أدب الصراحة

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/صراحة النبي مع أبي ذر 2/من أدب الصراحة 3/من أخلاق السلف في الصراحة.

اقتباس

إننا نرى اليومَ وقد فُتحتْ علينا وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعيِّ، جُرأةَ الكثيرِ على اتِّهامِ النَّاسِ والدُّخولَ في مقاصدِهم والعيبَ والشَّتمَ العلنيَّ، من بابِ الصَّراحةِ وقولِ الحقِّ وعدمِ المُجاملةِ، فإياكَ أن تَنساقَ خلفَ هذه المعاركِ والجِدالِ العَقيمِ، ولا ينبغي لك أن تَخرجَ عن اتِّزانِكَ وحُسنِ أخلاقِكَ...

الْخُطبَةُ الْأُولَى:

 

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، جَعَلَ الخَيْرَ فِي التَّحَلِّي بِالفَضَائلِ والتَّخَلِّي عَنِ الشُّرُورِ، والبُعْدِ عَنْ الرَّذائلِ وسَفَاسِفِ الأُمُورِ، وَرَصَدَ لِذَلِكَ أَجْزَلَ الثَّوابِ وأَعْظَمَ الأُجُورِ، أَحْمَدُهُ -سُبْحَانَهُ- بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، جَعَلَ اِلأَخْلاَقَ الإِسلاَمِيَّةَ مَعالِمَ وَاضِحَاتٍ؛ لِيَصِلَ بِهَا المُؤمِنُ إِلَى أَرقَى الدَّرَجَاتِ وأَفْضَلِ الغَايَاتِ، وَأشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، كَانَ القُرآنُ الكَرِيمُ بِسُوَرِهِ وآيَاتِهِ مَنْهَلَ أَخْلاَقِهِ ومَصْدَرَ صِفَاتِهِ؛ فَلاَ عَجَبَ أَنْ بَلَغَ فِي الشَّمَائلِ أَفَضَلهَا، وفِي الفَضَائلِ أَنْبَلَهَا، صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأصَحْابهِ أَجْمَعِينَ، والتَّابِعينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: أَبو ذَرٍّ الغِفَاريُّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- هو الذي قَالَ فيهِ رَسولُ اللهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ -أَيْ: الأرضُ-، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ -أَيْ: السَّمَاءُ-، مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ".

 

هذا الرَّجلُ جَاءَ يَوماً إلى رَسولِ اللهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي -أَيْ: أَلا تَتخذُني عَامِلاً عَلى وِلايةٍ-؟، والنَّبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يعلمُ- أنَّه لا يصلحُ لهذه المهمةِ، ولكن اسمعوا إلى أدبِ الصَّراحةِ؟، ضَربَ بيدِه على مَنكِبِه بلطافةٍ ورِفقٍّ تَمهيداً لما سَيقولُ، ثُمَّ قالَ له الحقيقةَ ناصحاً: "يا أبا ذَرٍّ! إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا"، ثُمَّ عبَّرَ له عن جميلِ مشاعرِه: "وَإنِّي أُحِبُّ لكَ مَا أُحِبُّ لِنَفسي"، ثُمَّ أخبرَهُ بعاقبةِ الأمرِ: "يَا أَبَا ذَرَ! إنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".

 

اللهُ أكبرُ!, هكذا هي الصَّراحةُ, وأنتَ! قلْ رَأيكَ، وانصحْ، وأَمرْ بالمعروفِ وانهَ عن المنكرِ، وقُلِ الحقَّ، ولكن, مع مراعاةِ مشاعرِ الآخرينَ.

 

إنَّ الكلمةَ خفيفةُ النُّطقِ باللِّسانِ، لكنَّها عظيمةُ الأثرِ والشَّأنِ، لطيفةٌ عنيفةٌ، حُلوةٌ ومُرةٌ، سهلةٌ وصعبةٌ، تَبني وتَهدمُ، تنيرُ وتُظلمُ، تطفئ وتُحرقُ، وتجرحُ وتُداوي، بل جرحُها قد لا يُداويه الزَّمانُ.

 

وَقَدْ يُرْجَى لِجُرْحِ السَّيْفِ بُرْءٌ *** وَجُرْحُ الدَّهْرِ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ

 

وإيَّاكَ أن تَعتقدَ أن من القوَّةِ والشَّجاعةِ أن تستغلَ ضعفَ الآخرينَ, أو محبتَهم لكَ, أو قرابتَهم منكَ في إحراجِهم, أو جرحِ مشاعرِهم؛ بحُجَّةِ أنَّكَ صريحٌ ولا تُجاملُ، بل قد تكونُ هذه وقاحةً لا صراحةً.

 

فمن أدبِ الصَّراحةِ: أن لا تكونَ فظَّاً غليظاً، تجرحُ الإحساسَ قاسياً مُغيظاً، دَخلَ رَجلٌ على الخَليفةِ المأمون وقَالَ لهُ: سَأقولُ لكَ قَولاً غَليظاً، أَرجو ألا تَجِدُ عَليَّ فِيهِ، فقَالَ له المأمونُ: لا تَقلْ ولا أَجدُ، فقَالَ الرَّجلُ: ولِمَ؟، قَالَ المأمونُ: إنَّ اللهَ قد بَعثَ من هو خَيرٌ مِنكَ، إلى مَن هو شَرٌّ مِني، وقالَ لهما: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، فلَستَ أنتَ بخِيرٍ من مُوسى وهارونَ، ولَستُ أنا بِشرٍّ من فِرعونَ.

 

كُن صريحاً, ولكن برِفقٍ، واسمع ما قِيلَ لقُدوتِكَ: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].

 

مُعاويةُ بنُ الحَكَمِ تكلَّمَ في الصَّلاةِ، فرماهُ القومُ بأبصارِهم ويضربونَ على أفخاذِهم ليُسكِّتونَه، ثُمَّ ذَكَرَ نَصيحةَ النَّبيِّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- له بعد الصلاة، فقال: مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ".

 

ومن أدبِ الصَّراحةِ: أن يكونَ الدَّافعُ للكلامِ، هو الشَّفقةُ والمحبةُ لأهلِ الإسلامِ، ليسَ الشَّماتةَ والتَّعييرَ والانتقامَ، يقولُ أَبو قِلابةَ: إنَّ أبا الدَّرْداءِ مرَّ على رَجلٍ قد أَصابَ ذَنبًا، وكَانوا يَسبُّونَه؛ فقَالَ: أَرأيتُم لو وَجدتموه في قَلِيبٍ؛ ألم تَكونوا مُسْتَخْرِجِيه؟، قَالوا: بَلى، قَالَ: فلا تَسبُّوا أَخاكم، واحمدوا اللهَ الذي عَافَاكم، قَالوا: أفلا نُبْغِضُه؟، قَالَ: إنما أُبْغَضُ عَملَه، فإذا تَركَه فهو أَخي.

 

كُنْ صريحاً, ولكن مَقصدُكَ لنُصحِ أخيكَ الحُبُّ والحنانُ، واخترْ أجملَ كلماتِ الأدبِ والإحسانِ.

 

ومن أدبِ الصَّراحةِ: أن تنصحَ ولا تفضحْ، ولذلكَ حاولْ ما استطعتَ أن تنصحَ بالخفاءِ؛ فإنَّه أدعى للقبولِ والحَياءِ، عَن هَارونَ بنِ عبدِ اللهِ الحَمَّالِ قَالَ: "جَاءني أَحمدُ بنُ حَنبلٍ بالليلِ فدقَّ عليَّ البابَ، فقُلتُ: مَن هذا؟، فقَالَ: أنا أحمدُ، فبادرتُ أن خَرجتَ إليه، فمسَّاني ومسَّيتُه، قُلتُ: حَاجةً يا أبا عبدِ اللهِ؟ قَالَ: نعم، شَغلتَ اليومَ قَلبي، قُلتُ: بماذا يا أبا عبدِ اللهِ؟ قَالَ: جِزتُ عَليكَ اليومَ وأنتَ قَاعدٌ تُحدثُ النَّاسَ في الفَيءِ، والنَّاسُ في الشَّمسِ بأيديهم الأقلامُ والدفاترُ، لا تَفعلْ مَرةً أُخرى، إذا قَعدتَ فاقعدْ مع النَّاسِ"، وصدقَ القائلُ:

 

تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي *** وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَة

فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ *** مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه

وَإِن خالَفتَني وَعَصِيتَ قَولي *** فَلا تَجزَع إِذا لَم تُعطَ طَاعَة

 

أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ الجَليلَ، لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على فَضلِه وإحسانِه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسَلمَ تَسليماً كَثيراً، أما بَعدُ:

 

ومن أدبِ الصَّراحةِ: أن تختارَ الوقتَ المناسبَ، والفُرصةَ السَّانحةَ، الذي قد فُتحتْ فيه القلوبُ، وأصغتْ فيه الآذانُ، فلا تُصارِحْ أخاكَ وهو غضبانٌ أو مَشغولٌ، وَقد كَانَ النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ- يتخوَّلُ أَصحابَه بالموعظةِ؛ مَخافةَ السَّآمةِ عَليهم، يقولُ ابنُ مَسعودٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-: "إِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالًا، وَإِنَّ لَهَا فَتْرَةً وَإِدْبَارًا، فَخُذُوهَا عِنْدَ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، وَذَرُوهَا عِنْدَ فَتْرَتِهَا وَإِدْبَارِهَا".

 

ومن أدبِ الصَّراحةِ: أن تتحمَّلَ الأذى في سبيلِها، قَالَ لقمانُ لابنِه وهو يَعظُه: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)[لقمان: 17]، وإذا لم يُسمعْ لكَ فلا تغضبْ لنفسِك، مَرَّ النَّبِيُّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: "اتَّقِي اللَّهَ، وَاصْبِرِي"، وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، فانصرَفَ، فلما قِيلَ لها، جَاءَتهُ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى".

 

والعجيبُ إننا نرى اليومَ وقد فُتحتْ علينا وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعيِّ، جُرأةَ الكثيرِ على اتِّهامِ النَّاسِ والدُّخولَ في مقاصدِهم والعيبَ والشَّتمَ العلنيَّ، من بابِ الصَّراحةِ وقولِ الحقِّ وعدمِ المُجاملةِ، فإياكَ أن تَنساقَ خلفَ هذه المعاركِ والجِدالِ العَقيمِ، ولا ينبغي لك أن تَخرجَ عن اتِّزانِكَ وحُسنِ أخلاقِكَ.

 

يُخاطِبُني السَفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ *** فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيباً

يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلماً *** كَعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طِيباً

 

أَغلظَ رجلٌ للأحنفِ في الكَلامِ، وقَالَ لَهُ: "واللهِ يا أَحنفُ! لئن قُلتَ لي وَاحدةً لتسمعنَّ بَدلَها عَشرًا"، فقَالَ لَهُ الأحنفُ: "إنَّكَ إن قُلتَ لي عَشرًا لا تَسمعُ مني وَاحدةً", وهكذا يُقابلُ من لا يعرفُ قَدرَ الكلمةِ.

 

وإن بُليتَ بشَخصٍ لا خَلاقَ لهُ *** فكُن كأنَّكَ لم تَسمعْ ولم يَقُلِ

 

اللهمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ والأقوالِ والأهواءِ، لا يهدي لأحسنِها إلا أنتَ، واصرفْ عنَّا سيئَها، لا يصرفْ عنَّا سيئَها إلا أنت برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ أصلحْ لنا الأبناءَ والبناتِ والزَّوجاتِ يا مجيبَ الدَّعواتِ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشِّركَ والمشركينَ، واجعلْ هذا البلدَ آمناً مُطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ آمنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهمَّ وَفِّقْ وليَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّده بتأييدِك، واجعلْ عملَه في رِضاكَ، وهيئ له البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصحةَ، التي تَدلُه على الخيرِ وتعينُه عليه، ربنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِّنا عذابَ النَّارِ برحمتِك ياربَّ العالمينَ.

 

ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى؛ فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]،  اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

أدب الصراحة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات