الوفاء

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/منزلة خلق الوفاء 2/قلة الوفاء في الناس في هذا الزمان 3/الوفاء صفة من صفات الله ورسله والمؤمنين 4/بعض صور الوفاء 5/سؤال العبد عن وفائه يوم القيامة

اقتباس

خطبتنا اليوم -بإذن الله تعالى- ستكون عن خلق من أخلاق الإسلام الراقية، وصفة من صفات النفوس الأبيّة؛ خلق إذا انتشر بين الناس ملأ حياتهم صفاء ونقاء، وظللهم بروح المودة والإخاء والمحبة والألفة؛ إنه خلق الوفاء. ما أجمله من خلق! وما أرقها من خصلة! وما أسماها من صفة! الوفاء.

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: فيا أيها الناس: خطبتنا اليوم -بإذن الله تعالى- ستكون عن خلق من أخلاق الإسلام الراقية، وصفة من صفات النفوس الأبيّة؛ خلق إذا انتشر بين الناس ملأ حياتهم صفاء ونقاء، وظللهم بروح المودة والإخاء والمحبة والألفة؛ إنه  خلق الوفاء.

 

ما أجمله من خلق! وما أرقها من خصلة! وما أسماها من صفة!

 

الوفاء خلق جميل، وكنز ثمين.

 

الوفاءُ ضد الغَدْر، يقال: وَفَى بعهده وأَوْفَى، إذا أتمه ولم ينقضه.

 

والوفاء ضد الكذب، فنقض العهد كذب بالفعل، كما أن الوفاء صدق بالفعل.

 

فالوفاء حفظ للعهود والوعود، وأداء للأمانات، واعتراف بالجميل، وصيانة للمودة والمحبة، قال الأصمعي: "إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه"، وعن عوف الكلبي أنّه قال: "آفة المروءة خلف الموعد".

 

عباد الله: الوفاء خلق خلا منه الكثير للأسف، ولقلّة وجود ذلك في النّاس قال تعالى: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ)[الأعراف: 103]، وقد ضرب به المثل في العزّة فقالت العرب: "هو أعزّ من الوفاء".

 

أمر الله -تعالى- به، فقال سبحانه: (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[الأنعام: 152].

 

الوفاء من صفات الرب -جل ثناؤه-: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)[التوبة: 111].

 

وهو من صفات المرسلين: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى)[النجم: 36-41]، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)[مريم: 54].

 

أخرج البخاري في صحيحه من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ -أي النبي صلى الله عليه وسلم- فَزَعَمْتَ: "أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ" قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ".

 

الوفاء من سمات المؤمنين المتقين: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة: 177].

 

معاشر المؤمنين: إن الوفاء مطلوب من المسلم في صور شتى، فأولها: الوفاء مع الله: فأعظم الأدب هو الأدب مع الله، وأعظم الوفاء ما كان مع الله، والوفاء مع الله يكون بطاعته، وعبادته، وتوحيده، فدخولك في الإسلام دخلت في عقد ومعاهدة، وإن شئت قل مبايعة مع الله لها شروط وأحكام، فمن وفى بها دخل الجنة.

فإنَّ الله قد أخَذَ على آدمَ وذريَّتِه أنْ يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا؛ قال الله -جل وعلا- في كتابه الكريم: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[الأعراف: 172].

 

فمن أطاع ربه والتزم بشرعه، وامتثل أمره واجتنب نهيه ووقف عند حدوده كان من أهل الوفاء مع الله -سبحانه- الذي أوجده من العدم، ورباه بالنعم، وكرّمه وفضله، وأمره أن يعبده وحده دون سواه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23].

 

ولنعرف قلة الموفين بالعهد مع الله، تلفت حولك ترى المنكرات والموبقات من الكثير على العلن، فأين الوفاء مع الله؟ أين الوفاء مع الله ممن فرط في طاعة الله، فضيع فرائضه واعتدى على حدوده؟ أين الوفاء مع الله؟ ممن انشغل بدنياه عن عبادة خالقه ومولاه؟

 

اللهم اجعلنا من الذين إذا عاهدوا وفوا، وإذا قالوا صدقوا.

أقول قولي...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولا عن الوفاء ذلك الخلق النبيل، بعد أن قلنا أن خير الوفاء ما كان مع الله، ومن الوفاء مع الله الوفاء مع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي بذل كل وسعه وتحمل كل عناء من أجل أن يبلغ للعالمين رسالته ، ما من خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه، بين لنا الطريق، وأنار لنا السبيل، وتركنا على المحجة البيضاء الناصعة الواضحة لا يزيغ عنها إلا هالك، قال جل ذكره: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128].

فأين الوفاء منا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أين نحن من سنته وهديه وشريعته؟

 

فالوفاء مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون باتباع سنته، والتخلق بأخلاقه، والاقتداء به، والدفاع عن دينه وعقيدته.

 

ولقد ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة في حسن الوفاء لرسول الله.

 

ومن صور الوفاء: الوفاء مع الوالدين:

للوالدين فضل عظيم، وحق كبير على أولادهم، إذ لا يخفى على أحد ما يبذله الوالدان من غال ونفيس، وما يتحملانه من نصب وتعب في سبيل نشأة أولادهم وتربيتهم ورعايتهم، فمن حقهم على الأولاد: حسن الوفاء بالطاعة والتواضع والإحسان: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورً)[الإسراء: 23-25].

 

ومن صور الوفاء: الوفاء بين الزوجين "بين الزوج وزوجته".

الوفاء مع الزوجة: وفاء الزوج لزوجته يكون باحترامها وتقديرها، والوفاء بما اشترطه على نفسه لها، أخرج  البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ".

 

وكذا وفاء الزوجة مع الزوج الذي جعل الله له حقا عظيما على المرأة، فلا بد أن يعطى الرجل حقه من الاحترام، وأن لا تنزع منه القوامة قهرا، وجعل الله بين الزوجين حقوقا لكل منهما على الآخر تضمن بإذن الله استمرار الحياة الزوجية على أحسن حال.

 

ومن صور الوفاء: الوفاء مع الناس كافة: ما أشد حاجة الناس إلى الوفاء، في زمن فشا فيه الجحود والنكران في قلوبِ كثيرٍ مِن البشَر، فلا الجميل عندَهم عاد يُذكَر، ولا المعروف لديهم صار يُحفَظ.

 

تجد البعض من الخلق يأخذون ولا يعطون، لا يسمحون بضياع نزر يسير من حقوقهم، ولا يردون حقوق الناس إلا بعناء، ولو ردوه تجدهم لا يُفكِّروا في ردِّ الجميل، بل يردوه وكأنهم هم أهل الفضل والمنة، وكأنَّهم ما خُلِقوا إلاَّ ليأخذوا لا ليُعطوا، وما وُجِدوا إلا ليَستغلُّوا لا ليَمنحوا، وما علموا أنَّ قيمةَ الحياةِ الحقيقيَّة تكمُن في البذل والعطاء من المال والعلم والوقت والجاه.

 

فلو نظرت إلى واقع الأمة اليوم ستجد كم من الناس مَن يتكلَّم، وكم من الناس مَن يَعِد، وكم من عهودٍ مسموعة ومرئيَّة ومنقولة! ولكن أين صدق الوعود؟! وأين الوفاء بالعهود؟!

 

قال أحد الشعراء:

ذَهَبَ الْوَفَاءُ ذَهَابَ أَمْسِ الذَّاهِب *** فَالنَّاسُ بَيْنَ مُخَاتِلٍ وَمُوَارِبِ

يَغْشَوْن بينهم المودة والصفا *** وقلوبهم محشوة بعقارب

 

فليعلم العبد أنه سيسأل عن وفائه يوم القيامة، فقد قال عز وجل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا[الإسراء: 34] فماذا يكون جواب العبد إذا سئل عن وعوده وعهوده وعقوده التي أمره الله -تعالى- بالوفاء بها وأدائها، فقال سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ[النحل: 91]، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة: 1] ماذا يكون جوابه وقد أخلف وعده وضيع عهده وخان أمانته؟

 

اللهم أعنا على الوفاء بالأمانة التي أنيطت بأعناقنا يا رب العالمين.

 

المرفقات

الوفاء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات