- الغفلات فإنها دركات، واحذَروا الأماني فإنها خدَّاعات, وتدارَكوا الهفَواتِ قبل الفوَات، وتجنبوا المحرماتِ والمنكرات، وسارعوا إلى الخيرات والطاعات، وبادروا نفيس الأوقات، قبل حلول السكرات، فما أقربَ الحياة من الممات، إن ما تُوعدون لآت, (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].

 

معاشر المؤمنين الكرام: هيا بنا نفتحُ صفحةً جديدةً مع الله، نشكو فيها بثنا وحُزننا إلى من لا يُرَدُ من دَعاهُ، ولا يُخَيِّبُ من رجاه, نقفُ ببابه، ونلوذُ بجنابه، وننطرِحُ بأعتابه، ونتعلق بحبله وأسبابه، ونستجير به عسى أن يرحمَنا، وأن يتوبَ علينا ويقبلُنا.

 

بك أستجيرُ فمن يجيرُ سِواكَا *** فأجِرْ ضَعيفاً يحتمِي بحِماكا

أخشى من العرض الرهيبِ عليك يا *** ربي وأخشى منك إذ ألقاك

يا مُدرك الأبصار والأبصارُ لا *** تدري لهُ ولكُنهِهِ إدراكا

يا غافرَ الذنبِ العظيمِ وقابلاً للتوبِ *** قلبٌ تائباً ناجاكا

ياربِّ عُدْتُ إلى رِحابِك تَائِباً *** مُستَسلِماً مُستَمسِكاً بِعُراكا,

 

فيا من أتته السموات والأرض طائعة، يا من تطامنت الجبالُ الشمُّ لعظمته خاشعة، يا من سبحَ الرعدُ بحمده، والملائكة من خيفته، يا من يسبح كلُّ شيءٍ بحمده, يا باسط اليدين بالرحمة، يا من سبقت رحمته غضبه، يا أمان الخائفين، يا مجيب دعوة المضطرين، يا أرحم الراحمين: وعزتك وجلالك ما عصيناك اجتراءاً على مقامك، ولا استحلالاً لحرماتك، ولكن غلبتنا أنفُسَنَا الأمارةُ بالسوء، وغرنا حُلْمُك، وطَمَعُنا في واسِعِ مغفرتك, فلئن تمكنت منا المعصية؛ فلنلوذَن بعظيم حنانِك ورحمتك، ولئن أغرانا الشيطان وزين لنا المعصية؛ فليُغرين الإيمان قُلوبَنا بما نُرجوهُ من توبتك، ولئن انتصر الشيطان علينا لحظات؛ فلنستنصرنَّ بك الدهر كله، ولئن كذب علينا الشيطان بالأماني، فليصدُقَن وعدك الذي لا يتخلف، (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53]، وقَالَ رَسُولُك المصطفى -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِرَبِّهِ: بِعِزَّتِكَ وَجَلاَلِكَ لاَ أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتِ الأَرْوَاحُ فِيهِمْ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ: فَبِعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ أَبْرَحُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"(صححه الألباني).

 

فتوجه -يا عبد الله- إلى ربك، ونادِه صادقاً من أعماق قلبك: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليَّ وأبُوءُ بِذَنْبي، فاغْفِرْ لي فإنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ".

 

يا ربِّ عَبدُك قد أتاك وقد أساء وقد هفا

حملَ الذنوبَ على الذنوب الموبقاتِ وأسرفا

ربَّ اعفُ عنهُ وعافهِ فلأنت أولى منْ عفا

 

فاتقوا الله -رحمكم الله- وتوبوا إليه نادِمين، فإنّه يحبّ التوّابين، واستغفروه لذنوبَكم فهو خير الغافرين، واتّقوه مخلصين له الدين، فيا فوز المتقين, (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ)[الدخان: 51 - 55].

 

ويا ابن آدم! عش ما شئت؛ فإنك ميت، وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت, فإنك مجزي به، البر لا يبلى, والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

 

(إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56], اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الـمَهْدِيينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.

 

المرفقات

ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات