بيت النبوة (2) محمد صلى الله عليه وسلم

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/حسن معاشرة النبي لأزواجه 2/موقف يحدث في بيت النبوة 3/فوائد تربوية من هذا الحديث.

اقتباس

وَأَمَّا عَائِشَةُ فَمَعَ شَتْمِ زَيْنَبَ لَهَا إِلَّا أَنَّهَا تُثْنِي عَلَيْهَا خَيْرًا، وَتَمْدَحُهَا بِمَا تَعْلَمُ مِنْ حَالِهَا؛ فَتَقُولُ عَنْهَا: "وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا في الدِّينِ مِن زَيْنَبَ، وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا في الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ -لِمَنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ- شَيْءٌ مِنَ الْمُنَافَسَةِ، يَصِلُ حَدَّ التَّلَاسُنِ وَالْخِصَامِ حِينَ يَشْتَدُّ الْغَضَبُ، وَلَكِنَّ الزَّوْجَ الْحَلِيمَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ سَبَبُهُ الْغَيْرَةُ، وَمَحَبَّةُ كُلِّ زَوْجَةٍ أَنْ تَسْتَأْثِرَ بِزَوْجِهَا، وَحِينَ يَعُمُّ الْإِيمَانُ الْبَيْتَ الْمُسْلِمَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ حَمِيدَةً، وَتَرْجِعُ الْمُؤْمِنَةُ إِلَى شَرْعِ رَبِّهَا مُنْقَادَةً؛ فَتَعَالَوْا إِلَى مَوْعِظَةٍ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَدَرْسٍ نَبَوِيٍّ عَظِيمٍ فِي رُقِيِّ تَعَامُلِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَعَ أَزْوَاجِهِ، وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ مَعَ مَا يَقَعُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ مِنْ خِصَامٍ وَشِجَارٍ.

 

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنَّ حِزْبَيْنِ؛ فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ المُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ؛ فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَّرَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.

 

فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَدِيَّةً، فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا، فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا -أَيْضًا-، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ، فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: "لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ، إِلَّا عَائِشَةَ"، قَالَتْ: فَقَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

 

ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ: "يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟"، قَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ، فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ، هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: "إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

أَيُّهَا الْكِرَامُ: هَذَا مَوْقِفٌ يُبَيِّنُ لَنَا بَعْضًا مِمَّا قَدْ يَحْدُثُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ، وَمِنَ الدُّرُوسِ فِي ذَلِكَ:

بَيَانُ مَكَانَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَمَنْزِلَتِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَقَدْ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ سَائِرِ نِسَائِهِ؛ فَاشْتَدَّتْ غَيْرَةُ بَعْضِ نِسَائِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حِينَ رَأَيْنَ النَّاسَ يَهْدُونَ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَكُونُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا-، فَأَرَدْنَ مِنَ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ لَهُ شَيْئًا أَلَّا يَتَحَرَّى يَوْمَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، فَمُطَالَبَتُهُنَّ لَهُ بِالْعَدْلِ "لَيْسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ جَارَ عَلَيْهِنَّ، فَمَنَعَهُنَّ حَقًّا هُوَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ".

 

وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: "قَوْلُهَا: "يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي اِبْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ"؛ مَعْنَاهُ: يَسْأَلْنَكَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ، وَكَانَ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَبِيتِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَكَانَ يُحِبُّ عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْهُنَّ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُنَّ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ -سُبْحَانه وَتَعَالَى-، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَال"(شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ)؛ وَلِذَلِكَ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟"، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: "فَأَحِبِّي هَذِهِ"، يُرِيدُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-.

 

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ عَائِشَةَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جَوَابِ أُمِّ سَلَمَةَ: "لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ"، فَهَذَا اخْتِصَاصٌ إِلَهِيٌّ، لَا حِيلَةَ لِلنَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ؛ فَقَدِ اخْتَصَّهَا اللهُ -تَعَالَى- بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي ثَوْبِهَا، دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.

 

أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ حَقَّ حَمْدِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى آلَائِهِ وَفَضْلِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ مَا يَحْصُلُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ مِنْ مُنَافَسَةٍ وَغَيْرَةٍ لِلاسْتِئْثَارِ بِالزَّوْجِ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ؛ مَبْعَثُهُ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنْ حُبِّ الزَّوْجِ وَشِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِهِ؛ فَتَغَارُ مِنْ مُنَافَسَةِ غَيْرِهَا فِيهِ، قَدْ تَبْلُغُ هَذِهِ الْمُنَافَسَةُ وَالْغَيْرَةُ حَدَّ الْخِصَامِ؛ فَقَدْ تَنَاوَلَتْ زَيْنَبُ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاكِتًا؛ لِكَمَالِ حِلْمِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِطَبِيعَةِ النِّسَاءِ، تَارِكًا أَمْرَ الرَّدِّ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِلِانْتِصَارِ لِنَفْسِهَا، فَجَاوَبَتْهَا وَرَدَّتْ عَلَيْهَا حَتَّى أَفْحَمَتْهَا، وَنَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ "أَنَّ الرَّجُلَ يَسَعُهُ السُّكُوتُ بَيْنَ نِسَائِهِ إِذَا تَنَاظَرْنَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَمِيلُ مَعَ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ".

 

وَمِنْ دُرُوسِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ الْعَابِدَةَ قَدْ يَزِلُّ لِسَانُهَا وَتُخْطِئُ، لَكِنَّهَا لَا تُصِرُّ عَلَى خَطَئِهَا، وَسُرْعَانَ مَا تَرْجِعُ عَنْهُ؛ فَهَذِهِ زَيْنَبُ تَنَالُ مِنْ عَائِشَةَ بِلِسَانِهَا فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، تَقُولُ عَائِشَةَ: "فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ...، مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا -أَيْ: سُرْعَةَ غَضَبٍ-، تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ"، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: "وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهَا كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا شِدَّةَ خُلُقٍ، وَسُرْعَةَ غَضَبٍ تُسْرِعُ مِنْهَا، و"الْفَيْئَة" وَهِيَ الرُّجُوعُ، أَيْ: إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا رَجَعَتْ عَنْهُ سَرِيعًا، وَلَا تُصِرُّ عَلَيْهِ"(شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ).

 

فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُسْلِمُ بِخَطَئِهِ إِنْ أَخْطَأَ، فَيَرْجِعَ عَنْهُ وَيَعْتَذِرَ، وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ! وَهَذِهِ سِمَةٌ لِلنُّفُوسِ الْعَظِيمَةِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه)، وَإِنَّمَا آفَةُ الذُّنُوبِ: الِاسْتِمْرَارُ فِيهَا، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهَا.

 

وَمِنْ دُرُوسِ هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ بَعْضِ مَا تَتَّصِفُ بِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ صِفَاتٍ عَظِيمَةٍ؛ كَالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْخَطَأِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ، وَالْعَدْلِ مَعَ الْخَصْمِ، فَأُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا َقَالَ لَهَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ"، قَالَتْ: "أَتُوبُ إِلَى اللهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ"، وَأَمَّا عَائِشَةُ فَمَعَ شَتْمِ زَيْنَبَ لَهَا إِلَّا أَنَّهَا تُثْنِي عَلَيْهَا خَيْرًا، وَتَمْدَحُهَا بِمَا تَعْلَمُ مِنْ حَالِهَا؛ فَتَقُولُ عَنْهَا: "وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا في الدِّينِ مِن زَيْنَبَ، وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا في الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، ما عَدَا سَوْرَةً مِن حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا، تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

فَيَا لَهُ مِنْ إِنْصَافٍ يَحْتَاجُهُ الرِّجَالُ قَبْلَ النِّسَاءِ! فَعَائِشَةُ رَغْمَ مَا حَدَثَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَيْنَبَ، إِلَّا أَنَّهَا تَصِفُهَا بِمَا فِيهَا مِنْ أَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ، وَتَذْكُرُهَا بِالْخَيْرِ.

 

وَللهِ دَرُّ زَيْنَبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-! لَمَّا كَانَتْ حَادِثَةُ الْإِفْكِ، وَهَلَكَ فِيهَا مَنْ هَلَكَ، طَلَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْيَهَا فِي عَائِشَةَ، فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللهِ! أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

اللهُ أَكْبَرُ! هَذَا بَيْتُ النُّبُوَّةِ، وَهَذِهِ أَخْلَاقُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا أَعْظَمَهُنَّ مِنْ نِسَاءٍ! هُنَّ الْقُدْوَةُ لِنِسَائِنَا وَبَنَاتِنَا، أُولَاءِ الطَّاهِرَاتُ اللَّاتِي يَنْبَغِي لِبَنَاتِنَا أَنْ يَعْرِفْنَ سِيرَتَهُنَّ، وَيَتَرَبَّيْنَ عَلَى أَخْلَاقِهِنَّ، لَا عَلَى قَصَصِ السَّاقِطَاتِ فِي أَوْحَالِ الْفَنِّ الْآثِمِ، وَالْغِنَاءِ الْفَاحِشِ، وَالرَّقْصِ الْمَاجِنِ، وَهَلْ وَصَلَتْ حَالُ النِّسَاءِ فِي عَصْرِنَا إِلَى مَا وَصَلْنَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ سِيَرِ الْمَاجِدَاتِ، وَالْإِعْجَابِ بِالْفَاسِقَاتِ وَالْفَاجِرَاتِ؟!

 

وَأَيْنَ مَنْ كَانَتِ الزَّهْرَاءَ أُسْوتُهَا *** مِمَّنْ تَقَفَّتْ خُطَى حَمَّالَةِ الْحَطَبِ؟!

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْقَمَرِ الْمُنِيرِ، وَالْهَادِي الْبَشِيرِ، مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].

 

 

المرفقات

بيت النبوة (2) محمد صلى الله عليه وسلم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات