الاحتجاج بالأكثرية

سليمان السلامة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الاحتجاج بكثرة من يفعل المعصية 2/لا تلازم بين الحق والكثرة 3/تحذير القرآن من اتباع الكثرة 4/أحكام الشرع ليست للتصويت برأي الأغلبية 4/الزم الحق ولو قلَّ أهله.

اقتباس

لا تكن البوصلة الموجهة لنا هي كثرة العدد، بل ليكن مرادنا الحق مما ورد في الكتاب والسنة وإجماع علماء الملة, فلا تشك -يا عبد الله- في الحق ولا تخدعنك مظاهر الكثرة, وهذه الكثرة لن تدفع عنك عذاب الله حين تقع الملامة, ولا تنفع الندامة في يوم القيامة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له القدوس السلام, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله خير الأنام, عليه الصلاة والسلام, أما بعد:

 

فيا كرام: من أراد الفلاح فعليه بتقوى الله, والاستعداد للدار الآخرة, فيدُ المنايا تتخطف الناس؛ آجال تتصرم، وأعمار تنقضي, وصحف تطوى، ولات ساعة مندم, ومن ترك التقوى حصل له الخسران وفاتته الأرباح.

 

أيها الناس: مما يزين به الباطل والمعاصي أن يقال: "إن أكثر الناس يفعلون تلكم المعصية"، فحينما يقال لفلان من الناس لمَ تفعل هذه المعصية؟, يقول: "لست وحدي كثيرون يفعلون ذلك"!.

 

فيا عباد الله: هل الاحتجاج بكثرة من يفعل المعصية هل هي حجة صحيحة؟ وهل هي مبرر لاقتراف ما حرم الله؟.

 

إنه لا ملازمة بين الحق والكثرة, وبين الصواب والكثرة، بل ذم الكثرة في القرآن أكثر من مدحها, وقد ورد ذلك في عدد كبير من الآيات؛ منها قول الله -تعالى-: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[البقرة: 243], (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)[هود: 17], (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)[الإسراء: 89], (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)[الأعراف: 102], (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الأعراف: 187], (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[العنكبوت: 63], وربنا يحذرنا في القرآن من اتباع أكثر الناس؛ يقول الله -تعالى-: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)[الأنعام: 116].

 

عباد الله: النفوس ميالة إلى الكثرة من جهة العدد, ونفوسنا لا تحب القلة؛ ولذا حذرنا ربنا من الاغترار بالكثرة، تأملوا -رعاكم الله- قول الله -جل في علاه-: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)[المائدة: 100]؛ نعم, قد يعجب أقوام وينبهرون ويتملكهم الإعجاب بكثرة أصحاب الباطل؛ فينساقون وراءهم, لكن انتبه -يا عبد الله- لا تغتر, لا يستهوينك باطلهم، قال الفضيل بن عياض- رحمه الله-: "الزم طريق الهدى ولا يضرك قله السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين," وقال الطبري- رحمه الله-:  "فلا تعجبن من كثرة من يعصي الله فيمهله ولا يعاجله بالعقوبة؛ فإن العقبى الصالحة لأهل طاعة الله".

 

عباد الله: الكثرة ليست ميزانا يوزن به الحق والباطل؛ روى البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ"؛ فيا ترى هل هؤلاء الأنبياء -عليهم السلام- ليسوا على حق لأن أتباعهم قلة، وقلة جدا، ويوجد من لا تابع له؟!.

 

معاذ الله! أن يقال إنهم ليسوا على حق؛ فهم الصادقون الصالحون الناصحون، لكن حينما تشتد غربة الدين يقل الصالحون، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ", فَقِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُنَاسٌ صَالِحُونَ، فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ"(رواه أحمد وصححه الألباني).

 

والله -جل جلاله- ذرأ وخلق لجهنم كثيرا من الإنس والجن، تأملوا -رعاكم الله- هذا المشهد والموقف من مواقف يوم القيامة، روى  البخاري أن الله -عز وجل- يقول لآدم يوم القيامة: "أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ؟ فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ", وفي رواية عند مسلم:  "يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يَا آدَمُ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ, قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ".

 

أيها المؤمنون:  كثرة الشيء وانتشاره لا تعني صوابه؛ فالكثرة لا تحول الحرام حلالا، ولا تحول المعصية طاعة, ولا تحول المنكر معروفا!.

 

ما رأيكم لو قام إنسان بعمل استفتاء وتصويت على حكم من أحكام الإسلام الثابتة بنص القرآن والسنة, وقال: "سنصوت ونأخذ آراء الناس"، فإن كان الأكثرية لا يؤيدون الحكم ألغيناه، وإن كان الأكثرية يؤيدون الحكم أبقيناه، مثلا لو قال لنا: "ما رأيك هل تؤيد وجوب إخراج الزكاة أم لا تؤيد؟", فلو افترض أن العدد الكبير يؤيد إلغاء الزكاة؛ هل نلغيها لأن هذا رأي الأكثرية؟!.

 

يا مسلمون: إن أحكام شريعة الإسلام الثابتة بنص القرآن والسنة وإجماع العلماء, لا يجوز عرضها للنقاش والتصويت وأخذ آراء الناس فيها، فليست أحكام الشريعة كلأً مباحا، وليس بعدد الأصوات يعرف الصواب من الخطأ، والمسلم ليس له الاختيار حسب الرغبة والمزاج، قال الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36], وقال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7].

 

أيها الناس: لا تكن البوصلة الموجهة لنا هي كثرة العدد، بل ليكن مرادنا الحق مما ورد في الكتاب والسنة وإجماع علماء الملة, فلا تشك -يا عبد الله- في الحق ولا تخدعنك مظاهر الكثرة, وهذه الكثرة لن تدفع عنك عذاب الله حين تقع الملامة, ولا تنفع الندامة في يوم القيامة.

 

ولا تستوحش -يا عبد الله- من قلة السالكين, اعمر قلبك بحب أحكام الإسلام واعمل بها, واحذر من كراهة الحق مهما قل أهله، فتلك صفة أهل النار, قال الله -تعالى- مخاطبا أهل النار وموبخا لهم: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)[الزخرف: 78].

 

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل ونشقى.

 

 

المرفقات

الاحتجاج بالأكثرية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات