تأملات في سورة ق

سالم بن محمد الغيلي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/التحذير من يوم البعث والنشور 2/سورة ق خصصت للرد على منكري البعث والجزاء 3/إنكار الكفار للبعث بعد الموت والرد عليهم 4/الموت وسكراته 5/النفخ في الصور والبعث والجزاء

اقتباس

بين أيدينا سورة عظيمة من سور القرآن الكريم خصصت لقضية عظيمة غفل عنها كثيرون، واللبيب لا يغفل عن مثلها، خاطب الله بسورة (ق) العقول، وعالج بها أمراض الشك، والجدل العقيم. لقد أنكر الكفار يوم القيامة وما فيه...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم عليه ما بزغت الشمس والقمر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[الأحزاب: 70].

 

عباد الله: احذروا يوماً تعودون فيه إلى ربكم يوم ينفخ في الصور، ويبعثر من في القبور، ويظهر المستور، يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115]، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)[ص: 27]، (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)[القيامة: 36].

 

كلٌ مكلف مؤاخذ بعمله، تُكتب ألفاظه، وتُسجل ألحاظه في كتاب عند ربي تحصى فيه الصغائر والكبائر: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7-8].

 

بين أيدينا سورة عظيمة من سور القرآن الكريم خصصت لقضية عظيمة غفل عنها كثيرون، واللبيب لا يغفل عن مثلها، خاطب الله بسورة (ق) العقول، وعالج بها أمراض الشك، والجدل العقيم.

 

لقد أنكر الكفار يوم القيامة وما فيه من الجزاء والحساب: (قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ)[المؤمنون: 82-83].

 

وجاء الله بسورة ق كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم، ويخطب بها على المنابر في الجُمع والأعياد، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور والمعاد، والقيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب".

 

ذكر الله في بدايتها تعجب الكفار، واستبعادهم للمعاد بعد الهلاك؛ ولذلك نرى حالهم اليوم يعملون أعمالاً تغضب الله يضنون أنهم إذا ماتوا لا يُبعثون ولا يحاسبون، ولا بين يدي الله يقفون، قال الله عنهم: بسم الله الرحمن الرحيم: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ)[ق: 1-5]، وقالوا: هذا شيء عجيب! تعجبوا كيف يموتون، ويصبحون تراباً وعظاماً، وتأكل الأرض أجسادهم، ثم يحييون مرة أخرى، ويرجعون كما كانوا يبصرون ويتكلمون ويسيرون، قال الله عن الإنسان المكذب الكافر بأن الله يحي الموتى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)[يس: 78-79].

 

ويلفت الله انتباههم إلى بعض آيات الكون التي يرونها لعلهم يعتبرون ويتفكرون: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ  وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ)[ق: 6-11]، (كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ) كما أنشأ الله تلك الآيات والعبر، فخروج الأموات من القبور وإحياؤهم وحسابهم مثلها سهل على الله.

 

ثم بين الله -تعالى- أنه إذا انكر أحد في أمتنا البعث والنشور أو شككوا في ذلك أو ارتدوا عن دين الإسلام، أو الحدوا مع الملحدين، ولعنوا مع الملعونين أن قبلهم أمم قد كذبت وألحدت، فما جاؤوا بجديد لكن وعيدهم جميعاً في انتظارهم، قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُود وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)[ق: 12-14].

 

ثم يبين الله -تعالى- للناس شدة مراقبته لنا، وأننا في قبضته، الأنفاس معدودة، والهواجس معلومة، والألفاظ مكتوبة، والألحاظ محسوبة: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 16-18].

 

ثم يذكرنا الله بمرحلة من مراحل حياتنا هي من أشدها وأصعبها وأحرجها وأخطرها: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19]، هل رأيتم كيف يموت الميت يدخل في سكرات وإغماءات وتخريفات يفقد الوعي، يفقد التركيز ينسى من حوله ييأس من دنياه يستقبل آخرته: (ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) لا مفر، لا مغيب عن تلك اللحظات والسكرات والمتغيرات: (ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) في وقت معلوم، وأجل محتوم، وطريق مرسوم: (ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) تخور القوى، وتذهب العزوم، وتحتار الحيل: (ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) يعجز الطبيب، ويذهل الحبيب فلا يجيب، النهاية لكل إنسان براً أو فاجراً، مسلماً وكافراً، ولكنها لحظات شتان بينهما، المؤمن تخرج روحه كما تسيل القطرة من في السقاء، والكافر والملحد والمجرم والمرتد تنزع روحه كما ينزع الشوك من الصوف المبلول، فلنحسن العمل ونتق الله -عز وجل-، ونستعد لساعات الأجل.

 

اللهم إنا نسألك حسن الختام، وحسن العمل، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

 

أقول ما تسمعون...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً...

 

عباد الله: ثم يذكرنا الله في تلك السورة العظيمة بمرحلة ما بعد الموت، ومرحلة البعث والنشور والحساب، والوعد والوعيد، والجنة والنار، فالموت والخروج من الدنيا ليس نهاية المطاف.

 

ولو أنا إذا متنا تركنا *** لكان الموت غاية كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا *** ويسأل ربنا عن كل شيءٍ

 

فتأملوا الأحدث كيف يسوقها الله لنا في أوضح الصور والعبر والآيات: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)[الزمر: 68]، والصور خلق عظيم، وكل الله به ملك من الملائكة هو إسرافيل -عليه السلام-، قال صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وقد التقمَ صاحب القرن القرن، وحنَى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخَ فينفخ"(صحيح الترمذي صححه الألباني).

 

ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق: 20-22]، كل نفس تأتي يوم القيامة ومعها سائق يسوقها إلى الله، وشهيد يشهد عليها بما عملت.

 

ثم يأتي الخصام بين النفس وقرينها من الشياطين، كلٌ يرد اللوم على الآخر: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ* مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[ق: 27-29].

 

وتأتي مرحلة المصير والمآل والجزاء بعد الحساب والقضاء والفصل: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُود * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد)[ق: 30-35].

 

الله الله -أيها الأحبة- لا تغيب عنا هذه المعاني، وهذه العِبر وهذه العظات، فإنها آتيه لا محالة، فهذا ديننا، وهذا منهجنا، وهذا حاضرنا ومستقبلنا، فليحد من يلحد، وليسلم من يُسلم.

 

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها، اللهم أدخلنا الجنة بغير حساب...

 

وصلوا وسلموا...

 

المرفقات

تأملات في سورة ق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات