مكانة الأسرة في الإسلام ومظاهر عنايته بها

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/مكانة الأسرة في الإسلام 2/أهداف قيام الأسرة في الإسلام 3/مظاهر عناية الإسلام بالأسرة.

اقتباس

إِنَّ الْأُسْرَةَ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْمُجْتَمَعُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْمُجْتَمَعُ؛ وَلِهَذَا اعْتَنَى النِّظَامُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِسْلَامِيُّ بِالْأُسْرَةِ عِنَايَةً كَبِيرَةً.. وَقَدْ يَكُونُ الرَّبْطُ بَيْنَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ وَالْأُسَرِ بِسَبَبِ رَابِطَةِ الصِّهْرِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اسْتِقَامَةِ الْأُسَرِ عَلَى...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَدِ اعْتَنَى بِشُؤُونِ مُتَّبِعِيهِ فِي أَحْكَامٍ جُزْئِيَّةٍ، وَأُمُورٍ لَا تُلَازِمُ حَيَاتَهُمْ أَوْ حَيَاةَ أَكْثَرِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً؛ كَالرَّهْنِ مَثَلاً، وَلَمْ يَعْتَنِ اعْتِنَاءً كَبِيرًا بِالشُّؤُونِ الْكُلِّيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْجِهَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا؟

 

إِنَّنَا نُوقِنُ جَمِيعًا يَقِينًا جَازِمًا بِأَنَّ دِينَنَا الْعَظِيمَ قَدِ اعْتَنَى عِنَايَةً كَبِيرَةً بِذَلِكَ بِلَا شَكٍّ؛ وَالْأُسْرَةُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي أَوْلَاهَا الْإِسْلَامُ تِلْكَ الْعِنَايَةَ بِتَشْرِيعَاتِهِ الْحَكِيمَةِ، وَأَحْكَامِهِ الْعَادِلَةِ.

 

وَقَدْ تَرْجَمَ تِلْكَ الْمَكَانَةَ السَّامِيَةَ أَحْكَامُهُ وَآدَابُهُ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -تَعَالَى- لِبِنَاءِ الْأُسْرَةِ، وَالْحِفَاظِ عَلَى اسْتِقْرَارِهَا، وَعِلَاجِ مُشْكِلَاتِهَا، وَمَنْعِ أَسْبَابِ اخْتِلَالِهَا.

 

وَلَمْ تَكُنْ نَظْرَةُ الْإِسْلَامِ إِلَى الْأُسْرَةِ بِهَذَا السُّمُوِّ إِلَّا لِلْأَهْدَافِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُرْجَىَ بِهَا. وَمِنْ تِلْكَ الَأْهَدافِ الْحَسَنَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ:

حُصُولُ الِاسْتِقْرَارِ الْحَيَاتِيِّ لِلْإِنْسَانِ؛ فَبِالْأُسْرَةِ يُجْمَعُ شَتَاتُ النَّفْسِ، وَيَذْهَبُ عَنْهَا التَّشَرُّدُ، وَيَنْتَهِي زَمَنُ الْفَوْضَى، لِيَأْتِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاطْمِئْنَانُ، وَتَرْتِيبُ شُؤُونِ الْحَيَاةِ، وَيَحْصُلُ السُّكُونُ وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].

 

وَمِنْ تِلْكَ الْأَهْدَافِ الْحَسَنَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ: تَلْبِيَةُ حَاجَاتِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي جَوٍّ نَظِيفٍ، وَإِطَارٍ شَرِيفٍ، تَحُفُّهُ السَّعَادَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَتَسْقِي حَدِيقَتَهُ النَّضِرَةَ جَدَاوِلُ الْحُبِّ وَالرَّحْمَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْ تِلْكَ الْأَهْدَافِ الْحَسَنَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ: حِفْظُ الْكِيَانِ الْإِنْسَانِيِّ مِنَ الِانْدِثَارِ، وَذَلِكَ بِحُصُولِ الذُّرِّيَّةِ، لَا سِيَّمَا وَالْإِسْلَامُ يَدْعُو الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَكْثِيرِ أَعْدَادِهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ).

 

وَقَدْ قِيلَ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ.

 

وَقَدْ أَدْرَكَ أَعْدَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَرَ تَكَاثُرِهَا عَلَيْهِمْ؛ فَعَمِلُوا بِكُلِّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحُدُّ مِنْ فَيَضَانِ أَعْدَادِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَثْرَةِ الْخُصُوبَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِيهَا.

 

وَمِنْ تِلْكَ الْأَهْدَافِ الْحَسَنَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ: الرَّبْطُ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَإِيجَادُ التَّعَارُفِ وَالْعَلَاقَاتِ الْحَسَنَةِ بَيْنَهَا؛ إِذْ إِنَّ الْمُصَاهَرَةَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الِمْؤُدِّيَةِ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[الحجرات: 13].

 

وَقَدْ يَكُونُ الرَّبْطُ بَيْنَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ وَالْأُسَرِ بِسَبَبِ رَابِطَةِ الصِّهْرِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اسْتِقَامَةِ الْأُسَرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَنَشْرِ الْهِدَايَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، وَبِذَلِكَ تَقْوَى الْعَلَاقَاتُ.

 

وَمِنْ تِلْكَ الْأَهْدَافِ الْحَسَنَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ: رَفْدُ الْمُجْتَمَعِ بِالْعَطَاءِ النَّافِعِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقَيْنِ: الْأُوَّلِ: أَنَّ الْمَرْءَ الْعَاقِلَ حِينَمَا يَبْدَأُ فِي تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ يَسْعَى بِكُلِّ جِدٍّ إِلَى إِيجَادِ رَافِدٍ مَالِيٍّ يَكْفِيهِ وَعَائِلَتَهُ؛ فِلِأَجْلِ ذَلِكَ يُقَدِّمُ لِلْمُجْتَمَعِ جُهْدَهُ الْبَدَنِيَّ أَوِ الذِّهْنِيَّ اللَّذَيْنِ يُسَاهِمَانِ فِي سَعَادَةِ الْحَيَاةِ. وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ: رَفْدُ الْمُجْتَمَعِ بِالْأَبْنَاءِ الَّذِينَ يُشَارِكُونَ الْآبَاءَ بِجُهُودِهِمْ فِي اسْتِمْرَارِ حَيَاةِ الْمُجْتَمَعِ، وَيَخْلُفُونَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ رَحِيلِهِمْ، وَبِذَلِكَ تَبْقَى سَفِينَةُ الْحَيَاةِ تَمْخُرُ عُبَابَ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ بِفَنَائِهَا.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ "الْأُسْرَةَ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْمُجْتَمَعُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْمُجْتَمَعُ؛ وَلِهَذَا اعْتَنَى النِّظَامُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِسْلَامِيُّ بِالْأُسْرَةِ عِنَايَةً كَبِيرَةً، تَظْهَرُ فِي الْأَحْكَامِ الْكَثِيرَةِ بِشَأْنِهَا، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَرَدَتْ بِهَا آيَاتٌ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَتَعَبَّدُ الْمُسْلِمُونَ بِتِلَاوَتِهَا فِي صَلَاتِهِمْ وَخَارِجَهَا، فَضْلاً عَنِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْكَرِيمَةِ الْوَارِدَةِ فِي مَوْضُوعِ الْأُسْرَةِ".

 

وَمَا أَحْسَنَ أَنْ نُشِيرَ إِلَى بَعْضِ مَظَاهِرِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُسْرَةِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْمَظَاهِرِ:

تَشْرِيعُ الزَّوَاجِ، وَالْحَثُّ عَلَيْهِ، فَـ"الزَّوَاجُ هُوَ السَّبِيلُ الطَّبِيعِيُّ لِتَكْوِينِ الْأُسْرَةِ، وَبَقَاءِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، وَقَدْ رَغَّبَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَجَعَلَهُ مِنْ سُنَنِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِيجَادُ النَّسْلِ وَتَكْوِينُ الْأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ"؛ حَتِّى إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ عِنْدَمَا تَحَدَّثَ عَنِ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ذَكَرَ أَنَّ الزَّوَاجَ كَانَ مِنْ سُنَنِهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ التَّبَتُّلُ مِنْ شَرْعِهِمْ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرعد: 38].

 

وَقَدْ ضَبَطَ الْإِسْلَامُ تَشْرِيعَ الزَّوَاجِ ضَبْطًا مُحْكَمًا؛ فَشَرَعَ الْآدَابَ وَالْأَحْكَامَ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ قُدْسِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَتَضْمَنُ تَحْقِيقَهُ لِلنَّتَائِجِ الطَّيِّبَةِ الْمَرْجُوَّةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

أَنَّهُ حَثَّ عَلَى حُسْنِ الِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ عَلَى الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَأَوْصَى بِذَلِكَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَأَقَارِبَهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ), وَقَالَ-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

وَمِنْ مَظَاهِرِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُسْرَةِ: أَنَّهُ شَرَعَ الْخِطْبَةَ، وَشَرَعَ نَظَرَ كُلٍّ مِنَ الْخَاطِبِ وَالْمَخْطُوبَةِ إِلَى الْآخَرِ قَبْلَ عَقْدِ الزَّوَاجِ؛ مِنْ أَجْلِ حُصُولِ الْقَنَاعَةِ وَالتَّعَارُفِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا"؟ قَالَ: لَا، قَالَ: "فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا.."(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

كَمَا أَنَّ هَذَا الدِّينَ الْحَنِيفَ شَرَعَ قِيَامَ هَذِه الْأُسْرَةِ الْجَدِيدَةِ عَلَى عَقْدٍ قَائِمٍ عَلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَمَهْرٍ تُعْطَاهُ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا.

 

وَمِنْ مَظَاهِرِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُسْرَةِ: إِعْلَامُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ هُنَاكَ حُقُوقًا زَوْجِيَّةً بَيْنَهُمَا؛ فَلِلزَّوْجِ حُقُوقٌ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَللِزَّوْجَةِ حُقُوقٌ عَلَى زَوْجِهَا، وَبِأَدَاءِ تِلْكَ الْحُقُوقِ تَسْتَقِرُّ الْأُسْرَةُ، وَتُنْتَجُ ثِمَارُهَا الْحَسَنَةُ فِي الْمُجْتَمَعِ.

 

وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ تِلْكَ الْحُقُوقَ، وَمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ إِلَّا الْقِيَامُ بِهَا، قَالَ –تَعَالَى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء: 19]، وَقَالَ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)[البقرة: 228].

 

وَيُوَجِّهُ الْإِسْلَامُ النِّدَاءَ لِلزَّوْجِ لِتَحْسِينِ مُعَامَلَتِهِ لِزَوْجَتِهِ؛ فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَيَقُولُ: "وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ).

وَيُوَجِّهُ نِدَاءَهُ لِلزَّوْجَةِ كَذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ حَقِّ زَوْجِهَا؛ فَيَقُولُ اللهُ –تَعَالَى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)[النساء: 34].

 

وَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ"(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ).

 

وَهَكَذَا حَمَّلَ الْإِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ الْمَسْؤُولِيَّةَ تِجَاهَ أَبْنَائِهِمْ، كَمَا وَجَّهَ الْأَبْنَاءَ للْقِيَامِ بِحُقُوقِ أَبَوَيْهِمَا، وَكَذَا وَجَّهَ الْإِخْوَةَ؛ حَيْثُ وَجَّهَ الصَّغِيرَ إِلَى تَقْدِيرِ الْكَبِيرِ، وَوَجَّهَ الْكَبِيرَ بِالْعَطْفِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالرِّفْقِ بِهِ.

 

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ أُسَرَنَا، وَيُدِيمَ عَلَيْنَا وَعَلَى زَوْجَاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا ظِلَالَ فَضْلِهِ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ مَظَاهِرِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُسْرَةِ: تَشْرِيعُ الْفِرَاقِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ فَاللهُ -تَعَالَى- شَرَعَ الزَّوَاجَ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحَ يَدُومُ بِهَا بَقَاءُ الْأُسْرَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَعَكَّرُ جَوُّ الْأُسْرَةِ بِبَعْضِ الْمُشْكِلَاتِ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ هُوَ الْحَلُّ الصَّحِيحُ مِنْهَا، بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحُلُولِ الْأُخْرَى كَافَّةً. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "وَتَشْرِيعُ الطَّلَاقِ هُوَ الشَّيْءُ الطَّبِيعِيُّ الْمَعْقُولُ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ إِجْبَارُ شَخْصَيْنِ عَلَى إِبْقَاءِ الرَّابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِالرَّغْمِ مِنْ قِيَامِ مَا يَدْعُو إِلَى انْفِصَالِهَا، وَإِنَّمَا الْمَعْقُولُ أَنْ تُبَاحَ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِيَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى سَبِيلِهِ، وَيُجَرِّبَ حَظَّهُ فِي شريكة أُخْرَى".

 

إِذْ فَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا الْحِكْمَةِ أَنْ تَبْقَى تِلْكَ الْعَلَاقَةُ قَائِمَةً وَالْخِلَافَاتُ تَعْصِفُ بِهَا عَصْفًا، دُونَ الْوُصُولِ إِلَى حَلٍّ لَهَا؛ فَكَانَ الْفِرَاقُ هُوَ الدَّوَاءُ مِنْ ذَلِكَ الدَّاءِ، غَيْرَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي تَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ الْأُسَرِيِّ يُلَاحِظُ أُمُورًا:

أُولَاهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ آخِرُ الْحُلُولِ، وَلَيْسَ أَوَّلَهَا؛ فَهُوَ مَخْرَجُ طَوَارِئَ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الزَّوْجُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.

 

ثَانِيهَا: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَهُ بِيَدِ الزَّوْجِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ. وَالسَّبَبُ: "أَنَّ الرَّجُلَ عَادَةً أَكْثَرُ سَيْطَرَةً عَلَى عَوَاطِفِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يُحَمِّلُهُ أَعْبَاءَ مَالِيَّةً كَثِيرَةً قَدْ تَدْفَعُهُ إِلَى الرَّوِيَّةِ وَعَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ".

 

ثَالِثُهَا: إِذَا كَانَ أَمْرُ الطَّلَاقِ بِيَدِ الزَّوْجِ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْفِرَاقِ اسْمُهُ الْخُلْعُ، تَتَخَلَّصُ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ عِشْرَةٍ لَا تُطِيقُهَا إِذَا أَبَى الزَّوْجُ الطَّلَاقَ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)[البقرة: 229].

 

فَيَا عِبَادَ اللهِ: اعْرَفُوا مَكَانَةَ الْأُسْرَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَاشْكُرُوا اللهَ -تَعَالَى- عَلَى نِعْمَةِ هَذَا الدِّينِ الَّذِي يَحْفَظُ حَيَاةَ أَهْلِهِ تَحْتَ آفَاقِ السَّلَامَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

 

وَتَأَمَّلُوا فِي تِلْكَ الْمَظَاهِرِ الدَّالَّةِ عَلَى عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُسْرَةِ؛ كَيْ تَسْعَوْا لِلْعَمَلِ بِهَا عَلَى وَفْقِ تَشْرِيعِ دِينِنَا الْحَنِيفِ؛ فَتَسْعَدُوا فِي أُسَرِكُمْ، وَتَسْعَدَ بِكُمْ.

 

وَقَارِنُوا بَيْنَ حَالِ الْأُسْرَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحَالِهَا فِي غَيْرِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَا تَغْتَرُّوا بِالْمَظَاهِرِ الْخَادِعَةِ، وَالدَّعَوَاتِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي تُرَوِّجُ لِلْحَيَاةِ عَلَى نَمَطِ الْأُسَرِ غَيْرِ الْمُسْلِمَةِ، وَتَدْعُو لِلِانْعِتَاقِ عَنِ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْمُحَاطَةِ بِسِيَاجِ الْآدَابِ وَالْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

 

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَ الْجَمِيعَ لِبِنَاءِ الْأُسَرِ بِنَاءً إِسْلَامِيًّا، وَالْحِفَاظِ عَلَيْهَا مِنْ عَوَامِلِ الْهَدْمِ وَالِاخْتِلَالِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ: (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦].

 

 

المرفقات

مكانة الأسرة في الإسلام ومظاهر عنايته بها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات