الأب

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/قصة شكوى أب ابنه إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- 2/منزلة الأب ومكانته 3/تأكد بر الأب عند الكبر 4/بر الأب بعد وفاته 5/وصايا هامة لمن كان له والد

اقتباس

"الأبُ" كلمةٌ قَليلةٌ حرُوفُها، عَظيمة في عطائِها وشعورِهِا. "الأبُ" لا تُوفِّيه العبارات، ولا تَرفعه الكلماتُ، ولا تجازيه القصائِدُ، مهما بلغت من الثناءِ والمحامد. "الوالدُ" هو السندُ إن مال عليك الأنام، وهو المعين إن ابتسمتْ لك...

الخطبة الأولى:

 

إخوة الإيمان: مشى "عَتَّاب" على حالٍ مِنْ الحُزْنِ والأَسَى يَبْحَثُ عَنْ مَنْ يَبُثًّ له شكايتَهُ، وَيَشْكُو إليه مَظْلَمَتَهُ، فإلى مَنْ مَشَى؟ وفي أيِّ موضوعٍ تَظَلَّمَ واشْتَكى؟

 

أمَّا إلى مَنْ؟ فإلى أعدلِ قُضاةِ التاريخِ محمدٍ ¬-صلى الله عليه وسلم-.

 

وأمَّا دَعْوُاه فتقول: "يا رسولَ الله إنَّ أبي أخذَ مالي".

 

نعم، مُؤْلم أَخْذُ المالِ والظُّلم، لكنَّ شكوى الأبِ أشدُّ إيلاماً، فقال صلى الله عليه وسلم: فَأْتِني بِأَبِيْكَ، فجاءَ الابنُ بأبيه، فإذا هو شَيخٌ كَبير، قد علا وجْهَهُ شُحُوبُ الزَّمانِ، وإذا هو قدْ جَاشَتْ نفسُهُ بأبياتٍ من الأسى على صنيعِ ابنه الذي طالما ربَّاه وغَذَاه، وفي طريقهما نَزَلَ الوحيُّ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاءَكَ الوالدُ فاسألهُ عن شيءٍ قالَهُ في نفسِهِ ولم تَسْمَعْهُ أُذُنَاه".

 

فلما دنى الأبُ، قال له النبيٌّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما بال ابنكَ يشكوكَ أَن أخذت لهُ ماله؟" فقال الشيخ فقال: سَلهٌ يا رسولَ اللهِ هلْ أنفقتُه على نَفسي أم على إحدى عمَّاتِهِ؟

 

ولم ينتظرِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جوابَ الابنِ، وإنَّما بادرَ الرجلَ، فقال: أخبرني عن شيءٍ قُلتَهُ في نفسكَ، ولم تَسْمَعْهُ أُذُنَاكَ وأنتَ قادمٌ إليّ؟ فقال الشيخ: واللهِ يا رسولَ الله ما زال اللهُ يزيدُنا بكَ يقيناً، لقد قُلتُ في نَفْسِي ولم تَسْمَعْهُ أُذُنَايَ:

 

غَذَوتُكَ مولوداً وعِلتُكَ يافعاً *** تُعلُّ بما أُدني إليكَ وتَنهلُ

إذا ليلةُ ضافتكَ بالسقمِ لم أبِتْ *** لسُقمِكَ إلاّ ساهراً أتملّملُ

كأنّي أنا المطروقُ دونكَ بالذي *** طُرقتَ به دوني فعينيَ تَهملُ

فلمّا بلغتَ السِنَّ والغايةَ التي *** إليها مدى ما كُنتُ فيكَ أُؤملُ

جَعَلتَ جزائي غِلظَةً وفظاظةً *** كأنّكَ أنتَ المُنعِمُ المتَفضلُ

فليتكَ إذ لم تَرْعَ حقَّ أبوَّتي *** فَعَلتَ كما الجارُ الملاصقُ يفعلُ

فأوليتَني حَقَّ الجوارِ ولم تَكُن *** عَليَّ بمالٍ دونَ مالِكَ تبخَلُ

 

فبكى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حتّى ابتلَّتْ لحيتُه الشريفةُ، ثُمَّ أمْسَكَ صلى الله عليه وسلم بتلابيبِ الوَلدِ، وقال: "أنتَ ومالُكَ لأبيك".

 

فيا لِعَظَمَةِ هذا المشْهد! ويا لِعِظَمِ حَقِّ الأَبِ!

 

"الأبُ" كلمةٌ قَليلةٌ حرُوفُها، عَظيمة في عطائِها وشعورِهِا.

 

"الأبُ" لا تُوفِّيه العبارات، ولا تَرفعه الكلماتُ، ولا تجازيه القصائِدُ، مهما بلغت من الثناءِ والمحامد.

 

"الوالدُ" هو السندُ إن مال عليك الأنام، وهو المعين إن ابتسمتْ لك الأيام.

 

وجودُه وحياتُه حَياة، وقسوته وإرشاده نَجَاة.

 

هو سورُ الأسرةِ وعمودُها، وهو رمزُ أمانها، وسرُّ استقرارها.

 

"الوالدُ" هو مُهْجَةُ الرُّوحِ، وقُرْةُ العين، ونُورُ الحياة، وشمعةُ المنزل.

 

حضورُهُ أُنْسٌ وَأَمَانٌ، ورُؤْيَتُه سعادةٌ واطمِئْنانٌ، وفَقْدُه لا تُعوِّضُهُ الأَثْمان.

 

"الأبُ" هو الرفيقُ الذي لا يَغيبُ، وهو الصديقُ وهو الحبيب، هو ثوبُك وجَسَدُك، وملامِحُك وأحلامُك.

 

"والدُك" هو رمزُ المحبةِ والعطاء، وعنوانُ التضحيةِ والفداء، وأصلُ المحاكاةِ والاقتداء.

 

"الوالدُ" هو المربي والموجِّه لك دون تقصير، وهو الباذلُ والكريمُ عليك دون بُخْلٍ أو تَقْتِير.

 

يأخذ من نفسِه لِيُعْطِيَكَ، ويَقْطَعُ مِنْ جَسَدِهِ لِيَفْدِيَك، وإن لم يُعْطِك ما تَتمنى، فقد وَهَبَكَ كلَّ ما وَجَدَ وتعنَّى.

 

إنه الأب الذي وصى به المولى -جل جلاله-، وجعل حقه عظيماً، وشكره واجباً محتوماً: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].

 

يا مَنْ تريد رضى رب البريَّات، وتطلب جنة عرضها الأرض والسموات: دونك باباً من أبوابها، قال عليه الصلاة والسلام: "الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فحافِظْ على ذلك إنْ شِئْتَ أو دَعْ"(صححه ابن حبان، وجوَّد إسناده العلامة ابن باز).

 

الإحسان إلى الأب سببٌ لقبول الأعمال؛ قال سبحانه عن عبده الشاكر لنعمته، البارِّ بوالديه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)[الأحقاف: 16].

 

استرضاءُ الأب استجلابٌ لرضا الله وجَنَّه، وبُعْدٌ عن غضب الله وَجُنَّه، قال عليه الصلاة والسلام: "رِضَا اللهِ في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد"(صححه ابن حبان وحسنه الألباني).

 

قف -يا عبدَ الله- تأملْ معي قَدْرَ والِدِكَ، وفضلَهُ عليك، وإحسانَه إليك، فوالدك أنت نطفته، وقطعة منه، يرى فيك أملَهُ وذِكْرَهُ وبَقَاءَهُ.

 

لا تسل عن السرور، ولا عن الفرح الذي غشيه، ولا عن السعادة التي لفته حين بُشِّرَ بك، وأنت في أحشاء أمك.

 

ويزداد سرواً كلما تقدَّمت في الحمل شهوراً.

 

يَنْتظرُ بشوقٍ لإطلالتِكَ، ويَتَحَيَّنُ بِلَهَفٍ لإشراقتك.

 

يَعُدُّ الأيامَ واللياليَ لهذا اللقاءِ الجميل، كم سَرَّحَ في خيالِهِ من مَشَاهد؟ وكمْ هَامَ في وجْدَانِهِ من أُمْنِيات؟

 

ولمَّا حَانتْ ساعةُ خروجِك، وعَانَتْ أمُّكَ ما عَانَتْ من خُروْجِكَ، إذا والدك يعيشُ المعاناةَ والاضطراب، وكأنما يشاطرها الألَم والأوجاع، ويبتهلُ لله أن يخففَ ألم المخاض، حتى إذا سَمِعَ صرخاتِك فزَّ قلبُهُ وحنَّ! ورَقْرَقَتْ دَمَعاتُهُ وأنَّ! فرحاً بقدومك! وابتهاجك برؤيتك!

 

لا تَسَلْ عنْ نَظَراتِ المحبةِ، ولا عن لمساتِ الرحمةِ، ولا عن نبضات الحنان، فتلك لحظات لا تنسى في تاريخك عند أبيك.

 

ثم لا تزيده الأيام إلا حباً لك وتعلَّقا بك، حتى تصبحَ أنت الرقمَ الأولَ والأهمَّ في حياتِهِ، لتكونَ أنتَ المخدومُ في لَيْلِهِ ونهارِهِ.

 

فكرُه معك، وقلبه يدور حولك، وسؤاله لا يبرح عنك.

 

يفرح حين يرى ابتسامتك، ويغتم حين تجاورك أسقامك.

 

راحتُهُ أنْ يضمَّكَ إلى صدْرِهِ، يَخافُ عليك من اللَّمْسَة، ويُشْفِقُ عليكَ من الهمسة، فكم مِنْ ليلةٍ سَهَرَها من أجلِ راحتِكَ، وكم من دمعاتٍ رقرقها خوفاً على صحتك، ولسان حاله:

 

فَنَمْ وَلَدِي بِمَهْدِكَ فِي هَنَاءٍ *** وَدَاعِبْ طَيْفَ أَحْلامِ الرُّقَادِ

وَإِنْ حَلَّ الظَّلامُ بِجَانِحَيْهِ *** وَأَرْخَى ظِلَّهُ فِي كُلِّ وَادِ

وَنَامَ الْخَلْقُ فِي أَمْنٍ جَمِيعًا *** فَقَلْبِي سَاهِرٌ عِنْدَ الْمِهَادِ

 

وما إن تبدأَ خطواتِك الصغيرةِ بالثَّبات إلا وقد رُسِمَتْ لوحة جميلة على محياه.

 

يرمقك بنظراته، ويحيطك بعنايته، أوامرك مطاعة، وطلباتك مجابة، يفرح لفرحك، ويغيض لغضبك، ويغتم لحزنك، فكم من دموع لك أزالها؟ وكم من هموم عن صدرك أزاحها؟

 

حتى إذا صَلُبَ عودُك، وزَهَرَ شبابُك، كنت أنت رمز فخره، وعنوان مباهاته، يُسَرُّ بنجاحِكَ، ويَسْعَدُ برؤيةِ آثارِك.

 

أَتَتْ سنوات تربيتك، فعانى ما عانى في تربيتك، فكم من أيام عاشها ألماً بسبب عنادِكَ ومناكَفَتِكَ، وكم من حسرات تجرَّعها كمداً من طيشك ومراهقتك.

 

يخاف عليك محبة بك، ويعاتبك مودة لك، ويؤدبك تقويماً وشفقة عليك.

 

يَعْرَقُ لاحتياجاتك وبناء حياة كريمة لك، ويَكْدَحُ لإسعادك ومستقبلك.

 

كم من دعوات في الأسحار، ابتهل فيها للملك الجبار، وأنت لا تدري.

 

وكم من لوعات دامت، ودموع على المحاجر تجمَّعت، من أجلك أنت وأنت لا تدري.

 

أمنيتُه أن يرفرف التوفيق والنجاح في سمائك، وغايته أن ترافق السعادة في يومك وحياتك.

 

يُعْطيكَ كلَّ شيء ولا يَطلبُ منك أجراً، ويَبْذُلُ لك ما في وسعه ولا ينتظر منك شكراً.

 

أحسن إليك إحسانًا لا تَراه، وقدَّم إليك معروفًا لن تُجازاه.

 

أَطِعِ الإلَهَ كَمَا أَمَرْ *** وَامْلأْ فُؤادَكَ بِالحَذَرْ

وَأَطِعْ أَبَاكَ فَإِنَّهُ *** رَبَّاكَ فِي عَهْدِ الصِّغَرْ

وَاخْضَعْ لأُمِّكَ وَارْضِهَا *** فَعُقُوقُهَا إِحْدَى الكُبَرْ

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23-23].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا إخوة الإيمان: البرُّ بالأب يتأكَّد يوم يتأكد إذا تقضَّى شبابه، وعلا مشيبه، ورقَّ عظمه، واحدودب ظهره، وارتعشت أطرافه، وزارته أسقامه، في هذه الحال من العمر لا ينتظر صاحب المعروف والجميل من ولده إلا قلبًا رحيمًا، ولسانًا رقيقًا، ويدًا حانيةً.

 

يا أيها البارُّ بأبيه: تذكَّر قول المولى -جل جلاله-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)[الإسراء: 24] فتخلَّق بالذل بين يديه بقولك وفعلك، لا تَدْعُه باسمه؛ بل ناده بما يحب، لا تجلس قبله، ولا تمشِ أمامه، قابله بوجه طلق وابتسامة وبشاشة، وتشرف بخدمته، وتحسس حاجاته.

 

إن طلب فبادر أمره، وإن سقم فقُمْ عند رأسه، أَبْهِجْ خاطره بكثرة الدعاء له، لا تفتأ أن تدخل السرور على قلبه في كل ما يحب؛ قدم لها الهدية، وزفَّ إليها البشائر، واستشعر وأنت تقبل وتعطف على أبنائك عطف أبيك وحنانه بك، وردِّد في صبحٍ ومساءٍ: (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24].

 

أيها البارُّ بوالده: إن كان تاج رأسك ممن قضَى نَحْبَه ومضى إلى ربه؛ فأكثر من الدعاء والاستغفار له، وجدِّد برَّك به بكثرة الصدقة عنه، وصلة أقاربك من جهته، جاء رجلٌ إلى النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله هل بقي من برِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهُما به بعد موتِهما؟" قال: "نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهِما من بعدهما، وصلة الرَّحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما".

 

وإن كان والدك على قيد الحياة، فهنيئاً لك الحسنات الدارات، هنيئاً لمن أصبح وأمسى وهو يتقلب في رضا ربِّ الأرض والسموات.

 

وخاتمة الوصايا لمن كان له والد: أن يحسن صحبته، ويستطلب رضاه ودعوته، وليرفق به، وليتلطف معه، وليكثر من تقبيل يديه، ولزوم قدميه، فلطالما تعبت هاتان اليدين من أجل تربيتك وإسعادك، ولطالما تشققت تلك الأقدام الضعيفة من أجل الضرب في الأرض من أجل لقمة عيشك أنت ومن معك.

 

وأخيراً: تذكر ليلة تصبح فيها بلا أب مشفق، يدعوا لك، ويسأل عنك، تذكر يومًا تحثو فيه التراب على صاحب القلب الكبير، والوجه النضير.

 

تذكر ساعةً تدخل فيها المنزل، فلا تسمع صوته ولا تبصر رسمه.

 

فاستغفر ربك -أخي المقصِّر-، وعاهد نفسك من هذا المكان على استدراك ما فات، بالبر والإحسان فيما هو آت، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

 

المرفقات

الأب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات