بين النفس والعقل (1)

حسام بن عبد العزيز الجبرين

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الفرق بين العقل والنفس 2/سر الاستعاذة من شر النفس3/انسجام التكاليف الشرعية مع طبائع النفوس 4/من صور صراع النفس مع العقل.

اقتباس

خلق الله في الإنسان عقلاً ونفسًا؛ خلق الله العقل ليدُل ويهدي ويتفكر ويُري صاحبه الطريق، وأما النفس فخُلِقَتْ لتشتهي وتهوى؛ فتحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، والعقل يريها الصحيح من الخطأ، ويميز لها الخير من الشر، والنافع من الضار من طبائِعها وشهواتها وأعراضها.

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله العزيزِ الغفّار، الرحيمِ الجبار، القديرِ القّهار، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا غنى إلا بالافتقار لرحمته، ولا عزَّ إلا بالتذلل لعظمته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فأيام حياتنا أوقات بذر وزرع، حصاد نتاجه يوم لقاء الله (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30].

 

عباد الرحمن: لو أن عظيمًا من عظماء الناس جاء فأقسم ثلاثًا فإن الناس ستشرئب أعناقهم لمعرفة كلامه، وسوف يعتني به أكثر من يخصه الكلام، وأنا أطرح بين يديك -عبد الله- تساؤلاً: ما أطول قسم لرب العزة -سبحانه- في القرآن؟! وعن ماذا كان؟! أحد عشر قَسَمًا متتابعًا كان جوابها: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)[الشمس:9، 10]، وكانت النفس ضمن ما أقسم الله به.

 

معشر الكرام: خلق الله في الإنسان عقلاً ونفسًا؛ خلق الله العقل ليدُل ويهدي ويتفكر ويُري صاحبه الطريق، وأما النفس فخُلِقَتْ لتشتهي وتهوى؛ فتحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، والعقل يريها الصحيح من الخطأ، ويميز لها الخير من الشر، والنافع من الضار من طبائِعها وشهواتها وأعراضها.

 

عباد الله: نفوس الناس تختلف في نوع ما تشتهي ومقداره، لكنها تشترك في النَّهم وطلب المزيد كحب المال مثلاً، ولذا خلقت العقول وأنزلت الشرائع حتى تضبطها، فالشرائع الربانية فيها ضبط عام يستوي فيه الجميع.

 

والعقل يدله الوحي وينيره؛ كالعين فإنها وإن كانت سليمة لا تبصر الأشياء في الظلماء مع وجودها، ولكن إذا أضيء المكان أبصرت الأشياء فالعقل يضلّ في عبادته بدون الوحي قال الحق -سبحانه-: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأنعام:122]، وقال -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[الشورى:52].

 

عباد الرحمن: ولم يذم الله العقل لذاته ولكن جاء ذم النفس؛ فإذا ذُكر العقل ذم عدم استعماله في التفكير (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا)[الأعراف:179]، (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[البقرة:44]، (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)[الأنعام:65]، (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)[يوسف:46]، (أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)[الأنعام:50]، وأما النفس فيتوجه إليها الذم؛ لأنها تأمر العقل بالخطأ والسوء؛ (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ)[يوسف:53]، فدخل الاستثناء عليها؛ لأن الأصل فيها الأمر بالسوء؛ ولأجل هذا جاء التحذير من النفس كثيرًا، ولم يأتِ التحذير من العقل ولو مرة.

 

ولم يستعذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من عقله، ولكن جاءت الاستعاذة من شر النفس؛ ففي خطبة الحاجة يقول: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا"، وقال: "أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان"(رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي).

 

والنفس قد تُعطَى الخير فترفضه وقد تزين الشر ولذا شرعت الاستعاذة من شرها (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة:30]، وقال السامري: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)[طه:96]، (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً)[يوسف:18]، وقال -تعالى- عن اليهود (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة:75].

 

فالمشكلة في نفوسهم الحاسدة المتكبرة، تأمل الآية (يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، وجاء في آية أخرى أن الحسد سبب كفرهم (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)[البقرة90]، وكذلك نفوس المشركين مبتلاة بالهوى؛ فهم ينكرون نبوة البشر ويعبدون ربًا من حجر!! قال –سبحانه- مخبرًا عن حقيقة إنكار فرعون وقومه للآيات (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)[النمل:14].

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله دلت على ربوبية جميع مخلوقاته، وعجائب مصنوعاته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فإن اختلاف النفوس سنة إلهية للكون، يحصل به توازن وتدافع ويتعامل الناس فيما بينهم؛ فلولا اختلاف الأذواق لبارت السلع.

 

عباد الرحمن: ومن لطف الله بعباده أن جاءت التكاليف الشرعية منسجمة مع طبائع النفوس؛ فالمرأة البكر المطبوعة على الحياء "إذنها صماتها"؛ لأن شجاعتها في الرفض قوية أما في الموافقة فلا.

 

ولذا جاء اشتراط الولي عند النكاح ليكون في مقابل الزوج عند التفاوض على الزواج رجل يحفظ لها حقها، ولذا لا يشترط لها ولي عند رفض الزواج من رجل لا ترغبه. والمحرم يَكْسِر حدّة ضعف النفس في الخلوة.

 

وأيضًا لم يكن مناسبًا وضع المرأة في مواضع الشدة والنزاع والخصومات؛ ليس لأجل ضعف عقلي؛ وإنما لأجل الطبع النفسي المؤثر فلو أُنيط بها إقامة الحدود وتنفيذ العقوبات لتعطل ذلك، وسبب ذلك عدم مناسبة تلك التكاليف لطبعائها؛ فسبحان الله وبحمده (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14].

 

عباد الرحمن: وصراع النفس مع العقل يظهر عند شهواتها، فإنها إذا تمكنت في النفس تعاملت النفس مع العقل بمقدار ما لديه من علم وخبرة وإيمان، وتسعى للتحايل عليه حتى تحقق مرادها، ومداخلها حال قوة الإيمان غير مداخلها حال ضعف الإيمان، وإذا عجزت عن تحقيق رغباتها بالخطأ الصريح مزجت الخطأ بشيء من الصحة.

 

وللحديث عن النفس بقية -إن شاء الله- في خطبة أخرى. ثم صلوا وسلموا..

 

ملحوظة: مجمل هذه الخطبة من كتاب: "الفصل بين النفس والعقل" للشيخ عبد العزيز الطريفي.

 

المرفقات

بين النفس والعقل (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات