براءة الإسلام من الغلو والتشدد

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/شهادة التاريخ بيسر الإسلام وانتفاء الغلو عنه 2/مظاهر من يسر الإسلام وبعده عن الغلو 3/وجوب مكافحة الغلو

اقتباس

رأينا تعايشاً عبر التاريخ أقرّه الخلفاء وأيّده العلماء مع الأقليات والمذاهب رغم ضلالها ومخالفتها فلم يحاولوا تصفيتهم؛ فاهتدوا وانضمَّ أغلبُهم للإسلام لما رأوا من صورةٍ رائعة في الإسلام، قدّمها للعالم أولئك الأفذاذ، وجذبوا الناس إليها، وأقاموا...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الملك العلام، أعزنا بالإسلام، رسالة السلام، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأعلام، والتابعين لهم بإحسان، ومن تبعهم ما تعاقبت الليالي والأيام.

 

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن الإسلام دين كرامة وعزة؛ عزةٌ تحقَّقت عبر التاريخ بالتوحيد والجهاد، عقلاً وعلماً وحسن تطبيقٍ للشرع، وليس بإراقة الدماء ولا بالشدة والتنفير؛ فالعهد العمري لأهل القدس مشهور، وحين فتحَ قتيبةُ بن مسلم الباهلي سمرقند كتبَ كهنتُها لعمر بن عبد العزيز أنه دخل بلادهم دون دعوَةِ أهلها للإسلام أو الجزية، ولم يمهلهم ثلاثاً قبل قتالهم كعادةِ المسلمين، فأمر قاضيه لينظرَ في شكواهم، فقال القاضي: "لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً"، ثم قضى بخروج المسلمين وإعادة التفاوض؛ فما غربت شمس ذلك اليوم ورجل واحد من الجيش الإسلامي بأرض سمرقند، وأهلها لا يصدقون ما يرون!؛ فهذه العدالة الإسلامية لم يروا لها مثيلاً في التاريخ، فدخل أغلبهم في دين الله، التاريخ يحكي عن صلاح الدين الأيوبي حسن معاملته للصليبيين في جهاده معهم وعهده لأهل القدس، والتاريخ شاهد عن دعاة وتجار مسلمين ذهبوا لأصقاع الأرض، نشروا الإسلام بخلقهم وحسن معاملتهم فقط.

 

رجالٌ ونساءٌ وولاة وعلماء عبر التاريخ ضربوا المثل العالية بدينهم وأخلاقهم وطريقة جهادهم ومعاملتهم؛ فرأينا ثمرتَهم أن دخل الناس في دين الله أفواجاً، لم يفهموا الجهاد سفكاً للدماء، ولا انتقاماً وإثارةً للفتن والبلاء، وإفساداً للأمن لمصلحة الأعداء، ما خرجوا على إمامهم ولا هدموا دور عبادة غيرهم؛ فأبو بكرٍ الصديق -رضي الله عنه- يقول لأسامةَ: "إنِّي موصيكَ بعشرٍ: لا تقتُلنّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرِمًا، ولا تقطَع شجَرًا مثمِرًا، ولا تخرِّبنَّ عامِرًا، ولا تعقِرَنّ شاةً ولا بعيرًا إلا لمأكلَة، ولا تغرِّقنّ نخلاً، ولا تحرِّقنَّه، ولا تغلُّوا، ولا تجبُنوا"، هذا هو الجهاد في الإسلام وهذه مبادئه.

 

رأينا تعايشاً عبر التاريخ أقرّه الخلفاء وأيّده العلماء مع الأقليات والمذاهب رغم ضلالها ومخالفتها فلم يحاولوا تصفيتهم؛ فاهتدوا وانضمَّ أغلبُهم للإسلام لما رأوا من صورةٍ رائعة في الإسلام، قدّمها للعالم أولئك الأفذاذ، وجذبوا الناس إليها، وأقاموا حضارةً نرى آثارها اليوم، هذه عظمة الإسلام التي ينبغي أن لا تُشوهها أفعال متطرفين غلاة، ينشرون غلوهم باسم الجهاد، ولن ينالَ منها منافق بتعدّيه على الثوابت والمسلمات.

 

وهذا الفهم للإسلام آمن به حديثاً دعاةٌ ودول وجامعات ومراكز إسلامية ومؤسساتٌ دعويّة وخيرية فأحيوه في الأرض، ودخل بالإسلام بتوفيق الله ثم بجهودهم الملايين في دولٍ متعددة بُنيت فيها المساجد، وقامت فيها الدعوة بالحق والبيان، والسنة والقرآن، لا بالعنف والتطرف.

 

إن الجهادُ يكونُ بقواعده ومنطلقاته السليمة، واجتماع كلمته وحزم دولته، وجلب مصالحه ودفع مساوئه؛ لردِّ ظلم المعتدي برقيٍّ وحسن تعامل، لا بإثارة الفتن وإراقة الدماء وممارسات عنف غير مبرّر؛ فمحمّدٌ -صلى الله عليه وسلم- جاء رَحْمَةً للعَالَمِينَ؛ لينقذَ البشريّةَ أجمع، وليكونَ مصلحاً إصلاحًا شاملاً؛ بدين حوى نظاماً متكاملاً للحياةِ، يدعو للتسامُح والرفق، وينبذ العنف، ويحفظ كرامة الإنسان وحقوقه.

 

والحريةُ في الإسلام مكفولةٌ لكنها ليست فوضى وشذوذ، وإنما تقيدٌ بنصوص شرعية تُراعِي الإنصاف، حرّيّةٌ لا تعتدي على الآخرين، بل تأخذُ على يد الظالم ويأخذ الضعيفُ فيها حقَّه، حريةٌ مكفولة للمسلم ولغيره؛ فلا يُجبرُ على اعتناقِ هذا الدين -مع وجوب دعوته للإسلام-، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين)[يونس:99]، قال عمر -رضي الله عنه- لعجوزٍ نصرانيّة: "أسلِمي -أيّتها العجوز- تسلَمِي؛ إنَّ الله بعث محمّدًا بالحقّ"، قالت: أنا عجوزٌ كبيرة، والموتُ أقرب، قالَ عمَر: "اللّهمّ اشهَد!"، وتلا قوله -تعالى-: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة:256].

 

والإسلام يحترمُ مشاعرَ الآخرين؛ فقد نهى المسلم عن سبّ معتقَدات غيرِ المسلمين؛ كيلا ينالوا من مقدَّسات المسلمين؛ (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)[الأنعام:108]، قال القرطبيّ: "لا يحلّ لمسلم أن يسبَّ صلبانهم ولا دينَهم ولا كنائسَهم؛ لأنّه بَعثٌ على المعصيَة، والمسلمُ يدعو إلى الإسلام بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَيُجَادِلهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".

 

ها هو مُعلِّم البشريّة محمد -صلى الله عليه وسلم- يضرِب مثالاً في احترامِ جنس البشَر فيقول: "إذا رأيتم الجنازَةَ فقوموا حتى تُخَلِّفَكم"، فمرَّت به جنازَةٌ فقامَ لها، فقيل له: إنها جنازة يهوديّ! فقال: "أليست نفسًا؟!"(رواه البخاري).

 

دين الإسلام لا يعتدي على من هم ليسوا بمحاربين، (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)[الممتحنة:8]، عبد الله بن عَمرو يُكرّر على غلامه أن يعطيَ جارَه اليهوديّ من الأضحية، حتى دهِش الغلام، فلما سأله قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظنَنتُ أنه سيُورِّثه"(رواه البخاري).

 

هذا الفهم العميق للدين هو ما ضمن بقاء أقليات نصرانية ويهودية تعايشت ببلاد الإسلام عبر التاريخ محتفظةً بحقوقها، وهذا التعامل الحسن السمح والرفق واللين مع المسلمين أيضاً حَقَّق مصالح عظيمة للدعوة ورسوخ الدين وتمكين للمسلمين، ولقد بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ليُتمّم مكارم الأخلاق، وارتبط الدين كلّه بالمعاملة؛ فهو دينُ الرحمة بشتَّى صوَرِها، يُقال له -صلى الله عليه وسلم-: ادعُ على المشركين، فيقول: "إنِّي لم أُبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثتُ رحمة"، ويقول: "لا يرحَمُ اللهُ من لا يرحَمُ النّاسَ"(متفق عليه).

 

ولا تقتصر رحمة الإسلام على الإنسان حسب، بل تتعدها إلى الحيوان، يرى -صلى الله عليه وسلم- طيراً تدورُ حول نفسها فيقول: "مَن فجَع هذه بولَدِها؟ ردّوا إليها ولدها"، ورَأى -عليه الصّلاة والسلام- قريةَ نملٍ أحرقت، فقال: "من حرّق هذه؟ إنّه لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلا ربُّ النار"؛ فرحمة هذا الدين شملت الإنسان والحيوان، ومن العجب غيابها عند هؤلاء الغلاة الجفاة!.

 

الإسلام دين العدل وتوجيهاتُه مبنيّة على الأمر بالعدل حتى مع الأعداء؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة:8].

 

ولقد أصَّل مبادِئَ التكافُلِ الاجتماعي والتعاون قبل أن يعرِفها العالم المعاصِر؛ فأوجَبَ الزكاة، وجعل الكفّارات للمساكين، وحثَّ على الصدَقات حتى لغير المسلمين؛ فرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- تصدَّق على بيتٍ من اليهود، ثم أُجرِيَت عليهم الصدَقةُ من بعده، وعمرُ أمر خازِن بيت المال بصرفِ حاجةِ شيخٍ كبيرٍ ضريرِ البصر من غيرِ المسلمين من بيتِ المال!.

 

هذا هو الإسلام الذي تقوم دعوتُه على الخير والهدَى، الرفقُ قاعدتُه واليُسرُ تأصيلُه، ووصيّته -صلى الله عليه وسلم-: "يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا ولا تنفِّروا"، والشريعةُ جاءَت لتحصيل المصالح وتكثيرِها ودرء المفاسد وتقليلِها، فـ"لا ضرر ولا ضرار"، وأحكامه الفقهية بُنيت على التيسير؛ فما خُيّر -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ولن يُشادّ الدين أحدٌ إلا غلبه، وقاعدة العبادات: "اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ".

 

والإسلام عنوانه السماحة واليسر، والفهم المغلوط لأحكام الدين بالتشديد على الناس يضر ولا ينفع، وقد نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحذَّر منه، وإنما جاء التشدد والغلو من فهم مغلوط وممارسة ذميمة، وهذا التشدد كلٌّ يستطيعه، لكن القوةَ والفقه في السماحة واليسر المنطلقة من أصول الدين.

 

عباد الله: إن مسؤوليتَنا -جميعاً- بيانُ عظمة الإسلام، وعدم الدفاع عن أفعال ليست منه، تُنسب له وتشوّه جماله وتحرّف جهاده، ويستغلها أعداء الله في التنكيل بالمسلمين.

 

اللهم احمِ حوزة الدين، واكفه شر الغلاة والمرجفين، واهدنا إلى الصراط المستقيم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، وبعد:

 

عباد الله: فإذا عرفنا تعاليم الإسلام وسماحته ويسره وانتفاء الغلو عنه؛ فواجبنا أن نحذر من أن ننسب إلى الإسلام ما يفعله بعض أهل الجهل والضلال والزيغ والتطرف؛ فكم باسم الجهاد شوّه الغلاة عدالة الإسلام وسماحته! وكم خالفوا دعوته! يُزهقون أنفسهم لقتل غيرهم من المستأمنين ضلالاً وعدواناً، قد غسلت أدمغتهم ضدَّ أهاليهم وأوطانهم ورجال أمنهم، مُهملين ما عليه علماء الإسلام وأمته، فأصبحوا أداةً للعدوِّ وعُدَّتَه، وأخَّروا مشاريع الخير وعطلوها بفعلهم!.

 

والمصيبة أن الإعلام اليوم ببرامجه وقنواته أصبح مسلوبَ الهوية والإرادة؛ فهو يشترك مع الغلاة بتشويه تعاليم الإسلام بما يبثه من فسادٍ أخلاقي وتغريبٍ فكري ببرامجه التي ساهمت بتجهيل المسلمين، وإبعادهم عن دينهم والتمكين لعدوّهم، ويشترك معهم من ينالون من الدين ويتطاولون على مبادئه ظلماً وعدواناً.

 

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، وتمسكوا بدينكم بوسطية واعتدال متأسين بنبيكم -صلوات الله وسلامه عليه-، ولا تكونوا كالذين قال الله في كتابه مخاطبا لهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)[النساء:171].

 

وصلوا وسلموا ...

المرفقات

براءة الإسلام من الغلو والشدة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات