تعليق الزوجات

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/الحكمة من تشريع الطلاق في الإسلام 2/التحذير من تعليق الزوجات والتلاعب بالطلاق 3/أسباب تعليق الزوجات 4/خطورة تعليق الزوجات وآثاره 5/علاج تعليق الزوجات.

اقتباس

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ عَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَأَشْقَاهَا، وَأَفْقَرَهَا وَمَا أَغْنَاهَا، وَمَنَعَهَا كُلَّ حَقٍّ لَهَا، أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَتْرُكْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَبَسَ آدَمِيَّةً فِي عِصْمَتِهِ،...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَبَّ شَيْئًا وَارْتَاحَ إِلَيْهِ حَرَصَ عَلَى بَقَائِهِ وَأَنِسَ بِهِ، وَإِذَا كَرِهَهُ تَرَكَهُ وَتَخَلَّصَ مِنْهُ؛ وَهَكَذَا الزَّوْجَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَوَافُقٌ وَلَا مَوَدَّةٌ فَلَا رَاحَةَ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا مَصْلَحَةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا، بَلِ الْمَصْلَحَةُ تَكُونُ فِي افْتِرَاقِهِمَا؛ فَلَعَلَّ الرَّجُلَ يُرْزَقُ بِمَنْ تَتَوَافَقُ مَعَهُ فَتَكُونُ خَيْرًا لَهُ، وَلَعَلَّهَا تُرْزَقُ بِمَنْ يَتَوَافَقُ مَعَهَا فَيَكُونُ خَيْرًا لَهَا؛ (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيمًا)[النساء:130].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ شَرَعَ اللهُ الزَّوَاجَ إِسْعَادًا لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَجَعَلَ الرَّابِطَ بَيْنَهُمَا شَرْعًا مُقَدَّسًا، فَقَالَ وَاصِفًا إِيَّاهُ: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[النساء:21]، وَلَكِنْ مِنَ الْأَرْوَاحِ مَا تَأْتَلِفُ فَتَبْقَى، وَمِنْهَا مَا تَخْتَلِفُ فَتَشْقَى، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَف"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَمَا كُلُّ رَجُلٍ صَالِحٍ لِكُلِّ امْرَأَةٍ، وَلَا كُلُّ امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَتِلْكَ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.

 

فَإِذَا لَمْ يَتَوَافَقِ الزَّوْجَانِ لِأَمْرٍ مَا كَانَ فِي الْفِرَاقِ رَاحَةٌ لِكِلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ بَقَاءَ المَرْأَةِ مَعَ رَجُلٍ لَا يُرِيدُهَا هَوَانٌ وَمَذَلَّةٌ، وَبَقَاءُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَةٍ لَا يُحِبُّهَا عَذَابٌ وَشَقَاءٌ؛ فكَمَا كَانَ الْإِقْبَالُ مِنْهُمَا بِشَوْقٍ وَفَرَحٍ وَوِئَامٍ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِرَاقُ فِي جَوٍّ مِنَ التَّفَاهُمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- يَقُولُ: (وَلَا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة:237].

 

وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ لِلطَّلَاقِ عَدَدًا، وَلِلرَّجْعَةِ حَدًّا؛ فَحَدَّهُ بِمَرَّتَيْنِ مُرَاعَاةً لِجَانِبِ الْمَرْأَةِ؛ وَتَقْيِيدًا لِلرَّجُلِ مِنَ التَّلَاعُبِ إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ مَفْتُوحَيْنِ؛ فَيُطَلِّقُهَا وَيُرَاجِعُهَا بِلَا نِهَايَةٍ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اللهَ -جَلَّ فِي عُلَاهُ- قَدْ حَفِظَ لِلْمَرْأَةِ حَقَّهَا، وَحَمَاهَا مِنَ التَّلَاعُبِ بِهَا بِكَلَامِهِ الْمُقَدَّسِ؛ فَأَنْزَلَ فِي حَقِّهَا قُرْآنًا تَعَبَّدَ النَّاسُ بِتِلَاوَتِهِ فَقَالَ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة:231].

 

فَتَأَمَّلُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي اسْتِغْلَالِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ لِتَعْلِيقِ الزَّوْجَةِ مُكَايَدَةً لَهَا؛ إِذْ سَمَّاهُ اللهُ -تَعَالَى- ضِرَارًا، وَوَصَفَهُ بِالِاعْتِدَاءِ؛ (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)، وَعَدَّ فَاعِلَ ذَلِكَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ؛ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، وَجَعَلَ هَذَا التَّصَرُّفَ اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ؛ (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)، وَأَمَرَ الزَّوْجَ بِالتَّقْوَى، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يُسِرُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِزَوْجِهِ وَلَوْ أَخْفَاهُ عَنِ النَّاسِ؛ (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فَكُلُّ هَذِهِ التَّحْذِيرَاتِ جَاءَتْ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِئَلَّا يَتَلَاعَبَ الْأَزْوَاجُ بِالزَّوْجَاتِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ تَعْلِيقَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ الزَّوَاجِ وَالطَّلَاقِ دَنَاءَةٌ وَخِسَّةُ طَبْعٍ، وَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا أَرَاذِلُ النَّاسِ؛ حَيْثُ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ حَتَّى إِذَا فَرِحَتْ بِخَلَاصِهَا، وَقَرُبَ فَرَجُهَا، وَكَادَتْ تَنْتَهِي عِدَّتُهَا، أَرْجَعَهَا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ إِطَالَةَ عَذَابِهَا، وَزِيَادَةَ إِذْلَالِهَا وَأَذِيَّتَهَا، وَالتَّلَاعُبَ بِعَوَاطِفِهَا، وَلَا يَلْجَأُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ ضَعُفَ عَنْ مُقَارَعَةِ الرِّجَالِ، فَأَظْهَرَ قُوَّتَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ؛ مُسْتَغِلًّا ضَعْفَهَا وَسُلْطَتَهُ عَلَيْهَا.

 

وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّعْلِيقِ: رَغْبَةَ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ؛ فَلَا يُرَاقِبُ اللهَ فِيهَا، فَيُعَلِّقُهَا سِنِينَ عَدَدًا، قَدْ تَصِلُ إِلَى عَشْرٍ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، يُدَمِّرُ بِذَلِكَ حَيَاتَهَا، وَيَقْضِي عَلَى مَا تَبَقَّى مِنْ سَعَادَتِهَا، وَيَحْكُمُ عَلَيْهَا بِأَنْ تَقْضِيَ بَقِيَّةَ عُمْرِهَا فِي آلَامِهَا وَأَحْزَانِهَا؛ فَيُبْقِيَهَا أَسِيرَةَ عِصْمَتِهِ، وَحَبِيسَةَ سُلْطَتِهِ، فَلَمْ يُعَاشِرْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يُؤَدِّ لَهَا حُقُوقَهَا بِإِحْسَانٍ، بَلْ رَمَاهَا عِنْدَ أَهْلِهَا بِلَا نَفَقَةٍ وَلَا سُكْنَى؛ فَلَا هُوَ طَلَّقَهَا لِتَتَزَوَّجَ، وَلَا رَاجَعَهَا لِتَسْتَقِرَّ، فَيَرْفُضَ الْآثِمُ طَلَاقَهَا تَعْذِيبًا، وَيُعَلِّقَ إِرْجَاعَهَا إِضْرَارًا وَظُلْمًا، وَرُبَّمَا حَرَمَهَا مِنْ أَوْلَادِهَا، وَمَضَى يَسْتَمْتِعُ هُوَ بِحَيَاتِهِ مَعَ غَيْرِهَا!

 

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ عَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَأَشْقَاهَا، وَأَفْقَرَهَا وَمَا أَغْنَاهَا، وَمَنَعَهَا كُلَّ حَقٍّ لَهَا، أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَتْرُكْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَبَسَ آدَمِيَّةً فِي عِصْمَتِهِ، فَلَمْ يَجْعَلْهَا تَنْعَمُ بِالْعَيْشِ مَعَهُ زَوْجَةً مُكَرَّمَةً مَصُونَةً، وَلَا فَارَقَهَا لِتَرَى فِي غَيْرِهِ نَصِيبَهَا؟!

 

وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ: أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُخْرَى فَيَمِيلَ إِلَيْهَا كُلَّ الْمَيْلِ، وَيُضَيِّعَ الْأُولَى وَأَوْلَادَهَا، أَوْ لَا تُعْجِبُهُ الثَّانِيَةُ فَيَرْجِعُ لِلْأُولَى، فَيُمْسِكُ نَفَقَتَهُ عَنْهَا، أَوْ يَقْتُرُ عَلَيْهَا بِسَبَبِ عَدَمِ مَحَبَّتِهِ لَهَا، فَتُصْبِحُ كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَاللهُ رَبُّنَا يَقُولُ: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ)[النساء:129]، فَيَهْجُرُهَا هَجْرًا طَوِيلًا. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ فِي أَنْوَاعِ الرِّجَالِ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ فِي وَصْفِ زَوْجِهَا: "زَوْجِيَ العَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَتْ عُيُوبَهُ لِأَهْلِهَا طَلَّقَهَا، وَإِنْ سَكَتَتْ عَنْهَا عَلَّقَهَا، فَلَا هِيَ عَزْبَاءُ وَلَا مُزَوَّجَةٌ.

 

وَمِنْ أَسْبَابِ التَّعْلِيقِ: أَنْ تَكُونَ المَرْأَةُ رَاغِبَةً عَنِ الرَّجُلِ لَا تُرِيدُهُ، وَرُبَّمَا أَرْغَمَهَا أَهْلُهَا بِالزَّوَاجِ مِنْهُ، فَلَمْ يُكْتَبْ بَيْنَهُمَا أُلْفَةٌ، وَلَمْ تَحْصُلْ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ؛ فَيُعَلِّقُهَا انْتِقَامًا مِنْهَا، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ قَلْبَهَا لَيْسَ بِيَدِهَا بَلْ هُوَ بِيَدِ خَالِقِهَا، وَأَنَّهُ يَمْلَؤُهَا حُبًّا أَوْ بُغْضًا؛ فَلَا يُكْرِهْهَا أَوْ يَنْتَقِمْ مِنْهَا عَلَى مَا لَا تَمْلِكُ؛ فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ). فَإِذَا كَاَنَ سَيِّدُ الْوَرَى لَا يَمْلِكُ قَلْبَهُ فَغَيْرُهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى؛ فَلْيَعْذِرْهَا فِي رَغْبَتِهَا عَنْهُ؛ وَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا لَنْ تُسَارِعَ إِلَى هَدْمِ بَيْتِهَا بِيَدَيْهَا، وَلَنْ تُفَارِقَ بَعْلهَا بِاخْتِيَارِهَا؛ فالضَّرَرَ الْأَكْبَرَ بِالطَّلَاقِ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَلَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ قَلْبِهَا أَنْ يُطَاوِعَهَا عَلَى حُبِّ زَوْجِهَا.

 

وَالرَّجُلُ الْكَرِيمُ إِذَا رَغِبَتِ المَرْأَةُ عَنْهُ رَغِبَ عَنْهَا، وَفَارَقَهَا وَلَوْ كَانَ يُحِبُّهَا، وَحَرِيٌّ أَنْ يُعَوِّضَهُ اللهُ بأَحْسَنَ مِنْهَا، وَيَشْفِيَ قَلْبَهُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهَا؛ فَحِينَ رَغِبَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَنْهُ، وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

أَمَّا الِانْتِقَامُ مِنْهَا بِتَعْلِيقِهَا فَإِنَّهُ لَنْ يُغَيِّرَ قَلْبَهَا تُجَاهَهُ، بَلْ سَيَزِيدُ مِنْ كَرَاهِيَتِهَا لَهُ، كَمَا أَنَّهُ سَيَمْلَأُ قُلُوبَ وَالِدَيْهَا وَأَهْلِهَا عَلَيْهِ غَيْظًا وَحَنَقًا، فَيَذْكُرُونَهُ بِشَرٍّ، وَيَدْعُونَ عَلَيْهِ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يُعَلِّقُهَا.

 

وَمِنْ أَسْبَابِ التَّعْلِيقِ: مَا يَجِدُهُ الزَّوْجُ مِنْ مَشَاكِلَ مَعَ أَهْلِ زَوْجَتِهِ، كَتَدَخُّلَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهَا الزَّوْجِيَّةِ، وَالَّتِي تُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى طَلَاقِهَا أَوْ تَعْلِيقِهَا؛ فكَمْ مِنْ آبَاءٍ وَأُمَّهَاتٍ يَجْنُونَ عَلَى بَنَاتِهِمُ بِتَصَرُّفَاتٍ سَيِّئَةٍ مَعَ الزَّوْجِ، تُؤَدِّي إِلَى كَرَاهِيَتِهِ لِابْنَتِهِمْ، وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِهَا؛ فَتَتَجَرَّعُ المِسْكِينَةُ عَلْقَمَ مَا جَنَاهُ أَهْلُهَا عَلَيْهَا وَعَلَى زَوْجِهَا.

 

وَالْوَاجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ مُعَامَلَةِ زَوْجَتِهِ لَهُ، وَبين مُعَامَلَةِ أَهْلِهَا؛ فَإِنْ أَحْسَنَتْ عِشْرَتَهُ فَلَا يُؤَاخِذُهَا بِجَرِيرَةِ أَهْلِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَدَّمَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُمْ فِيهِ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَقْلِهَا، فَكَيْفَ يُفَرِّطُ فِيهَا، أَوْ يُعَلِّقُهَا بِجَرِيرَةِ أَهْلِهَا؟! وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ قَوْلُ رَبِّنَا: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة:229]، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا وَيُكْرِمَهَا وَيُعْطِيَهَا حُقُوقَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُمَتِّعَهَا وَيُسَرِّحَهَا، وَلَهُ فِي سِوَاهَا غِنًى عَنْ ظُلْمِهَا وَتَعْلِيقِهَا.

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ لِتَعْلِيقِ الزَّوْجَةِ آثَارًا سَيِّئَةً عَلَى الزَّوْجِ، وَعَلَى الزَّوْجَةِ وَأَهْلِهَا وَأَوْلَادِهِمَا، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ؛ فَأَمَّا آثَارُهُ عَلَى الزَّوْجِ: بِأَنْ يُدَنَّسَ عِرْضُهُ، وَتُلَاكَ سُمْعَتُهُ؛ فَإِذَا عَلِمَ النَّاسُ سُوءَ فِعْلِهِ، وَشَنَاعَةَ قَرَارِهِ، خَاضُوا فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَتَفَكَّهُوا بِحَدِيثِهِ فِي الْمَجَالِسِ، وَأَصْبَحَ أَمْرُهُ شَائِعًا، وَظُلْمُهُ لِزَوْجِهِ ذَائِعًا، وَعِرْضُ المَرْءِ كَرِيمٌ عَلَيْهِ، تَخْدِشُهُ كَلِمَةٌ هَازِئَةٌ، وَتَجْرَحُهُ عِبَارَةٌ قَاسِيَةٌ، فَلْيَحْفَظْهُ مِنْ سُوءِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ، بَاخِسًا لِحَظِّهِ، مُعْتَدِيًا عَلَى شَرِيعَةِ رَبِّهِ، مُقَابِلًا الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ؛ فَأَهْلُ زَوْجَتِهِ وَثِقُوا بِهِ، وَأَوْطَؤُوهُ ابْنَتَهُمْ، وَوَهَبَتْهُ نَفْسَهَا إِحْسَانًا إِلَيْهِ؛ فَقَبِلَتْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدَّمَتْهُ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، أَفَيَكُونُ جَزَاؤُهَا النِّكَايَةَ وَالْعَذَابَ؟!

 

وَأَمَّا آثَارُ التَّعْلِيقِ عَلَى الزَّوْجَةِ: فَهِيَ الضَّحِيَّةُ الْأُولَى لِهَذَا الظُّلْمِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ أَهْلُهَا قَدْ رَفَضُوا قَبُولَهَا بَيْنَهُمْ، أَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْخَلَلَ مِنْهَا، أَوْ رَفَضُوا قَبُولَ أَوْلَادِهَا مَعَهَا نِكَايَةً بِزَوْجِهَا؛ فَتَبْقَى بِلَا زَوْجٍ يَعْطِفُ عَلَيْهَا، وَلَا أَهْلٍ يَرْأَفُونَ بِهَا؛ فَلَا تَجِدُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْعَاهَا، بَعْد أَنْ تَخَلَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُخَوَّلُ بِنَفَقَتِهَا، وَشَحَّ عَنْهَا أَهْلُهَا وَتَذَمَّرُوا مِنْ وُجُودِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي نَظَرِهِمْ ذَاتُ بَعْلٍ، مِمَّا يَضْطَرُّهَا لِلتَّسَوُّلِ وَالْإِهَانَةِ عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ.

 

وَقَدْ يَضْعُفُ دِينُ بَعْضِ الْمُعَلَّقَاتِ حِيالَ ذَلِكَ، وَيَرْخُصُ شَرَفُهَا أَمَامَ الْحَاجَةِ؛ فَتَبْذُلُ عِرْضَهَا لِتَلْبِيَةِ حَاجَاتِهَا، وَرُبَّمَا اتَّخَذَتْ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِلِانْتِقَامِ مِنْ زَوْجِهَا وَأَهْلِهَا بِتَدْنِيسِ عِرْضِهَا؛ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَصِيمَ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّهُ؛ فَكَيْفَ بِمَنِ اسْتَحَلَّ امْرأَةً فَأَضَاعَ عُمْرَهَا وَشَبَابَهَا، وَحَرَمَهَا حَقَّهَا، وَأَلْجَأَهَا إِلَى الْعَوَزِ وَالْحَاجَةِ؟ فَمَنْ يَرْعَاهَا وَيَقُومُ عَلَيْهَا؟!

 

وَأَمَّا آثَارُهُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْمُجْتَمَعِ: فَإِذَا عَلَّقَ الْأَبُ أُمَّهُمْ، وَرَفَضَ أَهْلُهَا قَبُولَهُمْ، وَبَقُوا حَيَارَى بَيْنَ أَهْلِ أَبِيهِمْ، وَأُمِّهِمْ، تَتَقَاذَفُهُمُ الْأَيْدِي، وَتُوصَدُ أَمَامَهُمُ الْأَبْوَابُ؛ تَخَطَّفَهُمُ الضَّيَاعُ، وَاحْتَوَاهُمُ التَّشْرِيدُ؛ فَمَا أَشَدَّهُ مِنْ أَلَمٍ عَلَيْهِمْ، حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْغُوبِينَ عِنْدَ أَعْمَامِهِمْ، وَلَا مَقْبُولِينَ عِنْدَ أَخْوَالهِمْ! فَيَضِيعُونَ وَيَهْلِكُونَ، وَيَبْقُونَ عَالَةً عَلَى الْمُجْتَمَعِ؛ بِسَبَبِ خِلَافَاتِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ!

 

وَأَوَّلُ عِلَاجٍ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ الْمَقِيتَةِ: أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ الزَّوْجُ مِنْ تَعْلِيقِ زَوْجَتِهِ، وَيَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِيَهَا حُقُوقَهَا؛ فَإِنْ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَهْلِه أَنْ يُنَاصِحُوهُ فِي أَمْرِ زَوْجِهِ، فَإِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.

 

كَمَا أَنَّ عَلَى ذَوِي الزَّوْجَةِ المُعَلَّقَةِ السَّعْيَ فِي فِكَاكِ ابْنَتِهِمْ مِمَّنْ يُعَلِّقُهَا إِضْرَارًا بِهَا، وَأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي خَلَاصِهَا مِنْهُ، وَلَا يُهْمِلُوا قَضِيَّتَهَا، وَعَلَى عُقَلَاءِ النَّاسِ أَنْ يَتَدَخَّلُوا فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، يَقُولُ رَبُّنَا -الْكَرِيمُ-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء:35]، وَأَنْ يَقِفُوا فِي وَجْهِ الظَّالِمِ، وَيَزْجُرُوهُ بِقَوَارِعِ الشَّرْعِ؛ فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ رَدَعُوهُ بِالْقَضَاءِ، وَحَامَوْا عَنِ الْمُعَلَّقَاتِ لِتَخْلِيصِهِنَّ مِنَ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي يَسْكُتُ أَفْرَادُهَا عَنِ الظُّلْمِ مُعَرَّضَةٌ لِلِانْهِيَارِ، وَمُتَوَعَّدَةٌ بِالْعَذَابِ، وَقَدْ رُويَ فِي الْحَدِيثِ: "إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ؛ فَقَدْ تُوَدِّعُ مِنْهُمْ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَمِنَ الْحُلُولِ –أَيْضًا-: أَنْ تَسْعَى الْمَرْأَةُ لِلصُّلْحِ مِنْ جِهَتِهَا، فَتُسْقِطَ بَعْضَ حُقُوقِهَا إِنْ رَأَتْ مِنْ زَوْجِهَا إِعْرَاضًا، أَوْ خَافَتْ مِنْهُ نُشُوزًا؛ فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء:128]، فَمَا اصْطلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ.

 

رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ..

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات