أسباب عذاب القبر، وما ينجي منه

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/إثبات عذاب القبر 2/أدلة ثبوت عذاب القبر 3/الأسباب الموجبة لعذاب القبر 4/أعمال صالحة منجية من عذاب القبر.

اقتباس

فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها. تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالاً...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

أما بعد فيا أيها الناس: إن من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات عذاب القبر، وأن الناس يُفتَنون في قبورهم والعياذ بالله، قال ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الفتاوى (4/262): "وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ما بين الموت إلى يوم القيامة: هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع". اهـ.

 

ودليل ذلك من الكتاب والسنة، فقد قال -تعالى- عن آل فرعون (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر:46]، وأخرج في الصحيحين من حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ العبدَ إذا وُضِعَ في قبرِه وتَوَلّى عنهُ أصحابُه؛ -حتى أنَّه يَسمعُ قَرْعَ نِعالِهِمْ- أتاُه مَلَكانِ، فيُقعِدانِه فيَقولانِ له: ما كنتَ تَقولُ في هذا الرجلِ؟ -لِمُحمدٍ-؛ فأمّا المُؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنَّه عبدُ اللهِ ورَسولِهِ، فيُقالُ: انْظُرْ إلى مَقعدِكَ من النارِ قدْ أبْدَلَكَ اللهُ به مَقعدًا من الجنةِ، فيَراهُما جمِيعًا ويُفسحُ لهُ في قبرِهِ سَبعونَ ذِراعًا، ويَملأُ عليه خُضْرًا إلى يومِ يُبَعثُونَ. وأمّا الكافِرُ أو المنافقُ فيُقالُ له ما كُنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ: لا أدْرِي، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيُقال له: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ثُم يُضربُ بِمطراقٍ من حَديدٍ ضَربةً بين أُذُنَيهِ، فيَصِيحُ صَيحةً يَسمَعُها مَن يلِيهِ غيرُ الثَّقلَينِ، ويُضيَّقُ عليه قَبرُه حتى تَخْتَلِفَ أضْلاعُه".

 

والأدلة على ذلك كثيرة في السنة، وسنمر سريعًا -بإذن الله- على الأسباب الموجبة لعذاب القبر لنتجنبها، لنسلم من عذاب القبر، قال ابن القيم -رحمه الله- مُعدِّدًا الأسباب الموجبة لعذاب القبر: "فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجلين اللذين رآهما يُعذبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول؛ فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقاً، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان أعظم عذاباً، كما أن في ترك الصلاة التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهو أشد عذاباً. وأخبر -عليه الصلاة والسلام- كما في رواية: أن أحد هذين اللذين يعذبان كان يأكل لحوم الناس، فهو مغتاب، وذلك نَمَّام. وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أن رجلاً ضُرِبَ في قبره سوطاً فامتلأ القبر عليه نار؛ لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره. (الحديث رواه الطحاوي بسند حسن).

 

وأخبر -صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري- عن تعذيب من يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وعن تعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به في النهار، وعن تعذيب الزناة والزواني، وعن تعذيب آكل الربا، أخبر عنهم كما شاهدهم في البرزخ. وفي حديث آخر أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة، وعن الذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، وعن الذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تُقرَض شفاهم بمقارض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.

 

وجاء في حديث رواه أبو سعيد عنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر أرباب بعض الجرائم وعقوباتهم: فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة آل فرعون، وهم أكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم، وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم، وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وهم الذين يمزقون أعراض الناس.

 

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صاحب الشَّمْلَة التي غلَّها من المغنم، أنها تشتعل عليه ناراً في قبره، هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق فيه؟!

 

فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن، والفم واللسان، والبطن والفرج، واليد والرِّجل، والبدن كله؛ فالنمام، والكذاب، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف المحصن، والموضع في الفتنة، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله ورسوله ما لا علم له به، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة وغيرها، وأكل مال أخيه المسلم بغير حق، أو مال المعاهد، وشارب المسكر، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر.

 

وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمُحَلِّل والمُحَلَّل له، والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرع الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرّم الله، والملحد في حرم الله، والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنائحة والمستمع إليها، ونواحو جهنم، وهم المغنون الغناء الذي حرمه الله ورسوله، والمستمع إليهم والذين يبنون المساجد على القبور، ويوقدون عليها القناديل والسُرج، والمطففون في استيفاء مالهم إذا أخذوه، وهضم ما عليهم إذا بذلوه.

 

والجبارون، والمتكبرون، والمراءون، والهمازون واللمازون، والطاعنون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته بالله وذكرته به فلم يرعوِ ولم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكفَّ عمّا هو فيه، والذي يُهدى بكلام الله ورسوله فلا يهتدي، ولا يرفع به رأساً، فإذا بلغه عما يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عضّ عليه بالنواجذ ولم يخالفه.

 

والذي يقرأ القرآن فلا يؤثر فيه، وربما اشتغل به، فإذا استمع قرآن الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب، وودّ أن المغني لا يسكت، والذي يحلف بالله ويكذب، فإذا حلف بالولي أو برأس شيخه أو أبيه أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هُدِّد وعُوقب، والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين أقرانه، وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان الذي تركه الخلق اتّقاء شره وفحشه.

 

والذي يؤخّر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظه ونظره ولا من لفظه ولا أكله ولا خطوه، ولا يبالي بما حصّل من المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم، ولا يرحم الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي للعالمين، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه.

 

فكل هؤلاء وأمثالهم يُعذَّبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغرها وكبرها. ما لم يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم بتوبة أو رحمة منه -تعالى-. ولما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.

 

تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالاً ونادت: يا عُمار الدنيا، لقد عمرتم داراً موشكة بكم زوالاً، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً، عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكانها، وخربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق، ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبر، رياض من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار". انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-.

 

اللهم أعذنا من عذاب القبر وأسبابه يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيا أيها الناس: بعد أن سمعنا الأسباب الموجبة لعذاب القبر، لنعلم أن هناك أسبابًا منجية من عذاب القبر: فتجنُّب الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، تنجّي من عذاب القبر، وكذلك فإن من أنفع أسباب تجنُّب عذاب القبر: أن يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ.

 

ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظَ استيقظ مستقبلاً للعمل مسروراً بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقَّب ذلك بذكر الله -تعالى- واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

عباد الله: لقد جعل الله عذاب القبر رادعاً للبشر من الانزلاق في المعاصي، وأن القبر أول منازل الآخرة، فقد روى عند الترمذي وغيره من حديث هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانٍ قَالَ: "كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدَّ مِنْهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا إِلا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ".

 

ولهذا حثَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على زيارة القبور، وأخبر أنها تُذَكِّر بالآخرة، بمعنى أنها تردع عن المعاصي، وتُزَهِّد في الدنيا.

 

اللهم أعذنا من عذاب القبر وأسبابه يا رب العالمين.

اللهم وفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك...

 

 

المرفقات

أسباب عذاب القبر، وما ينجي منه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات